الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.
إنَّ من أبرزِ الصِّفاتِ الًـخُلُـقـيَّـةِ التي أمَرَنا الـشَّرعُ بالتحلِّي بها ، و يحتاجُها الناسُ لضمانِ حياةٍ إنسانيَّةٍ كريمةٍ _ صفةَ الرحمةِ و التراحُمِ ؛ لِما لها مِن أثرٍ بعيدِ المدى في تبادلِ الشُّعورِ بالمحبَّةِ و تعميقِ أواصرِ المودَّةِ ، ولِما لِِغيابِها من أثرٍ سيِّئٍ في تعريض حياةِ الناسِ إلى التَّباعُدِ و التفكُّكِ الأُسَريِّ و الاجتماعيِّ ، و إيقاظِ نوازعِ الشَّرِّ و إشعالِ الحروبِ ، و التسلُّطِ على البلادِ و العبادِ.
و يكفينا دلالةً على عَظمةِ هذه الصِّفةِ إنَّ اللَّهَ تعالى تَسمَّى بها ، مرَّةً باسمِ الرحمنِ ، و مرَّةً باسمِ الرَّحيمِ ؛ و أنَّ اسمَ (( الرَّحم )) التي هي علاقةُ القُربى و مناطُ التواصلِ بينَ بني آدمَ ، مُشتقٌّ من صِفة الرَّحمةِ التي اتصف بها اللَّه تعالى .
و قد وردَت صفةُ الرَّحمةِ و مشتقَّاتُها في القُرآن الكريمِ تسعًا و تسعينَ و ميةَ مرةٍ ، و بمعانٍ كثيرةٍ منها : أرزاقُ المخلوقاتِ ، و الغَيثُ المُرسَلُ من السَّماءِ ، و العافيةُ من الابتلاءِ و الاختيارِ :
{ إِنْ أَرَادَنِىَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَٰشِفَٰتُ ضُرِّهِۦٓ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَٰتُ رَحْمَتِهِۦ قُلْ حَسْبِىَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ }{ الزمر : ٣٨ } .
و مِن معانيها الأُلفةُ و المحبَّةُ ، قالَ تعالى في شأنِ أتباعِ سيِّدِنا عـيـسَـى _ عليه السلامُ _ { وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً } { الحديد : ٢٧ } ، و قد وصف اللَّهُ بها التوارةَ المنزَّلةَ على سيِّدِنا مُـوسـى _ عليه السَّلامُ_ في قوله تعالى : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ } { هود : ١٧ } كما وَصفَ بها القرآن في قولِهِ تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا }{ الإسراء : ٨٢ } .
و الرَّحمةُ في بني آدمَ هيَ إرادةُ إيصالِ الخيرِ و هي حالةٌ وجدانيةٌ تَعرضُ للإنسانِ الرَّقيقِ القلبِ ، و هي مبدأُ الرَّأفةِ بالآخَرِ و الإحسانِ إليهِ ؛ أما الرَّحمةُ التي يتَّصِفُ بها اللَّهُ سُبحانه فليسَتْ مِن هذا القَبيلِ ، إنَّها مِن قَبيلِ الإحسانِ المجرَّدِ عنِ الأعراضِ الماديَّة الحسيَّة التي تلازمُ الرحمةُ الآدميَّةَ مِنَ الشُّعورِ بالرأفةِ و التألُّمِ ، و محاولةِ دفعِ الألمِ عمَّن يرحمُهُ ، و نجاحِه أو إخفاقِه في إزاحتِه.
نـعـم ! رحمةُ اللَّه بعبادِه هي مِن طَورٍ آخَرَ مختلفٍ عن طَورِ رحمةِ بني آدمَ بعضِهم لبعضٍ ، و ليسَ فيها من شَبَهٍ بالرَّحمةِ الآدميَّةِ غيرُ الاشتراكِ في الاسْمِ ؛ فهي أوسعُ و أشملُ ، تسعُ الخلقَ كلهم في الدُّنيا و الآخِرةِ ، وقد كتبَها اللَّهُ على نفسِهِ وأخبرَ بذلكَ في كتابِهِ الكريمِ ، فقال : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } و قال : { وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ } ، أي : وسِعَت في الدُّنيا كلَّ بَرِّ و فاجرٍ ، و قال في الحديث القدسي : (( إنَّ رحمتي تغلِبُ غضَبي ))…*(١) ؛ و معنى غَلَبَة الرَّحمةِ أو سَبقِها : أن رِفْقَه تعالى بعباده ، و إنعامَه عليهم و لُطفه بهم أكثرُ كثيرًا من انتقامِه ، فاللَّهُ أرحمُ بعبادِه من الوالدةِ بولدها و قد رغَّب اللَّهُ عبادَه في الرَّحمة و التراحمِ بجميع صُوره و أشكالِه ، و حذَّر من الجفاءِ و الغِلظة و قسوة القلوب ، وتوعَّد غلاظَ الأكباد بالحِرمان من رحمته ، يقول النبي ﷺ : (( مَـنْ لـا يَـرْحَـم لـا يُـرْحَـمُ )) …*(٢) ، أي : لا يستحق رحمةَ اللَّه تعالى إلا الراحمون الموفَّقون ؛ كما وسَّع من مجالاتِ تداولِها حتى شَمِلت عوالمَ المخلوقاتِ كلَّها ، وتراكَم في تُراثِنا من هذه التعاليمِ ما يَستحقُّ المباهاةَ و الفخارَ ، فاللَّهُ الذي يؤمِـنُ به المسلمونَ هو :( الرَّحمن الرحيم )) ، و رسولُهم الذي يتبعونَه هو ( الرؤوفُ الرحيمُ ) ، و العبادُ على اختلافِ ألوانِهم و عقائدِهم و مِـلَـلِـهـم و أديانِهم إخوةٌ في فلسفةِ الإسلامِ ، و أُخوَّتُهم ليست _دَعـوى_ يُحتاجُ في استنباطِها إلى تلمُّسِ الأدلةِ و البراهين ، بل هي شهادةٌ يوميةٌ ، كان رسولُ الإسلامِ ﷺ يردِّدُها عَقِبَ صلواتِه اليوميةِ و يقولُ فيها : (( أنـا شـهـيـدٌ أنَّ الـعِـبـادَ كـلَّـهـم إِخـوةٌ )) …*(٣).
وحَقُّ السَّلام مكفولٌ للعِبادِ كُلَّهم في شرائعِ هذا الدينِ ، و الإسلامٌ لا يسعى للحربِ و لا لإراقةِ الدِّماء ما وَسِعَه ذلك ، و هو يعتصمُ بمبدأ (( السَّلامِ )) إلى آخِـر مـدًى ممكن : { ۞ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا }{ الأنفال : ٦١ }.
(( لا تَـتـَمَـنَّـوا لِـقـاءَ الـعَـدُوِّ و سَـلُـوا اللَّهَ الـعـافـيـةَ ))…*(٤).
و المسلمون لا يُقاتِلون إلا مَن يُقاتِلُهم : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }{ البقرة : ١٩٠ } ، و هذه عدالةٌ مطلقةٌ لا تُعرفُ لغيرِ المسلمينَ في أحكامِ الحروبِ و مواقعِ القتالِ ؛ وأنْ وَقَعَ قتالٌ في الإسلامِ فهو لِدَفع عدوٍّ مقاتلٍ ، وصَدٍّ لهجُومِه ، وصَوْلتِه على المسلمين ؛ و دفاعُ المسلمِ أو قتالُه لعدوِّه مضبوطٌ بالعدلِ و عدمِ التجاوزِ ؛ فإنْ تجاوَز المسلِمُ في قتالِه كان عُدوانًا يكرَهُه اللَّهُ ، ولو كان ذلك مع الكافرين.
و إذا فُرِضَ القتالُ على المسلمينَ فلا يَحِلُّ لهم أن يَقتلوا الرُّهبانَ ، و لا الصبيانَ ، و لا النِّساءَ ، و لا الفلاحينَ ، و لا العجزةَ و مكفوفي البَصرِ في جيش العدوِّ ، بل لا يـحـلُّ لـهـم قَـتـلُ الـحـيـوانـاتِ في جـيـشِ الأعداءِ إلَّا لـضـرورةِ الأكـلِ .
وقد أحـسـَن أديبُ العربيَّةِ في العَصرِ الحديثِ : مصطفى صادق الرَّافعـي _رحمه اللّٰهُ_ في قولِه : (( إنَّ لـسـيـوفِ الـمـسـلـمـيـنَ أخـلاقًـا )) .
و لعلَّكم تتساءَلونَ عن مُناسبةِ هذا الكلامِ لموضوع اليوم ، و الإجابةُ ظاهرةٌ : إنَّها الرَّحمةُ التي تجسَّدت بتمامِها في نبيِّ الإسلام ، و أعلَت صوتَه في العالمينَ : (( إنَّـمـا أنـا رحـمـةٌ مـهـداةٌ ))…*(٥) ،
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}{ الأنبياء : ١٠٧ }.
إنـهـا الرحمـةُ بالإنسانِ و الرحمةُ بالحيوانِ : (( إذا ذبـحـتـم فـأحـسـنـوا الـذِّبـحـةَ ، و إذا قـتـلـتـم فـأحْـسِـنـوا الـقِـتـلـةَ )) …*(٦).
إنها الرحمةُ التي تتساوى فيها الدماءُ ؛ فيُقتلُ الجمعُ بالواحدِ إذا اشتركوا في إراقةِ دمِـه ، جاء في (( الـمـوطَّـأ )) …*(٧) : أن عـمـر بنَ الخطابِ _رضي اللّٰه عنه_ قتل نفرًا - خـمـسـةً أو سـبـعـة - بـرجـلٍ واحـدٍ ، قـتـلُـوه في الـيـمـن قَـتـلَ غِـيـلـةٍ ، أي : خـادَعـوه و أَمَّـنـوه ثـمَّ قـتـلـوه ، قال عـمـرُ : (( لـو تَـمـالَأَ عـلـيـه أَهـلُ صـنـعـاءَ لـقَـتـلـتُـهـم بـه ))._______________
و هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼
إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼
__________
*(١) أجرجه البخاريُّ في ( صحيحه )( ٣١٩٤ ) ، و مسلم ( صحيحه )( ٢٧٥١ ) من حديث أبي هريرة -رضي اللّٰه عنه. _________________________________________
*(٢) أخرجه البخاريُّ في ( صحيحه)( ٥٩٩٧ ) ، و مسلم في ( صحيحه )( ٢٣١٨ ) من حديث أبي هريرة رضي اللّٰه عنه.
________________________________________
*(٣) جزء من حديث أخرجه أبو داود في ( سننه )( ١٥٠٨ ) من حديث زيد ابن أرقم رضي اللّٰه عنه.
________________________________________
*(٤) جزء من حديث أخرجه البخاريُّ في ( صحيحه )( ٢٩٦٦ ) ، و مسلم في ( صحيحه )( ١٧٤٢ ) من حديث عبداللَّه بن أبي أوفَى رضي اللّٰه عنهما.
______________________________________
*(٥) أخرجه البزَّار في ( مسنده )( ٩٢٠٥ ) ، و الطَّبرانيُّ في ( المعجم الأوسط )( ٢٩٨١ ) ، و الحاكم في ( المستدرك ) : ٣٥/١ ، من حديث أبي هريرة رضي اللّٰه عنه ؛ و قال الحاكم : (( حديث صحيح ، على شرط البخاريِّ و مسلم ))
_______________________________________
*(٦) أخرجه بنحوه مسلم في ( صحيحه ) ( ١٩٥٥ ) من حديث شدَّاد بن أوس رضي اللّٰه عنه.
________________________________
*(٧) برواية يحيى بن يحيى ا
للَّيثيِّ ( ٢٥٥٢ ).
________