المتابعون

الاثنين، 26 يونيو 2023

الـرَّحـمـةُ

 



الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

إنَّ من أبرزِ الصِّفاتِ الًـخُلُـقـيَّـةِ التي أمَرَنا الـشَّرعُ بالتحلِّي بها ، و يحتاجُها الناسُ لضمانِ حياةٍ إنسانيَّةٍ كريمةٍ _ صفةَ الرحمةِ و التراحُمِ ؛ لِما لها مِن أثرٍ بعيدِ المدى في تبادلِ الشُّعورِ بالمحبَّةِ و تعميقِ أواصرِ المودَّةِ ، ولِما لِِغيابِها من أثرٍ سيِّئٍ في تعريض حياةِ الناسِ إلى التَّباعُدِ و التفكُّكِ الأُسَريِّ و الاجتماعيِّ ، و إيقاظِ نوازعِ الشَّرِّ و إشعالِ الحروبِ ، و التسلُّطِ على البلادِ و العبادِ.

و يكفينا دلالةً على عَظمةِ هذه الصِّفةِ إنَّ اللَّهَ تعالى تَسمَّى بها ، مرَّةً باسمِ الرحمنِ ، و مرَّةً باسمِ الرَّحيمِ ؛ و أنَّ اسمَ (( الرَّحم )) التي هي علاقةُ القُربى و مناطُ التواصلِ بينَ بني آدمَ ، مُشتقٌّ من صِفة الرَّحمةِ التي اتصف بها اللَّه تعالى .

و قد وردَت صفةُ الرَّحمةِ و مشتقَّاتُها في القُرآن الكريمِ تسعًا و تسعينَ و ميةَ مرةٍ ، و بمعانٍ كثيرةٍ منها : أرزاقُ المخلوقاتِ ، و الغَيثُ المُرسَلُ من السَّماءِ ، و العافيةُ من الابتلاءِ و الاختيارِ :  

{ إِنْ أَرَادَنِىَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَٰشِفَٰتُ ضُرِّهِۦٓ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَٰتُ رَحْمَتِهِۦ قُلْ حَسْبِىَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ }{ الزمر : ٣٨ } .

و مِن معانيها الأُلفةُ و المحبَّةُ ، قالَ تعالى في شأنِ أتباعِ سيِّدِنا عـيـسَـى _ عليه السلامُ _ { وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً } { الحديد : ٢٧ } ، و قد وصف اللَّهُ بها التوارةَ المنزَّلةَ على سيِّدِنا مُـوسـى _ عليه السَّلامُ_ في قوله تعالى : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ } { هود : ١٧ } كما وَصفَ بها القرآن في قولِهِ تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا }{ الإسراء : ٨٢ } .

و الرَّحمةُ في بني آدمَ هيَ إرادةُ إيصالِ الخيرِ و هي حالةٌ وجدانيةٌ تَعرضُ للإنسانِ الرَّقيقِ القلبِ ، و هي مبدأُ الرَّأفةِ بالآخَرِ و الإحسانِ إليهِ ؛ أما الرَّحمةُ التي يتَّصِفُ بها اللَّهُ سُبحانه فليسَتْ مِن هذا القَبيلِ ، إنَّها مِن قَبيلِ الإحسانِ المجرَّدِ عنِ الأعراضِ الماديَّة الحسيَّة التي تلازمُ الرحمةُ الآدميَّةَ مِنَ الشُّعورِ بالرأفةِ و التألُّمِ ، و محاولةِ دفعِ الألمِ عمَّن يرحمُهُ ، و نجاحِه أو إخفاقِه في إزاحتِه.

نـعـم ! رحمةُ اللَّه بعبادِه هي مِن طَورٍ آخَرَ مختلفٍ عن طَورِ رحمةِ بني آدمَ بعضِهم لبعضٍ ، و ليسَ فيها من شَبَهٍ بالرَّحمةِ الآدميَّةِ غيرُ الاشتراكِ في الاسْمِ ؛ فهي أوسعُ و أشملُ ، تسعُ الخلقَ كلهم في الدُّنيا و الآخِرةِ ، وقد كتبَها اللَّهُ على نفسِهِ وأخبرَ بذلكَ في كتابِهِ الكريمِ ، فقال : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } و قال : { وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ } ، أي : وسِعَت في الدُّنيا كلَّ بَرِّ و فاجرٍ ، و قال في الحديث القدسي : (( إنَّ رحمتي تغلِبُ غضَبي ))…*(١) ؛ و معنى غَلَبَة الرَّحمةِ أو سَبقِها : أن رِفْقَه تعالى بعباده ، و إنعامَه عليهم و لُطفه بهم أكثرُ كثيرًا من انتقامِه ، فاللَّهُ أرحمُ بعبادِه من الوالدةِ بولدها و قد رغَّب اللَّهُ عبادَه في الرَّحمة و التراحمِ بجميع صُوره و أشكالِه ، و حذَّر من الجفاءِ و الغِلظة و قسوة القلوب ، وتوعَّد غلاظَ الأكباد بالحِرمان من رحمته ، يقول النبي ﷺ : (( مَـنْ لـا يَـرْحَـم لـا يُـرْحَـمُ )) …*(٢) ، أي : لا يستحق رحمةَ اللَّه تعالى إلا الراحمون الموفَّقون ؛ كما وسَّع من مجالاتِ تداولِها حتى شَمِلت عوالمَ المخلوقاتِ كلَّها ، وتراكَم في تُراثِنا من هذه التعاليمِ ما يَستحقُّ المباهاةَ و الفخارَ ، فاللَّهُ الذي يؤمِـنُ به المسلمونَ هو :( الرَّحمن الرحيم )) ، و رسولُهم الذي يتبعونَه هو ( الرؤوفُ الرحيمُ ) ، و العبادُ على اختلافِ ألوانِهم و عقائدِهم و مِـلَـلِـهـم و أديانِهم إخوةٌ في فلسفةِ الإسلامِ ، و أُخوَّتُهم ليست _دَعـوى_ يُحتاجُ في استنباطِها إلى تلمُّسِ الأدلةِ و البراهين ، بل هي شهادةٌ يوميةٌ ، كان رسولُ الإسلامِ ﷺ يردِّدُها عَقِبَ صلواتِه اليوميةِ و يقولُ فيها : (( أنـا شـهـيـدٌ أنَّ الـعِـبـادَ كـلَّـهـم إِخـوةٌ )) …*(٣).

وحَقُّ السَّلام مكفولٌ للعِبادِ كُلَّهم في شرائعِ هذا الدينِ ، و الإسلامٌ لا يسعى للحربِ و لا لإراقةِ الدِّماء ما وَسِعَه ذلك ، و هو يعتصمُ بمبدأ (( السَّلامِ )) إلى آخِـر مـدًى ممكن : { ۞ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا }{ الأنفال : ٦١ }. 

(( لا تَـتـَمَـنَّـوا لِـقـاءَ الـعَـدُوِّ و سَـلُـوا اللَّهَ الـعـافـيـةَ ))…*(٤).

و المسلمون لا يُقاتِلون إلا مَن يُقاتِلُهم : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }{ البقرة : ١٩٠ } ، و هذه عدالةٌ مطلقةٌ لا تُعرفُ لغيرِ المسلمينَ في أحكامِ الحروبِ و مواقعِ القتالِ ؛ وأنْ وَقَعَ قتالٌ في الإسلامِ فهو لِدَفع عدوٍّ مقاتلٍ ، وصَدٍّ لهجُومِه ، وصَوْلتِه على المسلمين ؛ و دفاعُ المسلمِ أو قتالُه لعدوِّه مضبوطٌ بالعدلِ و عدمِ التجاوزِ ؛ فإنْ تجاوَز المسلِمُ في قتالِه كان عُدوانًا يكرَهُه اللَّهُ ، ولو كان ذلك مع الكافرين.

و إذا فُرِضَ القتالُ على المسلمينَ فلا يَحِلُّ لهم أن يَقتلوا الرُّهبانَ ، و لا الصبيانَ ، و لا النِّساءَ ، و لا الفلاحينَ ، و لا العجزةَ و مكفوفي البَصرِ في جيش العدوِّ ، بل لا يـحـلُّ لـهـم قَـتـلُ الـحـيـوانـاتِ في جـيـشِ الأعداءِ إلَّا لـضـرورةِ الأكـلِ .

وقد أحـسـَن أديبُ العربيَّةِ في العَصرِ الحديثِ : مصطفى صادق الرَّافعـي _رحمه اللّٰهُ_ في قولِه : (( إنَّ لـسـيـوفِ الـمـسـلـمـيـنَ أخـلاقًـا )) .

و لعلَّكم تتساءَلونَ عن مُناسبةِ هذا الكلامِ لموضوع اليوم ، و الإجابةُ ظاهرةٌ : إنَّها الرَّحمةُ التي تجسَّدت بتمامِها في نبيِّ الإسلام ، و أعلَت صوتَه في العالمينَ : (( إنَّـمـا أنـا رحـمـةٌ مـهـداةٌ ))…*(٥) ،

 { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}{ الأنبياء : ١٠٧ }.

إنـهـا الرحمـةُ بالإنسانِ و الرحمةُ بالحيوانِ : (( إذا ذبـحـتـم فـأحـسـنـوا الـذِّبـحـةَ ، و إذا قـتـلـتـم فـأحْـسِـنـوا الـقِـتـلـةَ )) …*(٦).

إنها الرحمةُ التي تتساوى فيها الدماءُ ؛ فيُقتلُ الجمعُ بالواحدِ إذا اشتركوا في إراقةِ دمِـه ، جاء في (( الـمـوطَّـأ )) …*(٧) : أن عـمـر بنَ الخطابِ _رضي اللّٰه عنه_ قتل نفرًا - خـمـسـةً أو سـبـعـة - بـرجـلٍ واحـدٍ ، قـتـلُـوه في الـيـمـن قَـتـلَ غِـيـلـةٍ ، أي : خـادَعـوه و أَمَّـنـوه ثـمَّ قـتـلـوه ، قال عـمـرُ : (( لـو تَـمـالَأَ عـلـيـه أَهـلُ صـنـعـاءَ لـقَـتـلـتُـهـم بـه ))._______________

و هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼

إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 

#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

__________

*(١) أجرجه البخاريُّ في ( صحيحه )( ٣١٩٤ ) ، و مسلم ( صحيحه )( ٢٧٥١ ) من حديث أبي هريرة -رضي اللّٰه عنه. _________________________________________

*(٢) أخرجه البخاريُّ في ( صحيحه)( ٥٩٩٧ ) ، و مسلم في ( صحيحه )( ٢٣١٨ ) من حديث أبي هريرة رضي اللّٰه عنه.

________________________________________

*(٣) جزء من حديث أخرجه أبو داود في ( سننه )( ١٥٠٨ ) من حديث زيد ابن أرقم رضي اللّٰه عنه.

________________________________________

*(٤) جزء من حديث أخرجه البخاريُّ في ( صحيحه )( ٢٩٦٦ ) ، و مسلم في ( صحيحه )( ١٧٤٢ ) من حديث عبداللَّه بن أبي أوفَى رضي اللّٰه عنهما.

______________________________________

*(٥) أخرجه البزَّار في ( مسنده )( ٩٢٠٥ ) ، و الطَّبرانيُّ في ( المعجم الأوسط )( ٢٩٨١ ) ، و الحاكم في ( المستدرك ) : ٣٥/١ ، من حديث أبي هريرة رضي اللّٰه عنه ؛ و قال الحاكم : (( حديث صحيح ، على شرط البخاريِّ و مسلم ))

_______________________________________

*(٦) أخرجه بنحوه مسلم في ( صحيحه ) ( ١٩٥٥ ) من حديث شدَّاد بن أوس رضي اللّٰه عنه.

________________________________

*(٧) برواية يحيى بن يحيى ا

للَّيثيِّ ( ٢٥٥٢ ).

________




الجمعة، 23 يونيو 2023

خُـلُـق الـحـيـاء


 


الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

الـحـيـاء 

من الأخلاق الإسلاميِّةِ التي أجمعت الأديانُ السِّماويَّةُ على أهميِّتِها في استقامةِ المجتمعاتِ ؛ خُلُق : (( الحياء )) ، ذلك الخُلُق الذي يبدو الآنَ و كأنَّه آخِذٌ في التآكُل و التَّراجُعِ أمامَ سلوكيَّاتٍ غريبةٍ لا تعبأُ بالقِيَم الدينيِّةِ و لا تَحفِلُ بما فُـطِـرَ عليه النَّاسُ و ما طُبِعَت عليه النُّفوسُ منذُ الأزلِ من خُلُقِ (( الحياء )) و الأدبِ العامِّ ، و تعملُ جاهدةً على تبديلِ خَلقِ اللَّهِ ، حتى شاهَدنا الجُرأةَ على إتيانِ الفواحشِ و الرَّذائلِ باسم  (( الـحُـرِّيَّـة الـشَّـخـصـيَّـة )) ، و أوشكَت حدودُ الـفِـطـرةِ _ و هي من حدود اللَّه تعالى _ أن تندَثِرَ ، و أوشكَت الفوارقُ بين الفضيلةِ و الرَّذيلةِ أن تتلاشي في أذهانِ الكثيرِ و الكثيراتِ من بعضِ النَّاسِ و بعضِ شبابِ و فتياتِ اليوم.

و قد أصبحَ من المعتادِ أن يسأل البعضُ من الشبابِ و الفتياتُ أسئلةً تُقلق إلى حَدٍّ بعيدٍ ، و تُشير إلى اختلاطِ المفاهيمِ في أذهانِهم ، بل تدلُّ على حالةٍ من التِّيهِ كادوا يَفْقِدُون معها الإحساسَ بقيمةِ (( الحياء )) و الخَجل مِمَّا يجِبُ الخجلُ منه .

  1. و قد ساعدَ على انتشارِ هذا التيَّارِ سهولةُ مُشاهدة المواد الإعلاميَّة ، و سهولةُ استدعائِها و الإخلادِ إليها ، و سرعةُ التأثُّرِ بدعواتِها المسمُومةِ ، مع غيابِ ثقافةٍ دينيَّةٍ تربويَّةٍ تنُبعُ مِن أخلاقِ الأديانِ ، و مع ظهورِ تياراتٍ تدعو إلى اغترابِ الناسِ عن واقعِهم و عصرِِهم ، و تعجِزُ عن التَّكيفِ الشَّرعيِّ لِمَا استجدَّ في مجتمعِهم من قضايا و مشكلاتٍ.

عزيزي القارئ!

إنَّ الثَّقافةَ الإسلاميَّةَ ، أو لِنقُل (( التَّربية الإسلاميَّة )) هي تربيةٌ علميَّةٌ ذاتُ أُسُسٍ أخلاقيَّةٍ و حضاريَّةٍ شهد لها التاريخ .

هذه الثقافةُ كادت تتوارى في أروقةِ التَّعليمِ ، و لم يَعُد جيلُ التَّلاميذِ أو الطُّلابِ اليومِ يتعرَّفون عليها فضلًا عن أن يسترشِدوا بها .

و ذلك باستثناءِ التَّعليمِ في الأزهرِ الشَّريفِ و قلة من دور التعليم و محاضر العلم التي تُمَثَّلُ اليومَ المحميَّةَ الأخيرةَ من محميَّاتِ العِلمِ الإسلاميِّ الصَّحيحِ غيرِ الموجَّهِ و غيرِ المُسيَّسِ ، و غيرِ الموظَّفِ لتحقيقِ أغراضٍ بعيدةٍ عن هَدي الإسلامِ المؤسَّسِ على القُرآنِ و السُّنَّةِ ؛ و إذا كان لي من رجاءٍ _ كقراىٍ عربي مسلمِ _ في هذا الموقف _ فهو إلى حضراتِ السادَةٍ الأفاضلِ : وُزراء و حكماءِ التَّربيةِ و التَّعليمِ ، و التَّعليمِ العالي في العالَمين ؛ العَربيِّ و الإسلامي أن يُولوا اهتمامًا خاصًّا بقضيًّةِ التربيةِ الإسلاميِّةِ التي أوشكَت أن تُصبحَ أثرًا بعد عَيْن ، في مدارسِنا و جامعاتِنا ، و أن يُعادَ النَّظَرُ في استبدادِ المناهجِ الحديثةِ بتربية أبنائنا و تشكيلِ سخصيَّاتهم مع ما فيها من مجافاةٍ صريحةٍ للمبادئ و الأخلاقِ التي دَرَجت عليها مجتمعاتُنا الشَّرقيَّةُ ، و مع ما في التربيةِ الدنيية المتأسِّسةِ على القرآن الكريم و الكُتُبِ المقدَّسةِ من ثراءٍ معرفيٍّ ومِن تهذيبٍ للنَّفسِ و تثقيفٍ للعقولِ و تربيةٍ رياضيَّةٍ للأجسام ، و قد شاهدنا و سمعنا في بلادِ ما وراء النَّهرِ مدارسَ نجحَت في تصميمِ مناهجَ رصينةٍ : علميَّةٍ و تربويَّةٍ تجمعُ بين هذه الأبعادِ في تناسُقٍ سَلِسٍ ، و إعدادٍ متميِّزٍ ؛ بغيةَ استعادةِ هُويَّةِ الأوطانِ التي عَدَت عليها عَوادي الاستلابِ الثَّقافيِّ و الحضاريِّ الشَّرس.

إن الحياءَ خُلُقٌ ركَزهُ اللَّهُ في طبائِعِ البشرِ ، و قد عرَّفه العلماءُ بتعربفاتٍ عِدَّة ، يُمكن إيجازُها في القولِ بأنَّه : (( تـغـيُّـرٌ و انـكـسـارٌ يـعـتـري الإنـسـان مـن خـوفِ مـا يُـعـابُ بـه )) و هو تغيُّر نفسيٌّ و جسميٌّ ، يمنعُ من الإتيانِ بأفعالٍ تأباها الطَّبائِعُ البشريَّةُ بفِطرتِها و تَنفِرُ منها 

و الحياءُ من أقوى الأخلاقِ أصالةً و عُمقًا في مَشاعِرِ الإنسانِ ، وآيةُ ذلك ظهورُه في سلوكِ الطِّفلِ في سَنواتِه الأولى ، و شعورُه به قبلَ شعورِه بغريزةِ التَّديُّنِ ، تأمَّل حالَ الطِّفلِ في سنواتِه الأولى : الثالثة أو الرابعة مثلًا تجِده يَـسـتـحـي أن يكشِفَ عورتَه أمامَ النَّاسِ ، و يَمتنِع عـمَّـن يطلُبُ ذلك منه ، و هو إذ يتصرَّفُ هذا التصرُّفَ التِّلقائيَّ في هذه السِّنِّ المبكرة لا يدري ما الدِّينُ و ما الإيمانُ ، مما يدُلُّ على أن الشُّعورَ _بفطرةِ الحياءِ_ في الطفل يَسبِقُ الشُّعورَ _بفطرةِ الدِّينِ_ ، و إدراكَ معنى الأُلوهيَّةِ و النُّبوَّةِ و الحياةِ الآخِرَةِ.

و (( الحياءُ )) شعبةٌ من شُعبِ الإيمان ، كما أخبرَ النبي ﷺ ، و هو من الصِّفات التي اتَّصف بها المولى عزَّ و جلَّ ، كما في جاء الحديث الشريفٌ : (( إِنَّ رَبَّـكُــمْ حَـيِـيٌّ كَـرِيـمٌ ، يَـسْـتَـحِـي مِـنْ عَـبْـدِهِ إِذَا رَفَــعَ يَـدَيْـهِ إِلَـيْـهِ أَنْ يَـرُدَّهُـمَـا صِـفْـرًا ))__*(١).

و (( الحياءُ )) في المرأةِ أشدُّ حُسنًا و أبهى جمالًا ، و قد امتدحَ اللَّهُ به ابنةَ النَّبيِّ شعيب _عليه السلام_ في قوله تعالى : { فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ }{ الـقـصـص : ٢٥ } .

و قد قَرَنَ النبي ﷺ بينَه و بينَ الإيمانِ و قال : (( الـحـيـاءُ و الإيـمـانُ قُـرنـا جـمـيـعًـا ، فـإذا رُفِـعَ أحـدُهـمـا رُفِـعَ الآخَـر ))*(٢).

عزيزي القارئ الكريمٌ! 

مِمَّا يجِبُ ملاحظتُه في موضوعِ (( الحياء )) إزالةُ الـلَّـبْـسِ بين هذا الخُلق الإنسانيِّ الرَّاقي و بين الخَجَلِ و الانطواءِ و الخَوفِ من مواجهةِ الآخرينَ ، و أمراضِ التَّوحُّدِ المعروفةِ ، ف (( الحياءُ )) خُلُقٌ يقاوِمُ انتشارَ السُّلوكِ القَبيحِ ، و يخلُقُ من صاحِبِه إنسانًا متوازنَ الفِكرِ و الشُّعورِ و التَّصرُّفِ ، و صاحبُ (( الحياء )) لا يهابُ النَّاسِ و لا يتحسَّبُ لمحاوراتِهم ، و لا يمنعُه -حياؤه- من التخلُّقِ بخلق الشَّجاعةِ و الإقدامِ ، و مِن أن يكونَ رجلَ مجتمعٍ ، أو سيَّدةَ مجتمعٍ من الطِّرازِ المتميِّزِ ، و قد كانَ سيَّدُ الناسِ محمدٌ ﷺ نبيًّا ورسولًا و قائدَ دولةٍ و صانِعَ حضارةٍ تغنَّى بها التَّاريخُ ، و مع ذلكَ كانَ أشدَّ حياءً من العَذراء في خِدرِها.

أنَّ (( الحياء )) خيرٌ كلُّه ، و هو خُلُقُ الإسلامِ ؛ و الحياءُ مِن الإيمانِ ، و الإيمانُ في الجنَّة ، و البَذَاءُ مِن الجَفَاءِ ، و الجَفَاءُ في النَّارِ ، قال رسولُ اللَّه ﷺ : (( إِنَّ مِـمَّـا أَدْرَك الـنَّـاسُ مِـنْ كَـلَـامِ الـنُّـبُوُّةِ الْأُولَـى : إِذَا لَـمْ تَـسْـتَـح ، فَـاصْـنَـع مَـا شِـئْـتَ ))..*(٣) صدق رسول اللَّهِ ﷺ.

و هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼

إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 

  ‏ ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼


_______________________________________


(١)*_ أخرجه أبو داود في ( سننه ) ( ١٤٨٨ ) و التِّرمذيُّ في ( جامعه )( ٣٥٥٦ ) و ابن ماجه في ( سننه )( ٣٨٦٥ ) من حديث سلمان الفارسيِّ رضي اللّٰه عنه ، و قال التِّرمذيُّ : « حديث حسن غريب »._________________________________

(٢)*_ أخرجه الحاكم في ( مستدركه ) : ٢٢/١ ، و البيهقيُّ في ( شعب الإيمان )( ٧٣٣١ ) من حديث عبداللَّه بن عمر رضي اللّٰه عنهما ، و قال الحاكم : ( حديث صحيح على شرطهما ) ؛ و قد رُوي موقوفًا من قول عبداللَّه بن عمر رضي اللّٰه عنهما- كما في ( الأدب المفرد )( ١٣١٣ ) و غيره.____________________________________

(٣)*_ أخرجه البخاريُّ في ( صحيحه) ( ٦١٢٠ ) من حديث أبي مسعود البد

ريِّ رضي اللّٰه عنهما.


 

الاثنين، 19 يونيو 2023

fairness _ الإنصاف 1


 

الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

نستكمل ما شرعنا فيه من موضوع سابق عن قيمة 

👈  الإنصاف👉.

فمِن غيرِ الإنصاف أن يعرِضَ متحدِّثٌ لهذا الموضوعِ في الإسلامِ دونَ أن يتوقَّف قليلاً أو كثيرًا عند أحدِ مشاهدِ القرآن الكريم في إدانةِ المسلم و إنصافِ غريمِه ، و انا واحدٌ من هؤلاء الذين تأخذُهم الدَّهشةُ من جميع أقطارها ، كُلَّما قرأتُ الآياتِ المتعلِّقةَ بهذه القِصَّةِ في (( سورة الـنـسـاء )) ، و تبلُغُ الدَّهشةُ ذروتَها حين نقرأُ في الآياتِ ما يُشبِهُ العِتابَ الإلهيَّ للنبي ﷺ في بعض مواقف هذا المشهد ، و كيف أن تِسعَ آياتٍ بيِّناتٍ متتالياتٍ نزلت لإنصافِ يهوديِّ مظلومٍ و إدانةِ مُسلم خائنٍ ، يقول علماءُ التَّفسيرِ في سببِ نزولِ هذه الآياتِ : إن صحابيًّا على عهد النبي ﷺ اسمه (( طُعمةُ بنُ أُبيرِق )) ، سَرَقَ دِرعًا مِن جارٍ له اسمُه (( قتادةُ )) ، و كانت الدِّرعُ في جرابِ دقيقٍ به ثُقبٌ ، فأخَذَ الدَّقيقُ يتناثَرُ على الطَّريقِ ، و خَشيَ طعُمةُ أن يَفتضِح أمرُه إن هو ذَهبَ به إلى منزِله ، و تفتَّقت حيلتُه عن التوجِّهِ به لصَديقٍ له يهوديًّ اسمه : (( زيدُ بنُ السَّمينِ )) ، و قال له : ضَع هذا أمانةً عندكَ ، و لما تنبَّه -قتادةُ- و قومُه للدِّرعِ المسروقةِ ، ذهبوا إلى _طُعمةَ _ و يبدو أنَّه كانَ معروفًا بالسَّرقةِ_ فحَلَف لهم أنَّه ما أَخَذَها ، و ما لَه بها عِلمٌ ، _ فتتبَّعوا أثرَ الدَّقيقِ حتى إذا ما انتَهى بهم إلى بيتِ _زيدٍ اليهوديِّ_ ، فدَخَلوا عليه و قالوا له : (( أنتَ سرَقتَ الدِّرعَ )) فأَقسَمَ باللّٰه ما سَرَقتُه _ و أنَّ طُعمةَ هو الذي جاءَ به ؛ و قالَ : ضَعْه أمانةً عندَك ، فرَجعوا إلى طُعمةَ مرة أخرى و سأَلوه فأَقسم لهم أنِّي ما سرقتُه ، و أنَّ مَن سَرَقَكم هو زيدٌ اليهوديٌّ ، و شاعَ الأمرُ في الناسِ ، و خشي طعمة و قبيلته من و صمهم بجريمة السرقة ، فذَهب طُعمةُ و قبيلتُه إلى النبي ﷺ ليَطلبوا منه تبرئتهم من السَّرقةِ ، و أن يجادِلَ عنهم ليدفَعَ هذه الوصمةَ ، و قالوا : إن لم تُدافِع عنا هَلَكنا و بَرِئَ اليهوديُّ _ فأرسل النبي ﷺ إلى زيدٍ اليهوديِّ ، و سأله فأجابَه : و اللَّه يا أبا _الـقـاسِـمِ ما سَرَقتُ الدِّرعَ ، و لكن رماهُ عندي طُعمةُ كأمانةٍ ، و أوشَكَ النبي ﷺ أن يُصدِّق طُعمةَ و قَبيلَتَه ، في دَعواهم أنَّ الذي سَرَقَ الدِّرعَ هو زيدٌ اليهوديُّ ، و هَمَّ بعقابِ زيدٍ لولا أن نزلَ القرآنُ و برَّأَ اليهوديَّ من تُهمةِ السَّرقةِ ، و دمغَ طُعمةَ و أهلَه بالخيانةِ ، و توعَّدَهم بالعقابِ الأليم إنْ لم يتوبوا إلى اللَّه و يَستغفروه________ (١) .

و هذه هي قصة الآياتِ التي نقرأها في سورة الـنـسـاء في قوله تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (١٠٦)}{ الـنـسـاء : ١٠٥_١٠٦ } ، أي : استغفرِ اللَّهَ لما همَمتَ به من عقابِ اليهوديِّ ؛ { وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (١٠٨) هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (١٠٩) } { الـنـسـاء : ١٠٧_١٠٩ } ؛ و الآيات خطابٌ لجماعةِ من الأنصارِ ، اشترَكوا في الدِّفاعِ عن طُعمةَ و عن المسلمينَ.

و معنى الآياتِ : هَبوا أنَّكم خاصَمتُم عن طُعمةَ و قومِه في الدَّنيا فمَن يخاصِمُ عنهم في الآخِرَةِ إذا أخذَهم اللَّهُ بعذابِه .

ثم يقولُ اللَّهُ تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (١١٢) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ۚ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (١١٣)}{ الـنـسـاء : ١١٠_١١٣ } ؛ انظر أيها القارئ الكريم ! تسعُ آياتٍ بيِّناتٍ تنزلُ على نبيِّ الإسلام في تبرئةِ يهوديٍّ مظلومٍ و إدانةِ مسلمٍ ظالمٍ ، و تَعتِبُ عليه ﷺ مَيلَه لتَصديقِ المسلمِ و تكذيبِ اليَهوديِّ ، كُلُّ ذلكَ في جوٍّ كانت فيه أغلبيَّةُ اليهودِ تُناصِبُ الإسلامَ و المسلمينَ العَداءَ ، و تتربَّصُ بهم وتُعينُ عليهم أهلَ الشِّركِ و الوثنيَّةِ من قريشٍ .

و لقَد صدَّقَ القرآن على ( طُعمةَ ) بما يُشعِرُ بسوءِ الخاتمةِ و العَذابِ الأليمِ يوم القيامةِ ؛ فقيلَ : إنَّه هرَبَ إلى مكةَ ، و سَرَقَ و ارتَدَّ ، ثُمَّ سرقَ و قُتِلَ في سَرِقَتِه الأخيرةِ !.

هل أَدركتُم عظمةَ الإسلامِ في تطبيقِ مبدأِ العدلِ و الإنصافِ حتى مع الكارهينَ للإسلامِ ، و كيف أن هذا المبدأَ لا مَفَرَّ منه لاستقرارِ المجتمعاتِ ، و أساسٌ لشعورِ النَّاسِ بالهدوءِ و الطُّمأنينةِ ؟! و كيفَ أن المسلِمَ و غيرَ المسلمِ سواءٌ في دينِ الإسلام ، دينِ العدلِ و الإنصافِ و المساواةِ بينَ بني آدمَ ؟!.

و هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼

إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

__________________________________________(١) ؛ أخرج قصَّة طُـعـمـة بن أُبَـيْـرِق _رضي الله عنه_ الطَّبريُّ في (( جامع البيان )) : ٤٦٢/٧ ؛ عن قتادة مرسلًا ؛ و أخرجها كذلك : ٤٦٦/٢ ، عن إسماعيل السُّدِّيِّ ، مرسلًا_






الجمعة، 16 يونيو 2023

fairness _ الإنصاف


 

الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

من القِيمِ المفقودةِ في غِمارِ حياتِنا الماديةِ و العمليةِ اليوم قـيـمـةُ الإنـصـافِ ، التي باتت عملةً نادرةً في معاملاتِنا الحديثة ، و أوشكَت أن تُحال لمستودَع الأخلاقِ القديمةِ ، و التي يُنظرُ لصاحبِها من منظورِ الدَّهَشِ و الاستغرابِ ، و كأنه قادمٌ منَ القورنِ الوسطَي ، و يتعاملُ في الأسواقِ بعملةٍ مضي عليها الزمنُ ، و طَمَرتْها الأعصرُ و الدهورُ .

و الإنصاف - باختصارٍ شديدٍ - هو العدلُ مع النفسِ ، و مع الغيرِ ، و افقَك هذا الغيرُ أو خالفك ، و معناه في بابِ المعاملاتِ : أن تُعامِلَ الناسَ بمثل ما تحبُّ أن يعاملوكَ به ، مِثلًا بمِثلٍ ، و تمامًا بتمامٍ ، و أن تُعطَيهم حقوقَهم بمثلِ ما تطالبُهم به من إعطائِك حقَّك.

و الإنصافُ - بهذا المعني - هو معيارُ العدلِ ، بل هو القسطاسُ المستقيمُ الذي يزِنُ به المرءُ معاملاتِه مع الناسِ ، أخذًا و عطاءً في الجليلِ و الحقيرِ من أصنافِ هذه المعاملاتِ .

و إذا كان الإنصافُ يستلزمُ فضيلةَ العدالةِ طردًا و عكسًا ، فهذا يعني أنه كلما وُجِدَ الإنصاف وُجدَ العدلُ ، و كلما انتفى العدلُ انتفى الإنصافُ ، و لازومُ ذلك أن يكون الإنصافُ و العدلُ توأميْن متلاصقيْنِ.

هذا و إنَّ أعلى درجاتِ الإنصافِ و أعظمَها أثرًا في دُنيا الناسِ هي درجةُ (( الانتصافِ مِنَ النفسِ )) أي : قدرةُ المرءِ على أن ينتصفَ لنفسِه من نفسِه ، و بمعنًى أوضحَ : قدرتُه على أن يخاصِمَ نفسَه و يخطِّئَها و يُعاتبَها فيما أساءتْ فيه من قولٍ أو عملٍ .

و مواجهةُ النفسِ و محاسبتُها و لومُها تتطلَّب قدرًا غيرَ قليلٍ من القوةِ و الشَّجاعةِ و الإيمانِ بمبدأ المساواةِ بين الناسِ الذي أرساه نبيُّ الإسلام ﷺ ورسَّخه في قولِه : (( النَّاسُ سَواسِيةٌ كأسنانِ الـمُـشْـطِ )) أخرجه الدُّولابيُ في الكنى و الأسماء ٩٤٩ و ابن حبَّان في- المجروحين - : ١٩٨/١ ، و أبو الشيخ فى أمثال الحديث ( ١٦٨ ) و غيرهم ، من حديث سهل بن سعد رضي اللّٰه عنهما .

و منَ المعلوم أن مَن يَعجِزُ عن مواجهةِ نفسِه و الانتصافِ منها يَعجِزُ عن إنصافِ غيرِه منَ الناسِ من بابِ أولى ، ففاقدُ الشَّيءِ لا يُعطيه كما يقولُ الحكماءُ .

و بسببٍ غياب هذا الخُلُقِ العظيم انتشر في حياتنا المعاصرة هذا النوعُ من الذين يأخذون و لا يُعطونَ ، و يُبصرونَ أخطاءَ الناس و تَقْذَى عيونُهم عن أخطاءِ غيرِهم ، و يطلبون أن يُعتذرَ إليهم و لكن لا يعتذرونَ لأحدٍ ، و يعترفونَ على الآخرينَ بينما يَعجِزونَ عنِ الاعترافِ على أنفسِهم ، و هم حين يخطئونَ يُجهدونَ أنفسَهم في اختلاقِ المعاذيرِ و العِلَلِ التي تُسوِّغ لهم أخطاءَهم و جرائمَهم ، و ظلمَتهم للعباد : كِبرًا و غطرسةً و هروبًا من وَخزِ الضمير و تأنيبِه.

إن الفائدةَ التي تعودُ على المجتمعِ من التعاملِ بمبدأ الإنصافِ هي اعترافُ المخطئِ بخطئِه فيها بينَه و بين نفسِه أولًا ، ثم ما يتداعَى بعد ذلك منِ استعاذته باللَّهِ من الشَّيطانِ الرجيمِ ، و من طَلبِ المغفرةِ من اللَّه تعالَى و الاعتذارِ للمتضرِّرِ من هذا الخطأ ، مع قضائِه حقَّه إن ترتبَ على هذا الخطأ مظالمُ للعباد .

و مرةً أخرى إنَّه (( المسلمُ القويُّ )) الذي يُحاسِبُ نفسَه على خطئِها قبلَ أن يحاسِبَ الآخرينَ على أخطائِهم.

و هنا سؤالٌ يفرِضُ نفسَه : هل (( الإنصافُ )) في شريعةِ الإسلامِ هو أمرٌ مندوبٌ أو أمرٌ مفروضٌ !؟ 

و الإجابة هي أن (( الإنصافَ )) أمر مفروضٌ على كلِّ مسلمٍ ؛ و القرآن و الحديث مملوءانِ نهيًا و وعيدًا للظالمِ و الظُّلمُ _ كما عرفنـَا هو نقيضُ  العدلِ و العدلُ هو الإنصافِ .

و المسلمُ مأمورٌ بالأنصافِ و العدلِ مع المسلمِ و مع غيرِ المسلم ، و مع صديقه و عدوِّه سواءً بسواءٍ ، يدلنا على ذلك قانونُ القرآن في قتال الأعداءِ المحاربينَ ، و فيه أمر صريح بالتقيِّدِ بمبدأ العدالة في قتال الأعداء ، و عدم تجاوزِها إلى العدوانِ { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }{ البقرة : ١٩٠}.

و لا يتَّسع المقامُ لسردِ النصوصِ في هذا الشَّأنِ ، و لا شهاداتِ التاريخِ التي يَعلمهُا أعداءُ الإسلامِ قبلَ أنصارِه ، و كلُّها تصُبُّ في جملة واحدة مكوَّنةٍ من مبتدأ و خبرٍ ، هي : ( الإسلامُ دينُ الإنسانيِة ) هذه الجملةُ التي اختارها أستاذٌ غربيٌّ مُنصِفٌ  شغلَ مناصبَ هامةً في الأمم المتحدةِ في جنيف : الأستاذ / مارسيل بوازار ، و وضعَها عنوانًا لمؤلَّفِه القيِّمِ ( الإسلامُ دينُ الإنسانيةِ ) و صدرت ترجمتُه إلى اللغةٌ العربية عام ١٩٨٠.

و هذا و بالله التوفيق ، و سوف أكمل لكم موضوع الإنصاف بقصة اليهودى الذي انصفه النبي ﷺ وكيف أن تِسعَ آيات نزلت لإنصاف هذا اليهودي المظلوم.

و هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼

إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 

 #بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼


الاثنين، 12 يونيو 2023

justice _ العَدْل 2


 


الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

نستكمل ما شرعنا فيه من موضوع سابق عن قيمة 👈 الـعَـدْل  👉 والعدالة.

و هناك كثيرًا مما قالَه سيدُ البلغاءِ و إمام الفصحاءِ النبي ﷺ في الترغيب في العدلِ و الترهيبِ من الـظُّـلْـمُ  ، ولكن تكفِي الإشارةُ إلى ندائة عليه الصلاةُ و السلامُ بضرورةِ العدلِ في الحكمِ في قوله الشريف : (( إذَا حَكَمتُم فاعدِلُوا )) -جزء من حديث أخرجة الطَّبرانيُّ في (( المعجم الأوسط )) من حديث أَنَس بن مالك رضي اللّٰه عنه.

و أيضًا في المساواة بين الأبناء والبنات في المعاملة في قوله ﷺ : (( فاتَّقُوا اللَّهَ واعدِلُوا بين أولادِكُم )) - جزء من حديث أخرجة البخاريُّ في صحيحه ( ٢٥٨٧ ) و مسلم في صحيحه.  ( ١٦٢٣ ) من حديث عمران بن بَشِير رضي اللّٰه عنه.

و في وصاياه بالزهدِ في طلبِ الإمارةِ خوفَ فواتِ العدلِ ؛ فعن عوفِ بنِ مالكٍ رضي اللّٰه عنه ، قال : قالَ رسولُ اللّٰه ﷺ : (( إِنَّ شئتُم أنبأتُكم عنِ الإمارةِ و ما هِي ؟ )) قال عوفٌ : فناديتُ بأعلى صوتي ثلاثَ مراتٍ : و ما هي يا رسولَ اللَّه ؟ قال عليه السلامُ : (( أوَّلها ملامةٌ ، و ثانيها ندامةٌ ، و ثالثُها عذابٌ يومَ القيامةِ ، إلَّا مَن عَدَل )) .. ثم قالَ : (( و كيف يعدِلُ مع قرابتِه ؟! ))

أخرجه البزَّار في مسندة ( ٢٧٥٦ ) ، و الطَّبرانيُّ في المعجم الكبير ( ١٣٢/٧١/١٨ ) و في المعجم الأوسط ( ٦٧٤٧ ) من حديث عَوف ابن مالك الأشجعيِّ رضي اللّٰه عنه.

و لا يذهبنَّ بنا الظنُّ أن الإمارةَ هي إمارةُ الدولِ و البلادِ فقط ، بل هي الإمارةُ بأوسعِ معانِيها ، و التي تنطبقُ على كل مسؤولٍ صغيرٍ أو كبيرٍ ، فإنه أميرٌ فيها أسندَ إليه من وظائفَ و أعمالِ .

يدلُّنا على ذلكَ قولُه ﷺ : (( ما مِنْ رجلٍ يلي أمرَ عشَرةٍ فما فوقَ ذلكَ إلا أتى اللَّهَ عزَّ وجلَّ مَغلولًا يومَ القيامةِ : يدُه إلى عُنُقِه .. فكَّه بِرُّه ، أو أَوْبَقَه إثْمُه )) ، ثمَّ قالَ : (( أوَّلها ملامةٌ ، و أوسطُها ندامَةٌ و آخرُها خزيٌ يومَ القيامةِ )) أخرجة أحمد في مسنده ( ٢٢٣٠٠ ) و الطَّبرانيُّ في المعجم الكبير ( ٧٧٢٠ ؛ ٧٧٢٤ ) من حديث أبي أُمامة رضي اللّٰه عنه.

و نستنبطُ من هذا الحديث أنَّ الإمارةَ و الولايةَ تثبُتُ لأي مسؤولٍ يترأسُ في عملِه عشرةً فما فوقَ ، و أنه مطالَبٌ بإقامة العدلِ ببنهم بأشدَّ مما يُطلبُ من كبارِ الولاةِ ؛ و ذلك لسهولةِ تَطبيقِ العدلِ في العدد القليل ، كما يُستنبطُ من الحديثِ الشريفِ التنفيرُ الشديدُ من طلبِ الولايةِ لما تشتملُ عليه من تَبعاتٍ يسهُلُ معَها الوقوع في مظالم العبادِ ، و إهانتُهم و الإساءةُ إليهم ، و بخاصَّةٍ إذا كان الموظفُ أو المسؤولُ غيرَ مؤهَّلٍ لإدارةِ ما أُسند إليه من وظائفَ و مسؤولياتٍ.

و في الحديث تحذيرٌ _ وأيُّ تحذير_ لهؤلاء الذينَ يُرهقونَ أنفسَهم ، و قد يُريقونَ ماءَ وجوههم ، من أجلِ الظَّفرِ بكرسيِّ لا يَعلمُ سَلَفًا هل يستطيعُ أن يَنشرَ من فوقه العدلَ و الرحمةَ و الرفقَ بالعبادِ ، أو أنَّ شيئًا من هذه المظالمِ لا يخطُرُ له على بالٍ.

و مما تجب مراعاته شرعًا ؛ هو : أن الأحاديث الواردة في باب العدل و المساواة تشير إلى أن مهمة القيام بالعدل ليست بالأمر الميسور عادةً ، و بخاصةٍ في المواقف الدقيقة التي يجد الإنسان فيها نفسَه مدفوعًا بغريزته إلى التَّحيُّز و الميل مع الهوى و الغرض.

و لا يعني ذلك أن هذه الأحاديث الشريفة تنفَّر النَّاسَ من تقبُّل و ظائِفِ الولايةِ و العَدلِ ، فمِثلُ هذا الفَهمِ لا تَعرِفُه شريعةُ الإسلامِ التي تركَت لنا مئات المجلدات في فقه القضاءِ و الإمامةِ و السِّياسةِ الشَّرعيةِ ، و كلُّ ما هنالك هو أنَّ هذه الأحاديثَ حين تُنفِّر من طلبِ الإمارةِ ، فليس لأنَّ الإمارةَ في حدِّ ذاتها مطلبٌ سيِّئٌ يجب الفرار منه ، و لكن لعِظَم مسؤولية مَن يتولاها و خَطرِها في حياةِ النَّاسِ وجبَ أن يُدَقَّق النَّظر في اختياره ، و ألا يُفتح البابُ أمامها لكل من هبَّ و دبَّ ، فهذه الأحاديث إنما تطلُب التدقيقَ الواجب في هذه الوظائفِ الخطيرةِ لحمايةِ الناس ، و حفظِ حقوقِهم ، و صَونِ كرامتِهم ، و كلُّها مقاصِدُ عُليا من مقاصِد القُرآن الكريم و السُّنَّةِ المشرَّفةِ.

و في هذا السِّياقِ نفسِه يجِبُ أن نفهمَ ما وردَ من قوله ﷺ : (( القُضاةُ ثلاتةٌ : اثنانِ في النَّارِ ، وواحدٌ في الجنَّةِ )) و أيضًا و صفُه للإمام العادل بأنه أول مَن يستظلُّ بظلِّ اللَّه تعالى يوم القيامة ، و أنه ممن لا تُرَدُّ له دعوة . 

إلى آخر ما ورد في هذا الباب.

و خير ما أختمُ به موضوع اليوم هو دعاؤُه ﷺ الذي يبرهِنُ فيه على حنانِه و أبوَّتِه و رحمته بأمتِه النبيُّ ﷺ : طائعِهم و عاصِيهم ، برَّهم و فاجرِِهم ، تقيِّهم و فاسقِهم ، قالَ عليه الصَّلاةُ و السلامُ : (( اللَّهُمَّ مَن وَلِيَ مِن أََمْرِ أُمَّتي شيئًا فَشَقَّ عليهم فَاشْقُقْ عليه ، وَمَن وَلِيَ مِن أَمْرِ أُمَّتي شيئًا فَرَفَقَ بهِمْ فَارْفُقْ بهِ )) أخرجه مسلم في صحيحه ( ١٨٢٨ ) من حديث أمِّ المؤمنين عائشة رضي اللّٰه عنها .

 - صلَّى اللَّهُ وسلَّم وباركَ عليكَ : 

 يـا رحـيـمًـا بـالـمـؤمـنـيـن إذا مـا

 ‏                                  ذَهِـلـت عـن أبـنـائـهـا الـرحـمــاءُ

 ‏يـا شـفـيـعًـا فـي الـمـذنـبـيـن إذا مـا

                                 ‏أشـفـق مـن خـوف ذنـبـه الـبـرآءُ.

و هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼

إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 

‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

                     ‏


الجمعة، 9 يونيو 2023

justice _ العَدْل


 


الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

من القيمِ التي نفتقدُها _ اليوم _ في مجتمعاتنِا ، قيمةُ العدلِ في معاملاتِنا و تصرفاتنا العاديَّةِ.

و سبقَ و أن قُلْنا : إنَّ الأضدادَ تستدعي أضدادَها ، و هناك شيءٌ من هذا المعنى ينطبِقُ على علاقةِ التضادِّ بين العدلِ و الظلمِ كما ذكرت لكم في مقال سابق عن هذا المفهوم 👈( الظُّلْمُ )👉 فلا بد للربطِ بين المفهومين.

و العدلُ باختصارٍ شديدٍ : هو الأمرُ المتوسِّطُ بين الإفراطِ و التِّفريطِ ، و من لوازمِة : القسطُ و المساواةُ بين الناسِ في الحكم.

و العدلُ اسمٌ من أسماءِ اللَّه تعالى ، و به قامتِ السمواتُ و الأرضُ و بُنِيَتْ عليه كلُّ صغيرةٍ و كبيرةٍ في مخلوقاتِ اللَّه تعالى ، و قد ذُكِرَ في القرآن الكريمِ في أكثر من عشرين آيةً ، إظهارًا لأهميتِه و ضرورته.

و صفةُ ( العدلِ ) من أوجب الصفاتِ التزامََا و تطبيقًا في جميع مناحي الحياةِ ؛ فهي معيارٌ أو ميزانٌ يزنُ الأمورَ كلها ، و إذا دَرَجنا مع القائلينَ بأنَّ الحياةَ ليسَتْ ألَّا سلسلةً لا تنتهي من الاختيارِ بين أمريْنِ _ تَبيِّنَ لنا خطرُ (( العدلِ و العدالةِ )) في جميعِ ما يصحُّ فيه هذا المعني ، و (( العدلُ )) يستلزمُ (( الإنصافَ )) ، كما يستلزمُ (( المروءةَ و الاستقامةَ )) و الترفعَ عن صغائرِ الأمورِ و سَفْسَافِها.

و قد و عظَ اللَّهُ به عبادَه و عظًا صريحًا في قوله تعالى : { ۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَٰنِ وَإِيتَآئِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ وَٱلْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } 

{ النحل : ٩٠ }.

و العدلُ في الآيةِ كما يقولِ علماء التفسيرِ هو : الإنصافُ بين الناسِ ، و التعاملُ معهم باعتدالٍ لا مَيْلَ فيه و لا عِوَجَ .

و قد وُصِفَتْ هذه الآيةِ الكريمة بأنها أجمعُ آيةٍ في كتابِ اللّٰه للخيرِ و الشرِّ كما قال عنها القاضِي البيضاويِّ أحدُ عمالقةِ علمِ التفسيرِ ؛ : (( لو لَمْ يَكُن في القُرآنِ غيرُ هذه الآيةِ لصدقَ عليه أنه تِبيانٌ لكلِّ شيءٍ و رحمةٌ للعالمينَ ))_ تفسير البيضاوي _ ٢٣٨/٣.

و ذلك لِمَا اشتملَت عليه من الأمرِ بالعدلِ و الإحسانِ و صلةِ القربى و النهيِ عن الفحشاءِ و المنكرِ ، و منها يتبيَّنُ أن العدلَ أولُ الأركانِ في استقرارِ الحياةِ و انضباطِها على شريعةِ اللَّه.

من هنا قيل : (( العدلُ أساس المُلكِ ))

و قد أمر اللًَهُ تعالى نبيَّه أن يلتزمَ جادةَ (( العدلِ )) في المعاملةِ بين الناسِ ، و ذلك في قولِه تعالَى : { فَلِذَٰلِكَ فَٱدْعُ وَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَٰبٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ }{ الشورى : ١٥ }.

و قد أمر اللَّه المؤمنينَ بما أمر به نبيَّه عليه الصلاةُ و السلامُ من إقامة العدل بينهم كما هو معروفٌ في هذا الشأنِ ، لكن يَلِفتُ نظرَ المتأمِّلِ في القرآن الكريمِ هذا الحرصُ الشديدُ على (( إقامةِ العدلِ )) في المواطِنِ التي يصعُبُ فيها عادةً على المرءِ أن يلتزم جادَّةَ الوسطِ فيما يفعلُ أو يقولُ ، و أصعبُ هذه المواطِنِ التزامُ العدلِ مع الأعداءِ و الأولياءِ على السواءِ ، و مع القريبِ و البعيدِ على قَدمِ المساواةِ ، و ألَّا يتحيَّفَ المؤمنُ على البعيدِ أو العدوِّ قَيدَ شعرةٍ ، و بخاصةٍ في باب الشهادةِ و القضاءِ ، يقولُ اللّٰه تعالى : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }       { الأنعام : ١٥٢ } و معني الآيةِ : قُولُوا الحقَّ و إن كانَ على ذي قُربى .

و يقولُ تعالى في موطنٍ آخرَ أكثرَ صعوبةً و حرجًا : { ۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا۟ ٱلْهَوَىٰٓ أَن تَعْدِلُوا۟ وَإِن تَلْوُۥٓا۟ أَوْ تُعْرِضُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } { النساء : ١٣٥ }.

و القِسطُ في الآيةِ الكريمةِ هو العدلُ .

و معنى { قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ } أن يكونَ القسطُ في القولِ و الفِعلِ خُلُقّا راسخًا ، و سجيةً حاضرةً في كل شهادةٍ يُؤدِّيها المؤمنُ ، حتى لو كانت شهادتُه على نفسِه ؛ كالاعترافِ أو الإقرارِ لخصمِه فيما شَهِدَ به عليه ، أو كانت شهادتُه على والدَيه و على أقربِ الناسِ إليه ؛ فالمطلوبُ في كلِّ هذِه المواقفِ الصعبةِ أن يلتزِمَ المؤمنُ بقولِ الحقِّ ، لا يحابي فيها غنيًّا من أجلِ غناه ، أو قريبًا من أجل قَرابتِه ، و لا يجور فيها على فقيرٍ أو مسكينٍ لفقرِه و مسكنتِه ، و على المؤمنِ أن يعلمَ أن اللَّهَ سوَّى في إقامةِ العدلِ بين الأغنياء و الفقراءِ ، وحذَّر منَ المحاباةِ و الظلمِ أيًّا كانتِ الظروفُ و الملابساتُ ؛ ثمَّ يؤكِّدُ اللَّهُ سبحانه هذه الأوامر نفسها في موضعٍ آخرَ يقولُ فيه : 

{ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍة عَلَىٰٓ أَلَّا تَعْدِلُوا۟ ٱعْدِلُوا۟ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ }{ المائدة : ٨ }.

و تتشابَه هذه الآيةُ مع سابقتِها في توجيهِ النداءِ الإلهيِّ للمؤمنينَ و القيامِ بأداء شهادةِ (( العدلِ و الحقِّ )) ؛ امتثالًا لأمرِه تعالى و ابتغاءَ مرضاتِه و حسبةً لوجهه الكريم ، و ما تنفردُ به هذه الآيةُ عن سابقتِها هو نهيُ اللَّه تعالى للمؤمنين أن يحمِلَهم بغضُهم و كراهيتُهم لبعضِ الناسِ على عدمِ العدلِ معهم في الحكمِ و الشهادةِ ، و كذلك تنفرد الآية بتكرار الأمرِ بالعدل في موطن واحد ؛ و معنى : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ } ، أي : لا تحملنَّكم عداوةُ قومٍ على التفريطِ في العدلِ و إنصاف الناس.

و انظروا إلى العدل في قضيةِ تعدُّد الزوجاتِ ، و كيف أن مجرَّدَ الخوفِ من عدم تحقيقه يَمنعُ المسلمَ شرعًا من التعدُّد : قال تعالى { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } { النساء : ٣ } و كيف أن الوقوفَ عند مثنى و ثلاث و رباع دون الانتباهِ للعدلِ الذي هو شرطُ إباحةِ المثني و الثلاثِ و الرباعِ ، كيف أضاع حقوقًا و جلبَ مظالم وشرَّدَ أطفالًا و هدَمَ بيوتًا كانت عامرةً !؟ و قد كان غيابُ العدِل هو العاملَ المشتركَ في كل هذه المآسي.

و هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼

و سوف أكمل لكم أن شالله عن العدل في المقال القادم .

إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 

  ‏بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼


                     ‏


 



 

الاثنين، 5 يونيو 2023

the big one 2 _ الـکِـبـْر


 الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

نستكمِل ما شَرْعنا فيه من موضوع سابق عن آفة الكبر :

إن خَليقةَ الكبرِ كانت تمثِّلُ عقبةً كأْداءَ و صعوبةً بالغةً أمام الأنبياءِ و المرسلينَ في دعوتِهم إلى اللَّه تعالَى ، و قد سجَّلَ القرآنُ الكريمُ عِنادَ أقوامِهم و ضلالَهم بسببِ كبريائهم.

حدث ذلكَ مع قوم نوحٍ ، و ثمودَ و عاد ، و قوم شعيبٍ و موسى و عيسى و محمِّدٍ عليهمُ الصلاةُ و السلامُ : { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِۦ يَٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوٓا۟ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ ٱقْضُوٓا۟ إِلَىَّ وَلَا تُنظِرُونِ }{ يونس : ٧١ }.

{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنۢ بَعْدِهِم مُّوسَىٰ وَهَٰرُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِي۟هِۦ بِـَٔايَٰتِنَا فَٱسْتَكْبَرُوا۟ وَكَانُوا۟ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ }{ يونس : ٧٥ }.

{ قَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوا۟ مِن قَوْمِهِۦ لَنُخْرِجَنَّكَ يَٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَٰرِهِينَ } { الأعراف : ٨٨ } 

{ وَعَادًا وَثَمُودَا۟ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَٰكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ أَعْمَٰلَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَكَانُوا۟ مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (٣٩)}{ العنكبوت : ٣٨_٣٩ }.

و نقول أيضًا : إنَّ الكِبرَ و ما اشتق منه ؛ مثل : (( استكبروا ، و استكبرتم ، يستكبر ، و يستكبرون ، و المتكبرين )) قد ورد في معرضِ الذِّمِّ و الوعيدِ في خمسينَ موضِعًا من القرآنِ الكريمِ على الأقلِّ ، و هذا دليلٌ على خطورةِ هذا المرضِ الخلقيِّ اللِّعينِ ، الذي يُصيبُ المجتمعاتِ و يهدِمُها.

و الكِبرُ من أسرعِ الرَّذائِلِ إفسادًا في الأرضِ ، و من أشدِّها فَتكاً بالمجتمعات.

هذا و يجبُ التنُّبهُ إلى أن أسوأَ أنواعِ الكِبر ؛ كِبرُ بعضِ العُلَمَاء ممِّن يَتيهونَ بعلمِهم ، و يزيَّنُ لهم أنهم حراسُ المعرفةِ و سَدَنةُ الموضوعيَّةِ و حريَّٕةِ الرأي ، و لا يجدون حرجًا في أن يخلِطوا الحقائِقَ بالسَّفسطةِ و الأغاليطِ إمَّا عن جهلٍ و إما عن رغبةٍ في إضلالِ الناس.

و مما يزيد الطين بلةً أن كثيرًا من النَّاسِ يَحسبونهم من العُلماءِ الذين يُبلِّغونَ رِسالاتِ اللَّهِ و يَخشونَه و لا يَخشونَ أحدًا إلَّا اللَّهَ .

و هذا النَّوعُ من العُلماءِ يَجهَلُ أو يَتجاهَلُ تحذيرَ النبي ﷺ من عاقبةِ السُوءِ التي تنتظرهم و تنتظُر أمثالَهم.

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _رضي اللّٰه عنه_ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : (( إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمُهُ )) _ أخرجه أبو بكر الآجرِّيُّ في - أخلاق العلماء - : (٨٦) ، و الطَّبرانيُّ في - المعجم الصَّغير- (٥٠٧ ) و البيهقيُّ في - شعب الإيمان - (١٦٤٢) من حديث أبي هريرة رضي اللّٰه عنه.

و عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ : (( يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقى فِي النَّارِ ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ ، فَيَفْزَعُ لَهُ أَهْلُ النَّارِ فَيَجْتَمِعُونَ لَهُ فَيَقُولُونَ لَهُ : يَا فُلَانُ ، مَا لَقِيتَ ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفٍ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ؟ قَالَ : بَلَى ، كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لَا أَنْتَهِي )) أخرجة -البخاريُّ في (( صحيحه )) ( ٣٢٦٧ ) و- مسلم في صحيحه ( ٢٩٨٩) من حديت أسامة بن زيد رضي اللّٰه عنه.

و من أنواع الكبر : 

الكبرُ بالحسَبِ و النَّسَبِ ، و هو مرفوضٌ في ميزانِ الإسلامِ ، لأنَّه يكرِّس طبقيَّةً بغيضةً يمقُتها الإسلامُ و يرفُضُها رفضًا قاطعًا ، فالفخر بالأنساب جهلٌ و تقهقر إلى العصورِ الغابرة ؛ ثم إنه اعتزازٌ بما ليسَ من عملِه و كسبِ يدِه ، و لله درُّ الشَّاعر في قوله و هو يخاطِبُ هؤلاءِ الذين يُحبُّونَ أن يُحمدوا بما لم يفعلوا : 

لَئِن فَخَرتَ بآباءٍ ذَوِي نَسَبٍ 

                     لقد صَدَقتَ و لكن بِئْسَ ما وَلَدُوا.

و يطول بنا الحديث عن أنواع الكبرِ ، الجلِيّ منها و الخفِيّ ، فمنها : الكبرُ بكثرةِ العبادةِ أو بالجمالِ ، أو بالمالِ ، أو بالصِّحَّةِ ، و القائمةُ تطولُ.

و لكن أختم موضوعي هذا أن أهل الكِبرِ هم رموزُ الشَّرفي هذا الكون ، و أنهم تلامِذةُ إبليس رائدِ المتكبِّرين و قائدِهم إلى جهنم .

هذا و من المستكبِرينَ على اللَّهِ ؛ الملحدونَ الذي يأنفونَ من عبادتِه سبحانه ، و يعتقِدون أن الاعترافَ بألوهيَّتِه تعالى تأخُّرٌ و ظلامٌ و رجعيَّةٌ ، و أن مثل هذه الاعتقاداتِ لا تليقُ بعقولِهم الحداثيِّةِ المتطوِّرةِ و المتحضِّرةِ ، فإلحادُهم نابعٌ من (( كبرٍ )) في نفوسِهم و في عقولِهم.

و في الختام نسألُ اللَّه أن يعيذَنا من الكِبرِ و التَّعاظُمِ و الخُيلاءِ ، و سيِّئاتِ أعمالِنا.

و هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼

إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

                     ‏





الجمعة، 2 يونيو 2023

the big one _ الـکِـبـْر


 


الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته

موضوعنا اليوم عن -الكبر- و المتكبرين - ، و هو ليس بالطبع من بابِ الفضيلةِ و لا مكارمِ الأخلاقِ ؛ إن تصورَ فضيلة 

 ((   التواضعِ )) يستدعي _ ذِهنًا _ تصور رذيلة (( الكبرِ )) ، و يستدعيه استدعاء الضَّدَّ للضَّدَّ.

و طلبة العلم يعرفون من عِلم المعاني أن التضاد و أشباهَه يُعَدُّ من الجوامع الحقيقية ؛ لأن (( الوَهم )) يُنزِِلُ المتضادَّيْنِ منزلة المتضايفين ، حتى قالوا : (( إنَّ الضِّدَّ أقربُ خطورًا بالبالِ مع الضِّدِّ من الأمثالِ )) 

و مِن ثَمَّ فمِن المشروع أن يعقُب الحديث عن التواضع حديثٌ عن الكبرِ ؛ إذ هما نقيضانِ أو في قوةِ النقيضين كما يقولُ علماء المنطِقِ ..

و قد سمِعتُم و سمعنا معكم الكثير مما يقال في (( الكبرِ )) و عن (( المتكبِّرين )) .

و ما يُمكِن تلخيصُة ؛ هو المبادرةُ بإدراك الفَرقِ بين الكِبرِ كرذيلةٍ من أشدِّ الرذائل ضَررًا على الفردِ و المجتمع ، و بين ما يَشتبهُ به شَكلًا من المطالب التي لا حَرجَ و لا بأسَ في فعلها او تركها.

ف الكِبرُ هو _ كما قالَ النبي ﷺ _ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ )) ، و معنى هذه العبارةِ : أنَّ المتكبر هو مَن لا يَقبل الحق ، و إنما يَرفُضُه و يتعالَى عليه ، (( غَمط النَّاسِ )) : احتقارُهم و ازدِراؤهم و النَّظرُ إليهم من أعلى ، و هو أيضًا : استعظامُ النفسِ ، والاحساسُ بأنَّ قَدْرَها فوقَ أقدارِ الآخرين.. و هذا كُلُّه شيءٌ ، و ميل الإنسانِ إلى الهيئةِ الحَسنةِ و الملبَسِ الجميل و المنزل النَّظيفِ ، و كلِّ مطالب الجمالِ الوَقورِ في الرَّجُل و المرأةِ شيءٌ آخرُ.

و قد التبَسَ الفرق بين هذين الأمرينِ عندَ أحدِ الصحابة ، و داخَلَه من ذلك شيءٌ في نفسِه حينَ سمِعَ النبي ﷺ _ يقول : (( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ )) ، فقال للنبي ﷺ إنَّ الرَّجُلَ يُجِبُّ أن يكون ثَوبُه حَسَنًا و نَعْلُه حَسَنًا ؟ فقال _ عليه الصلاة و السلام _ (( إنَّ اللّٰه جَمِيلٌ يِجِبُّ الجَمالَ ، الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ ، و غَمْطُ النَّاسِ )) - أخرجة مسلم في صحيحه ( ٩١ )من حديث عبداللّٰه بن مسعود رضي اللّٰه عنه.

نَعم ( الكِبْر ) خَصلتانِ : التَّرفُّع عن قبولِ الحَقِّ و احتقارُ الناس .

و ( المتكبِّرُ ) لا يَقبَلُ الحَقَّ ؛ لأن قبوله يَستلزمُ خضوعَ نفسه للحق ، و هذا أمرٌ يصعُبُ على نَفْسِ المتكبِّرِ ، التي تأبَى الخُضوعَ و الانقيادَ ، و اعتادَت الاستعلاءَ و الغَطرسَةَ .

و إذن فخليقةُ الكِبرِ بكلِّ قبائحها من وادٍ ، و ما يُظنُّ أنه كِبرٌ من حِرصٍ على الهيئَةِ الحسنةِ و الثوبِ الحَسَنِ و ما إليها من وادٍ آخَرَ مختلِفٍ أشدَّ الاختلافِ

و يَلفِتُ أنظارَنا أن التحذير من الكبر و المتكبرين و المتغطرسينَ و مِن أستاذِهم الأكبر إبليس _ وَرَد فيما يُناهِزُ سِتِّينَ مَوضِعًا في القرآن الكريم ، و كلها مواضِعُ ذَمٍّ و تقريع ؛ و لومٍ و توعُّدٍ بالعذابِ الأليم في جهنم ؛ و ليسَ ببعيدٍ ما يُقالُ مِن انٍّ أوَّلَ معصيةٍ للهِ تعالى ارتُكِبَت كانت بسببِ الكِبرِ ، و أن كل ما تلاها من مَعاصي البشر و آثامهم سبَبُه هذه الرَّذيلةُ .

يقص علينا القرآن الكريم أن اللّٰه تعالى أَمَرَ الملائكةَ و معهم (( إبليس)) بأن يَسجُدوا لآدمَ بعدَ أنَ يُسوِّيَه و يَنفُخَ فيه مِن رُوحِه ، و قد نفَّذ الملائكةُ كلُّهم ما أََمَرَهمُ اللّٰه به ، إلَّا إبيلس الذي أَبي عليه (( الـكـبـرُ )) و التَّرفُّع أن يُنَفِّذَ الأمرَ بالسُّجودِ ، محتجًّا بأنَّه أرفعُ من آدام ، و لا يَصِحُّ في عُرفِ أهلِ الكِبرِ أن يسجُدوا لمَن هو أقلُّ شأنًا في نَظرهم .

و كانت حجة إبليس أنه مخلوقٌ من نارٍ ، و آدمُ من طِين ، و جهل أن الكل جماد لا تفاضُل فيه في باب الحاجة و الضرورة ؛ و بقيِّةُ القِصَّةِ معلومةٌ ، و الدرس الذي يُستنبَطُ من هذه القصة في القرآن : أنَّ الكِبرَ منعَ صاحِبَه من تنفيذِ أمرِ اللّٰه ، فاستوجَبَ بسببِه اللعنةَ ، و استحقَّ الطَّردَ من الجِنَّةِ .

و الذي لا يَنتبهُ له كثيرونَ هو أن إبليسَ لم يستشعِرِ النَّدمَ مع هذا العقابِ الإلهيِّ ، و لم يخطِّئْ نفسَه ، و لم يسألِ اللَّهَ العفوَ و المغفرةَ كما فعلَ أبو البشرِ ، و إنَّما حمَلَه كبرُه و غرورُه على الإصرارِ على موقفِه ، فطلبَ من اللّٰه تعالى أن يُمهِلَه ليتفرَّغَ لإضلالِ العبادِ و إغوائِهم بتزيينِ المعاصِي و الآثامِ و الذنوبِ و تشجيعهم على اقترافها .

و معني ذلك أن معاصيَ البشرِ قاطبةً - و جميعُها من وحيِ الشَّيطانِ - إنِّما هي نِتاجُ رذيلةِ الكِبرِ ، و أنَّ قوةَ الشَّرِّ في العالم أساسُها التكبر و الاستعلاء على اللّٰه في الأزلِ ، و أنَّ أصحابَ المعاصي و الآثامِ و السَّيِّئـات ، و الظلـمةَ و المستكبرينَ هم أنصارُ إبليسَ و أعوانُه ومشجِّعوه على متابعةِ مسيرتِه التي انطلقَت مِن تكَبُّرِه و استعلائِه و قال تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰٓئِكَةِ ٱسْجُدُوا۟ لِأَدَمَ فَسَجَدُوٓا۟ إِلَّآ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ }{ البقرة : ٣٤ }.

و قال أيضا في سورة ( ص ) :

{ إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ (٧١) فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ (٧٣) إِلَّآ إِبۡلِيسَ ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ (٧٤) قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ (٧٥) قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ (٧٦) قَالَ فَٱخۡرُجۡ مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٞ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيۡكَ لَعۡنَتِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلدِّينِ (٧٨) }{ ص : ٧١. _٧٨ }.

و قال اللّٰه تعالى أيضًا في سورة ( الأعراف ) :

{ وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ (١١) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ (١٢) قَالَ فَٱهۡبِطۡ مِنۡهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخۡرُجۡ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ (١٣)}

{ الأعراف : ١١ _ ١٣ }.

و لا يذهبنَّ بنا الظنُّ إلى أن الأثرَ التَّدميريَّ لرَذيلةِ الكِبرِ قاصِرٌ على ما يَقعُ بين الأفرادِ ، فهذا ظنٌّ غيرُ صحيحٍ ، و الصَّحيحُ أن هذا المرضَ الخُلُقيَّ التدميريَّ كما يُصيبُ الأفرادَ يُصيبُ الدولَ و الشُّعوبَ سواءً بسواءٍ ، و حالتئذٍ تكونُ الدماءُ و الأشلاءُ و خرابُ الديارِ و التشريدُ من أشنعِ ما تمارسُه الدولُ المستكبرةُ على الدولِ الناميةِ ، دع عنك الفقرَ و الجهلَ و ما إليهما مما يَلحقُ الشعوبَ الفقيرةَ من استبدادِ السياساتِ الجائرةِ و تسلُّطِها على مقدَّراتِ البلادِ و العبادِ.

و هذا و اللّٰه أعلم 🌼

و أعدكم أن نكمل باقي الموضوع بإذن الله تعالى ان نال إعجابكم.

إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼




الاثنين، 29 مايو 2023

Societies need for the poor and the simple

 

حاجةُ المجتمعات إلى الفقراءِ و البسطاء


الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته

يرتبِطُ هذا بموضوعِ (( التواضعَ )) و هو موضوعٌ واسعُ الأطرافِ ، موضوعٌ آخرُ هو منزلَةُ الفقراءِ ، و مدى حاجةِ المُجتمعات إليهِم ، و دَورُهُم التاريخيُّ الكبيرُ في دعمِ الرسالاتِ الإلهيَّةِ و الوقوف إلى جانبِ الأنبياء و المرسلينَ. و التَّاريخُ يُثبتُ أن الفُقَراء كانوا أَذرُع الأنبياء و سواعدَهم القويةَ في نشرِ الدعوةِ إلى اللّٰه تعالى ، و هِدَايةٍ الناس إلى الحقِّ و الخير والجمالِ ؛ كما يُثبتُ أن الترفُّعَ عليهم و الأنفةَ منهم كثيرًا ما مثَّل عقبةً كأْداءَ صدَّتْ المستكبربن ، و أَعمَت أبصارَهم و بصائِرَهُم حتى استحبُّوا الكفرَ على الإيمانِ .
انظر عزيزي القارئ إلى الوجهاءِ مِن قوم نوح _ عليه السلام _ و ما أبدَوهُ مِن عُذرٍ في رَفضِهم و تمرُّدِهم على دَعوته قالوا له : كيف نُصَدِّقُك في دَعوتِك و قد اتَّبعكَ سِفْلَةُ النَّاسِ ، و أراذِلُهُم و خِساسُهم من المساكينِ الذين ليسَ لهم مالُ و لا عِزُّ و لا جاهٌ ، و إنَّا إذا اتَّبعناك صِرنا مثلَهم ، و حُسِبنا عليهم ، ثم كيف نتَّبِعُك و مِنهم من يعملُ في المِهَن المتواضعَةِ في مَنطِق الاعراف و التَّقاليدِ ، و كان ردُّهُ عليه السَّلام : إني لا أعلَم حِرفَتَهم و لا أعمالَهُم ، و لم أُكَلَّف بذلك ، و إنَّما كلَّفني ربِّي أن أدعوَهم إليه و قد أجابوني ، و ما حِسابهُم و حِسابي إلَّا على الذي خلقني و خلقَهم ، و إنكم لو عَلِمتُم ما قلتُه لكم حقَّ العلم ما عبتُم عليهم حِرَفَهم و صنائعَهم ، ثم يَحسِمُ نوحٌ عليه السلامُ حِوارَه مع هؤلاءِ المتكبِّرين بإعلانِ أنه لا يستطيعُ طَرْدَ هؤلاءِ الذين تأنفون من مخالطتِهم فما أنا إلا نذيرٌ يحذِّرُ من معصية اللَّه و يدعُو إلى طاعتِه ، و انتهى حوارُهم معه بتوعدِه بالرجمِ إن هو أصرَّ على موقفِه هذا ولم يتراجع عنه : { كَذَّبَتۡ قَوۡمُ نُوحٍ ٱلۡمُرۡسَلِينَ (١٠٥) إِذۡ قَالَ لَهُمۡ أَخُوهُمۡ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِينٞ (١٠٧) فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَمَآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (١٠٩) فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) ۞قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلۡأَرۡذَلُونَ (١١١) قَالَ وَمَا عِلۡمِي بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (١١٢) إِنۡ حِسَابُهُمۡ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّيۖ لَوۡ تَشۡعُرُونَ (١١٣) وَمَآ أَنَا۠ بِطَارِدِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ( ١١٤) إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٞ (١١٥) قَالُواْ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ يَٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمَرۡجُومِينَ (١١٦) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوۡمِي كَذَّبُونِ ( ١١٧) }{ الشعراء : ١٠٥ _ ١١٧ }.
و قد واجَه نبي الإسلام _ صلواتُ اللَّهِ و سلامُه عليه _ نفسَ الموقفِ مع كفَّار قريش ، و تعاملوا معه بالمعاملةِ ذاتِها ؛ فكانوا يتأفَّفون من الجلوس مع صحابةِ رسولِ اللَّهِ ﷺ ، و كان أكثرُ صحابتِه _ كما نعلمُ _ من الفقراءِ و الفقيراتِ ، و قد سألَه أعيانُ قريش أن يطُردَ من مجلسِه هؤلاءِ العبيدَ و البائسينَ ؛ و منهم : سلمانُ و خبَّابٌ و بلالٌ و عمَّارٌ و غيرهم من ضعفاء المسلمين ، و كان بعض هؤلاءِ يلبسونَ جِبابَ الصوفِ ، و تفوحُ من أثوابِهم رائحةُ العَرَقِ ، فقالُوا له عليه الصَّلاةُ و السَّلامُ : (( لو طرَدْتَ عنَّا هؤلاءِ الأعبُدَ ، أي : العبيدَ و أرحْتَنا من روائحِ جِبابِهم لجلسنا إليكَ و حادثناكَ ))__ أخرجه الطَّبريُّ في جامع البيان ٢٤٠/١٥ ، من حديث سلمان الفارسيِّ رضي اللّٰه عنه.
و قال آخرون : (( لو نَحَّيْتَ هؤلاء عنك حتَّى نَخْلُوَ بك ، فإنَّ و فودَ العرب تأتيك فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد ، ثم إذا انصرفنا فإن شئت فأعدهم إلى مجلسك )) و همَّ النبي ﷺ أن يجيبهم لطلبهم طمعََا في إسلامهم ، فنزلَ قوله تعالى : { وَلَا تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ }{ الأنعام : ٥٢ } و هذه الآية نهيٌ صريحٌ للنبي ﷺ عن إجابة المشركين لطلبِهم ، و فيها تحذير منَ الوقوع في الظلم إن هو فعلَ ذلك ، و فيها تذكير بأن هؤلاء العبيد يدعون ربهم صباحًا و مساءًا و يعبدونه طلبًا لوجهه الكريم ، و ليس لشيء آخر من أغراض الدنيا ؛ و أنت - أيها النبي - لست مسؤولًا عنهم و لا هم مسؤولون عنك .
و في السياق نفسه نقرأ توجيهًا مشابهًا تمام المشابهة من توجيهات اللَّه تعالى لنبيه في الموضوع ذاته و هو قوله سبحانه { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُۥ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمْرُهُۥ فُرُطًا }{ الـكـهــف : ٢٨ } .
و في هذه الآية _ أيضًا _ أمرٌ صريحٌ للنبي ﷺ بأن يَحبِسَ نفسَه مع هؤلاء الذين يعبدونَ ربَّهم بالغداةِ و العشي ، يريدونَ بعبادتِهم و جهَه تعالى لا شيئًا آخر من متاعِ الدنيا ، و أن يَصبِرَ على هذا ، و ألَّا تتحوَّلَ عيناه عنهم إلى غيرِهم ، و يترك مجالسَهم إلى مجالسِ أصحاب الجاهِ و المالِ من أبناءِ الدنيا الذاهلين عن الآخرةِ ، و ألا يتَّبعَ أهواء الغافلين عن ذِكرِ الله ممن اتبعُوا أهواءَهم و أسرفوا في ضلالِهم.
إن الدرسَ الذي ينبغي أن نُفيدَه من هذه الجولةِ السريعةِ مع كتابِ اللّٰه و توجيهاتِه لنبيَّه ﷺ هو أنه لا يصحُّ أن نُقيِّمَ الناسَ على أساسٍ من أشكالهم و مظاهرِهم و إمكاناتِهم الماديةِ ، فكلُّ هذه شكلياتٌ لا دخلَ لها في التعرُّفِ على قدر الإنسانِ لا من قريب و لا من بعيد ، و أن المعيارَ الوحيدَ الذي يُكرم به المرءُ أو يُـهان هو : العملُ الصالح ، و أنَّ قيمةَ الإنسانِ معلَّقةٌ بفائدتِه و أثرِه الطيب في نفسِه و فيمَن حوله ، و هؤلاء الذين يُنظر إليهم و كأنَّهم من الدرجةِ الثانية هم أصحابُ فضلٍ قديمٍ على البشرية جمعاءَ ، و يكفيهم شرفًا أنهم كانوا جنودَ الأنبياء و المرسلين في رسالاتِهم التي أنقدتِ البشريةَ من الضلالِ و أخرجتْها من الظلمات إلى النورِ .
و أختمُ موضوعي بهذه القصةٍ المختصرةٍ ؛ و هي ماترويه كتبُ الحديث و السيرة و التاريخ من أن النبي ﷺ أرسل إلى هرقلَ عظيم الرومِ رسالةً يدعوه فيها إلى الإسلام ، و كان هرقل بالشام حين و صلته الرسالة ، و اتَّفَـق أنْ كان (( أبو سفيان )) على رأس قافلةٍ تجارية بالشَّامِ أيضاً ، فدعاه هرقل و دعا معه مجموعة من كبار قريشٍ و أجلسهُ أمامه ، و أجلس جماعته عند ظهره ثم قال لترجمانه قل لهم إني سائل هذا الرجل عن هذا النبي و قال لهم : فإن كَذَبَنِي ( أي : كذَب عليَّ ) فكَذَّبوه .. وبدأ الملك يسأل أبا سفيانَ عن النبي ﷺ و أبو سفيان يُجيبُ ، و كان من أسئلة الملك لأبي سفيان : فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم !؟ فأجاب أبو سفيان : بل ضعفاؤُهم ، فقال الملك : و هكذا أتباع الرسلِ .
ثم قال لأبي سفيان : (( لئن كان ما تقوله حقًّا فهو نبيٌّ .. و سيملك موضع قدميَّ هاتين )) _ أخرجة البخاريُّ في صحيحه ( ٧ ) ؛ و مسلم في _صحيحه_( ١٧٧٣ ) ؛ من حديث أبي سفيان صخر بن حرب رضي اللّٰه عنه.
و يقصد هنا هرقل أرضَ الشَّام ، و لم تمضِ سنواتٌ قلائلُ حتى دخلَ الإسلامُ الشَّامَ ؛ و صدقَت فراسةُ الملكِ هرقل .
هذا و باللَّه التوفيق
و اللّٰه أعلم 🌺🌺
إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 
  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان
  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼
  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼



الجمعة، 26 مايو 2023

humility _ التواضُع


 

الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته

 هيا بنا نستكمل حديثنا عن فضيلة التواضعَ ولمتابعة الجزء الاول من الموضوع إضغط هنا👈التواضُع

هناك في شريعتِنا الإسلامية _ كما في شرائع الأديانِ كلها ، و بخاصَّةٍ في موعظة سيدنا عيسى على الجبلٍ _ أحاديثُ كثيرةٌ تدور كلُّها حولَ معنى قولة تعالى { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } ، و الدعوة إلى وجوب احترامِ الناس ، و هو قولُه ﷺ: (( أَلاَ أُخْبرُكُمْ بأَهل الجَنَّةِ ؟ قالو: بَلَى ، قالَ : كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ ، لو أقْسَمَ علَى اللًَهِ لَأَبَرَّه ، ألا أُخْبِرُكُمْ بأهلِ النارِ ؟ قالوا : بلي، قالَ : كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبرٍ )) _ متفق عليه ؛ أخرجه البخاريُّ في صحيحة( ٤٩١٨ )  و مسلم في صحيحه ( ٢٨٥٣ ) من حديث_ حارثة بن وهب الخُزاعيِّ رضي اللّٰه عنه _.

و الضعيف المتضعِّفُ هو ما يَستضعِفُه الناس ، أو هو رقيقُ القلبِ لَيِّنُ العريكةِ ، و لكنَّه لو حَلَفَ يمينًا طمعًا في كرم الله بإبرارِه لأَبَرَّه ، و هو كنايةٌ عن أنَّه مُستجابُ الدعوةِ ، أما العُتلُّ : فهو الغليظُ الجافي، الشديدُ الخصومةِ ، و الجوَّاظُ : فيما يقول شُرَّاحُ الحديث هو : الجَموعُ المنوعُ ، أي : الذي يَجمعُ المالَ ، و يمنعُه عن مُستحقِّيه ، ثم يَمشي مُختالًا بين الناسِ ؛ و المرادٌ بأهل الجنةِ في الحديثِ أنَّ أغلبَهم من القسم الأول ، كما أنَّ المرادَ بأهل النارِ أغلبهم منَ القِسمِ الثاني.

و يَرِد في هذا المعني دعاؤه ﷺ : (( اللَّهمَّ أحْيِني مِسكينًا و أَمِتْني مِسكينًا ، و احْشُرْني في زُمرةِ المساكينِ )) أخرجه الترمذي في جامعه ( ٢٣٥٢ ) من حديث أنس بن مالك رضي اللّٰه عنه ، و قال ( حديث غريب ) و أخرجه ابن ماجه في سننه ( ٤١٢٦ ) من حديث_ أبي سعيد الخدري_ رضي اللّٰه عنه.

و قولة ﷺ (( إنَّ اللَّه أوحى إلَيَّ أنْ تواضَعُوا حتَّى لا يَبغِيَ أحَدٌ على أحَدً ، و لا يفخَرَ أحَدٌ على أحَدٍ )) _ أخرجه مسلم في صحيحه ( ٢٨٦٥ ) من حديث _مطرِّف بن عبداللّٰه بن الشِّخِّير_ رضي اللّٰه عنه.

و أيضًا : (( مَا تواضَع أَحَدٌ للَّهِ إلَّا رَفَعه )) _ أخرجه مسلم في صحيحه ( ٢٥٨٨ ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 

و قد خيِّر اللَّه تعالى نبيه بين أن يكون نبيًّا ملكًا ، أو نبيَّا عبدًا فقال : (( نبيَّا عَبْدًا )) إلى آخِر ما ورد في شأن هذا الخُلُق الرفيع الذي يخلُقُ من المجتمع شعبًا قويًّا متماسكًا .

و التأسيس الفلسفي لخُلُق التواضعِ في الإسلام هو أنهُ يأتي نتيجةً حتميِّةً لمبدأُ (( المساواةِ )) الذي أصَّلَه اللّٰه و رسولُه في القرآنِ الكريمِ و السُّنَّةِ المشرَّفةِ ، و كذا مبدأُ رجوعِ الناسِ جميعًا في أصلِهم إلى أبٍ و أمٍّ واحدةٍ ، فلماذا الاستكبارُ إذن بين المتساوينِ ! 

و هذا ما عَناه عمرُ رضي اللّٰه عنه _ في صرختِة التاريخيِّة : (( مَتَى اسْتَعبَدْتُمُ النَّاسَ وَقَدْ و لَدَتْهُم أُمَّهاتُهُم أَحْرَارًا )) _ أخرجة ابن عبد الحَكَم في ( فتوح مصر وأخبارها ) : ١٨٣.

من المؤلم أن نقول : إن فضيلة التواضعِ _ و كذلك فضيلة المساواةِ _ في غير بلادِ غير المسلمينَ أظهرُ و أكثرُ انتشارًا منها في بلادِ المسلمينَ ، و تحليلُ هذه الظاهرةِ و ما تتَضمَّنُه من مُفارقات لا تحتملُه هذه الكتابات.

ففي هذه البلادِ غيرِ الإسلاميِة - مثلًا - لا تجدُ هذا الحرصَ الشَّديدَ على ذِكرِ الألقاب في كل مرةٍ يُخاطب فيها صاحبُ اللقب ، و لا أتحدثُ عن دوائرَ خاصةٍ تقتضي طبيعةُ عملها الالتزامَ بتراتبيَّةِ الألقابِ المحدَّدةِ بلوائح و قوانين خاصة ، و لكن أتحدث عن مخاطباتنا العامة في الدواوين و الوزارات و الجامعات و المكاتب و غيرها ، و ما تعودنا عليه من ضرورةِ اقترانِ الاسم باللقب مثل : ( باشا ، أو بيه ، أو صاحب السعادة ، أو صاحب المعالي ، أو صاحب الفضيلةِ ) أو غيرها من الألقاب التي خَيَّلتْ لأصحابها من فَرْطِ تكرارها على مسامِعِهم أنَّهم مُتميزون فعلًا على غيرهم ، و أنهم ينتمونَ لطَبَقةٍ أعلى و أسمى منزلة من طبقات الآخَرين ، و كثيرًا ما خُيِّلَ لأصحابِ هذه الألقابِ أنَّهم نُخبةٌ مُتميِّزةٌ ، و أن أبناءَهم ليسوا كبقية أبناء الناس ، و من حقِّهم أن يَتميِّزوا باستثناءاتٍ في الوظائفِ و المناصبِ يسبقونَ بها أصحاب الكفاءات العليا من أبناء و بنات الطبقات المغمورة في المجتمع ، و أن من حقهم أن يُورِّثُوا أبناءهم و ظائفهم و كراسيَّهم التى يجلسون عليها.

و هذا السلوكُ الذي تشقى به شريحةٌ عريضةٌ منَ الناس أساسُه التنكُّرُ لخُلُقِ (( التواضعِ )) و مبدأِ المساواةِ ، و الانزلاقُ_ اللا شعوري المتدرِّجُ _ في هاويةِ ( الكِبْرِ و الاستعلاء ) و التصنيفُ الزَّائفُ للناس على أساسِ المالِ و الجاهِ ، و ليسَ على أساس العملِ الصالحِ و الخُلُق الحسَنِ الطيب.

و ليس من الإسلام و لا من مكارم الاخلاق - الترفُّعُ- على الفقراءِ ، و التأفُّفُ من البسطاءِ ، أو النظرةُ الدونيَّةُ لمن يعملُ في أعمالٍ أو حِرَفٍ متواضعةٍ ، و ليس من الإسلام و لا من التحضُّر و لا من مكارم الأخلاق تصنيفُ العائلات إلى طبقات ، بعضُها فوق بعضٍ ، و امتناعُ عائلاتٍ من تزويج بناتِها من عائلاتٍ أخرى كِبرًا و تعاليًا ، و المسلمُ الحقيقيُّ هو من يقولُ : سمعًا و طاعةً لأمر النبي ﷺ في قولة : (( إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَه و خُلُقَه فَزَوِّجُوه ، إلَّا تَفْعَلُوا تكُنْ فِتْنَةٌ في الأَرضِ و فَسَادٌ كَبيرٌ )) ، صدق رسولُ اللّٰه ﷺ.

_ أخرجة الترمذي في جامعه ( ١٠٨٤ ) و ابن ماجه في سننه ( ١٩٦٧ ) من حديث أبي هريرة رضي اللّٰه عنه.

و هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼

إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼🌼🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

الاثنين، 22 مايو 2023

humility التواضعِ


الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته 

موضوعنا اليومَ مختلف تمام الاختلاف عَما سَبْقَّ و هو عن فضيلةِ التواضعِ و أثرِها القويِّ في تماسكِ المجتمعِ و استقرارُه.

و هذه الفضيلةَ صاغها اللهُ تعالى بخطاب على هيئةِ أوامر و جهها لنبيِّه ﷺ مذكرًا إيَّاه أنه أوتي سبعًا من المعاني _ و هي الفاتحةُ _ و أنه أُتي القرآن ، و وصفه بأنه عظيمٌ لما يتضمنُه من جميعِ ما يحتاجُ إليه البشرُ من أمورِ الدِّينِ و الدنيا ، و هذا العطاءُ لا يقارن به عطاءٌ آخرُ مهما غلا ثمنُه و علا شأنُه.

لذلك نهَى اللَّهُ تعالى نبيَّه أن يَمُدَّ عينيه ، و يتبع بصره ما يتمتعُ به بعضُ الكافرين من نِعَمِ الدنيا التي أغدقَها عليهم منَ المالِ و الجاهِ و الأولادِ و سعة العيش و رفاهيته ، فإن كلَّ ذلك إلى زوالٍ و فناءٍ ، طال العُمْرُ أو قَصُر ، بل إن مصيبةَ الفقدِ و الزوالِ لا تقفُ عند هذا الحدِّ ، و إنما يتلوها ما هو أشدُّ و أعنفُ في سلسلةٍ لا تنتهي من سؤالٍ و حساب و جزاءٍ و عقابٍ ، ثم يعقُب هذا نهيُ اللَّه له أن يحزنَ على حالِ هؤلاءِ و مصيرِهم ، و عنادِهم و استحبابِهمُ الكفرَ بالله تعالى على الإيمان به ؛ ثم يأتي التَّوجيهُ الإلهيُّ الحاسمُ و فيه يأمر اللَّه نبيه ﷺ بالتواضعِ للمؤمنين و الرفق بهم ، و أن يُلينَ لهم جانبَه ، فهؤلاءِ هم أتباعُه والمؤمنون به ؛ و في هذه الآية درسانِ : ش١ض

الدرسُ الأول : أن أهل الثراء و الجاهِ و الرفاهيةِ يسرع إليهم الكبرُ أكثرَ من غيرهم لتوفر أسبابه و وداعيه 

و الدرسُ الثاني: هو أن التواضعَ و خَفضَ الجناح و لينَ الجانب هو خُلُقٌ عظيمٌ ، أمر اللَّه به نبية ﷺ يقولُ الله تعالى مخاطبًا نبيَّه ﷺ { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَٰكَ سَبْعًا مِّنَ ٱلْمَثَانِى وَٱلْقُرْءَانَ ٱلْعَظِيمَ ( ٨٧ ) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ( ٨٨ ) }

{ الحجر : ٨٧_٨٨ }.

و قد يُقال : لِمِ أمرَ اللَّه نبيَّه بالتواضعِ للمؤمنينَ خاصةً ، و لم يأمُرْه بالتواضع مع غيرِهم ؛ و الجوابُ : أن التواضعَ لأهلِ الكفرِ و الطغيانِ مَذَلَّةٌ و خُضوع و انكسار، و معاذ اللّه أن يأمر برذيلةٍ من هذه الرذائلِ اللاآدميَّة.

و يرد في سياق الموضوع ذاته قوله تعالى : { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }{ الشعراء : ٢١٥ } ، و في معناه أيضا : قوله تعالى : { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }{ لقمان : ١٨ } و معنى { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } : لا تُشح بوجهك عن الناس كبرًا و إعراضا عنهم.

و التواضعُ هو الرفق و لين الجانب ؛ و هو يستلزم السَّماحةَ في القولِ ، و الأدبَ في الفعلِ .. و ليس التواضعُ مَذلَّة و لا مَهانةً ، و البُعد بينه و بين هاتينِ الرذيلتينِ هو بُعدُ ما بين المشرقِ و المغربِ ؛ فالتواضعُ مرتبطٌ أشدَّ الارتباطِ و أوثقَه بفضائلَ أخرى كالرحمةِ بالعبادِ ، و الخشوعِ لله تعالى ، و الخضوعِ لعظمتِه و سُلطانِه ، أما الذلُّ فهو بَذْلُ النفس و بيعُها في سوق الشَّهواتِ و الأعراضِ ، و يَتبعُه الهوانُ و المهانةُ و اعتيادُهما ؛ و قال الشَّاعرُ : 

مَـنْ يَـهُـنْ يَـسْـهُـلِ الـهَـوَانُ عَـلَـيـهِ

                           مــا لـجُــرْح بــمَــيِّـتٍ إيــلـامُ 

 و هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼 ‏

إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

تشغيل الأطفال بين الإفراط و التفريط - Children's work

  الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،  السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته. أن الأصل في مرحل...