المتابعون

الاثنين، 31 أكتوبر 2022

التهديد بالإيذاء و ضيق قريش

___ضيق قريش___



و مع مخالفتهم له لم يتعرضوا لإيذائه حتي عاب آلهتهم ، و كل ما كانوا يفعلونه أنهم كانوا يسخرون به في مجالسهم ، فإذا مر عليهم قالوا : هذا ابن أبي كبشة يُكَلَّم من السماء ، وهذا ابن عبد المطلب يكلم من السماء ، واستمروا على ذلك حتي عاب آلهتهم لما دخل المسجد الحرام فوجدهم يسجدون للأصنام ، إذ ينهاهم قائلًا : (( أبطلتم دين أبيكم إبراهيم )) فقالوا : إنما نسجد لها تقربًا إلى اللّٰه ، فعاب صنعهم و أظهر لهم ضعف آلهتهم و هوانها ، و سفه عقولهم.

فثارت فيهم حمية الجهاليه ، و غضبوا لآلهتهم التى وجدوا على عبادتها آباءهم فذهبوا إلى عمه أبي طالب الذي أخذ على نفسه حمايته ، فطلبوا منه أن يخلي بينهم وبينه أو يَكُفَّه عما يقول ، فردهم ردّّا جميلًا فانصرفوا عنه .

لكن رسول اللٌٰه ﷺ مضى فى دعوته غير عابئ بعدواتهم له ورد احتجاجهم بتقليد الآباء بنحو قوله تعالى في سورة المائدة:

 «وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُواْ حَسۡبُنَا مَا وَجَدۡنَا عَلَيۡهِ ءَابَآءَنَآۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَآؤُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا وَلَا يَهۡتَدُونَ» {المـائدة:١٠٤} 

 ‏و قوله في سورة الزخرف: 

 ‏« بَلۡ قَالُوٓاْ إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّهۡتَدُونَ » {الزخرف:٢٢}

و قول له :

 « قَٰلَ أَوَلَوۡ جِئۡتُكُم بِأَهۡدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمۡ عَلَيۡهِ ءَابَآءَكُمۡۖ قَالُوٓاْ إِنَّا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ كَٰفِرُونَ »{الزخرف: ٢٤}


فذهبوا إلى عمه أبي طالب و قالوا له : إن لك سنًّا و شرفًا و منزلة منا ، و إنا قد طلبنا منك أن تنهى ابن أخيك فلم تنهه عنا ، و إنا و اللّٰه لا نصبر على شتم آبائنا و تسفيه عقولهم و عقولنا و عيب آلهتنا ، فإما أن تكفه عنا أو ننازله و إياك في ذلك حتى يهلك أحد الفرقين ، ثم انصرفوا.

فعز على أبى طالب فراق قومه ، و لكنه لم يطب نفسًا بالتخلي عن ابن أخيه ، فقال : يا بن أخي ، إن القوم حدوثني في عيبك لآلهتهم و تسفيه عقولهم و عقول آبائهم ، و حدثه عما هددوه به ، ثم قال : فأبق على نفسك و لا تحملني من الأمر ما لا أطيق.

فظن الرسول ﷺ أن عمه خاذِلُه فقال :(( و اللّٰه يا عم لو و ضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما فعلتُ حتى يظهره اللّٰه أو أَهْلِكَ دونه )) ثم بكى وولى ، فقال أبو طالب : أقبِلْ يا ابن أخي ، فأقبل عليه ، فقال : اذهب فقل ما أحببتَ ، و اللّٰه لا أسلمكَ أبدًا.

و هذا و الله أعلم 🌺

____________________________________

  نكمل أن شالله في الأيام القادمة مع (موقف أبي طالب الكريم) 🌺

دعواتكم لى بالتوفيق 🌺 

بكل الحب والوفاء و بأرق كلمات الشكر والثناء أشكركم ✋




الجمعة، 28 أكتوبر 2022

ماليزيا و المنهجُ الحضاريُّ الإسلامي

 فرصةُ التعرُّف على القفزة الحضاريَّة الَّتي قطعتها ماليزيا فى مختلف الجوانب سوف نتعرف عليها معا في طيات هذا الموضع الشيق عن قرب على

 (( ملامح المنهج الحضاري الإسلامي الماليزي ))

 الذي تتبنَّاه ماليزيا للتقدم و الارتقاء ،  و هو منهج يُركَّز كما هو واضح في الأساس على الجانب الحضاري في الإسلام ، هذا الجانب الذي يُعَدُّ في  حقيقة الأمر الفريضةَ الغائبة لدى غالبيَّة المسلمين في عالم اليوم.


وقد خَطَتْ ماليزيا خطواتٍ موفَّقَةً في مجال التَّنمية الاقتصاديَّة و لكنها فى الوقت نفسه تريد الحفاظ على هويتها الدَّينَّيِة وثقافتها الإسلامية.

و بتطبيق هذا المنهج تَطمح ماليزيا إلى الخروج من دائرة الدول النَّاميَة و اللحاق بِرِكْب الدُّول المتقدمة ، وفي سعيها لبلوغ هذا الهدف  تقومُ بحملةٍ و اسعةِ النَّطاق في كل أرجاء ماليزيا على جميع المستويات لشرح هذا المنهج و توضيح أهدافِه و بيان فوائِده الَّتي تعود بالخير على جميع طوائف الشعب بمختلف أعرافه و أديانه.

أَطْلَقَتٔ ماليزيا مبادرة المنهج الحضاري الإسلامي لتواجة تيارات الفهم القاصر للإسلام الذي يَعوق تقدم الأمة و يَحُول دون الأخذ بمعطيات العصر و علومه و تقنياتة، و تُؤكَّد هذه المبادرة أن الإسلامَ دينُ مُتجدَّدُ و عصريُّ، 

وأنَّ الجمود يَنبع نظرة المسلمين إليه و تفسيرهم لتعاليمه تفسيرًا قاصرًا و هذا أمر يجب إعادة النظر فيه ، ف الإسلام يدعو إلى إعمال العقل و يَحُثُّ على التَّفكير و الاجتهاد و مطالبون نحن المسلمون بإحياء هذه المبادئ و تفعيل هذه القِيم الأسلامية الدافعة إلى تقدم الأمة إذا أرادوا تطويرَ مجتمعاتهم و عدم التخلُّف عن مواكبِة العصر 

و تَتَلخَّص مبادئ هذا المنهج الحضاريِّ الإسلاميّٓ فى عشرة بنود

١_ الإيمانُ و تقوَى اللَّه

٢_عدالة الحكومة و أمانتها

٣_ حريَّة الشعب

٤_ التَّمكُّن من العلوم و المعارف

٥_التوازن و الشمول في النَّهضة الاقتصاديَّة

٦_النمو الاقتصادي و الرفاه المعيشي

٧_حماية حقوق الأقلَّيَّات و المرأة

٨_غرس القِيَم و الأخلاق

٩_الحفاظ على البيئة

١٠_ تعزيز القوَّة الدَّفاعيَّة للوطن

و البند الأول في هذا المشروع و هو ((الإيمان باللَّه)) لم يُوضَع اعتباطًا أو بقصد التَّجمُّلِ  و إرضاء المشاعر الدَّينيَّة لدى مسلمي ماليزيا الذين يشكَّلون نسبة ٦٠٪ تقريبا من تعداد السُكان في مجتمع متعدَّد الأعراق و الدَّيانات ، و إنما قُصِد  بجعل الإيمان باللَّه أوَّلَ هذه المبادئ أن يكون الدَّينُ هو الأساس الَّذي تَنبني عليه بقيَّةُ المبادئ. و إذا كان الأساس سليمًا فإنَّ ذلك يكون بمثابة  ضمانة أكيدة وركيزة راسخة تنطلق منها بقيَّة المبادئ و تطبيقاتها.


و قد أَدْرَكَت ماليزيا أن الفَهْمَ الصَّحيحَ للإسلام له دورُ بالغُ الأهمَّيَّةِ و عميقُ الأثر في توجيه سلوك النَّاس التوجيه الصَّحيح، و في المقابل فإنَّ الفَهْم العقيمَ للإسلام يُشكَّل عقبةً كبرى في سبيل أيَّ تقدم للمجتمع ، و لا شكَّ في أن الإسلام بتعاليمة السمحة دينُ يَشمل على كلَّ القِيَم الحضارية التي من شأنها أن ترتقي بالمجتمع و تعلي من شأن أفراده و تَحمي تعدُّديَّتَه الدَّينيَّهَ و العِرقيَّةَ و تحافظ على التَّماسكِ بين جميع فئات الأمَّة من أجل تحقيق الآمال المرجوَّةِ للمجتمع بأسره.

و الإضافة إلى تأكيد دور الدَّين و أهميته في تقدُّم المجتمع  يَشمل المنهج المذكور على مجموعة من القِيَم الأساسيَّة الدَّافغة إلى النهوض بالأمَّة و الارتقاء بها و كُلُّها قِيَمُ إسلاميَّةُ و إنسانيَّةُ فى الوقت نفسه.

و أَهمُّ هذه القِيَم : الحريَّةُ و العدالةُ و الأمانةُ و العلمُ و المعرفةُ وحقوقُ المرأة ، و حقوق الأقليات الدِّينيَّةِ و العِرقيَّةِ ، و الحفاظ على البيئة ، و ضمانُ مستوي معيشيٍّ معقولٍ للإنسان ليَشْعُر بآدميته و كرامته ، و حمايةُ أمن الوطن و المواطنين ، و إحاطةُ ذلك  كله بسياج من القِيَمِ الأخلاقيَّةِ.

و يمكن القول في إيجاز شديد بأن هذا المنهج يَهدف إلى تحقيق التَّنمية الشَّاملِة في المجتمع ، و فى هذا الإطارِ يُركِّزُ على بناء الإنسان بناءّ سليمًا ؛ فالإنسان هو عمادُ أيِّ تنمية و هو صانعُ الحضارةِ و هو غايتُها أيضا.

و من هنا يأتي الاهتمام بضمان كلِّ ما يُوفِّرُ له السَّعادةَ في دنياه و أخراه ، و الفَهْمُ الصَّحيحُ للدِّين من شأنه أن يُوفِّر المناخ المناسب لتحقيق كل هذه الطموحات.

و المنهج الحضاريُِّ الإسلامي يَعتَمد في تطبيقه على تحقيقِ فَهْمٍ مستنيرٍ للدِّين يُواكب متطلباتِ العصرِ ، و من هنا يُركِّز على أنَّ الدِّينَ دعوةُ إلى التَّعمير و البناء الحضاريِّ استجابةً للأمر الإلهي بإعمار الأرض و صُنع الحضارة فيها 

إن الدِّينَ حياةُ مُتدفِّقَةُ بالخير ، عامرةُ بالأمن ، و ليس دروشة فارغةً أو شكليَّات لا روح فيها و لا حياة ، و المتأمل في بنود هذا المنهج الحضاريِّ الإسلاميِّ يَتَّضح له مدى الارتباط الوثيق بين الإيمان و العمل الصَّالح ، و بين الدِّين و الدّنيا ، و بين هذه الحياة الَّتي نَعيشها و الحياة الأخري المستقبليَّة

إن الإنسان في هذا المنهج يُعَدُّ حَجَر الزِّاويةِ ، فالمنهج بكل بنوده يسعى إلى الارتقاء بالإنسان أشرفِ مخلوقاتِ اللَّهِ ، وخليفته في الأرض و الذي كلَّفه الله بعمارة الأرض ونشر الأمن و السلام و الخير في كل أرجائها

و المطلوب إذن هو أن يَتجه الجميع للعمل بقلوب عامرة بالإيمان بعيدًا عن الشكليات الَِّتي لا أثر لها و لا تأثير ، و بعيدًا عن كل شكل من أشكال التشدد والغلوِّ فى الدِّين و أن تصبح هذه القلوب عامرة بحب الله و بحب الناس.

و لا ننسي أن ندعو لهذه الدولة الفتية بالتوفيق و النجاح في تحقيق آمال شعبها حتي تكون نموذجًا يُحْتَذَى به لأمِّتِها الإسلامية🌺🌺🌺


الأربعاء، 26 أكتوبر 2022

مدرسة الدعوة والدعاة و الجهر بالدعوة



مدرسة الدعوة والدعاة:

 ولما وصل عدد المسلمين إلى ثلاثين أصبح ضرورة أن يضمهم مكان يستمعون فيه إلى توجيهات الرسول ﷺ وهدايته حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم و تثبت دعائمه فى نفوسهم ، و تجري حججه على ألسنتهم في المعركة المقبلة بين الحقق والباطل ، وكان لا بدَّ لهذا المكان أن يكون بعيدًا عن مسامع قريش وعيونهم ليكون من فيه بمأمن من شرورهم فاتخذ النبي ﷺ دار الأرقم المخزومي مدرسة للدعوة و الدعاة ، و كانت خارج مكه و كان الأرقم من السابقين الأولين إلى الإسلام.

فكانت هذه الدار مدرسة للدعوة و الدعاة الذين سوف يحملون مشاعل الحق و يرفعون لواءه في العالمين ، كما كانت دارًا للحكمة يعالج فيها الرسول بحكمته جراح القلوب و آلام النفوس و الأبدان من تأنيب قريش و توبيخهم و إيذائهم لمن آمن من أبنائهم و مواليهم.

و كان لهذه المدرسة أثرها في أهل مكة؛ إذ دخل بسببها من رجالهم و نسائهم عدد يمكن أن يكون قاعدة للانطلاق بالدعوة و الجهر بها بين الناس.


مرحلة الجهر بالدعوة :

مكث النبي ﷺ ثلاث سنين يدعو إلى الإسلام سرًّا ، حتى إذا أصبح لديه عدد من المسلمين يسمح بدخول معركة الجهر بدعوة اللّٰه نزل عليه قوله تعالى:

«فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ»{الحجر:٩٤} أي اجهر به 

« وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ»{الحجر:٩٤}.

فصعد النبي ﷺ على جبل الصفا و جعل ينادي بطون قريش بقوله: يابني فهر ، يابني عدي ، يابني زهرة ، فجعل الرجل إذا لم يستطع الخروج أرسل رسولًا لينظر الخبر ، فلما اجتمعوا قال ﷺ ( أَرَأَيْتُم لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدَّقِيَّ؟)

قالوا : نعم ما جربنا عليك كذبًا ، قال : (فَإِنَّي نَذِيرُ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَاب شَدِيدٍ) فقال أبو لهب :تبًّا لك ، ألهذا جمعتنا ؟

فأنزل اللّٰه في شأنه : 

«تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴿1﴾ مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ﴿2﴾ سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴿3﴾ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ﴿4﴾ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴿5﴾»{المسد: ١_٥} .

 و المراد من حمل امرأته للحطب : إشعال نار الفتنه ضد رسول اللّٰه ﷺ تلقيه من الأكاذيب بين نساء قريش و كانت تمشي بالنميمه ، لتحمل على معاداة الرسول ﷺ و إيقاد الحرب و الخصومة عليه ، و شبهب النميمة بالحطب؛ لأنها توقد الشر فتفرقه بين الناس ، كما أن الحطب يكون و قودًا للنار و قيل :  كانت تحمل الشوك و تنشره ليلًا فى طريق النبى ﷺ لتؤذيه. و الله أعلم

إنذار عشيرته الأقربين:

ثم أنزل اللّٰه_تعالى_عليه : 

« وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ »{الشعراء: ٢٤١}  و هم بنو هاشم ، و بنو نوفل ، وبنو عبد شمس ، أولاد عبد مناف و أمره بالتواضع للمؤمنين بقوله: 

« وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » {الشعراء:٢١٥}  و أمره بالتبرؤ من عمل عشيرته إن لم يستجيبوا إليه بقوله:

« فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ » { الشعراء: ٢١٦}  فجمعهم النبي ﷺ و قال لهم : (( إن الرائد لا يكذب أهله ، و اللّٰه لو كذبتُ الناس جميعًا ما كذبتكم و لو غررتُ الناس جميعًا ما غررتكم ، و اللّٰه  الذي لا إله إلا هو إني لرسول اللّٰه إليكم خاصة و إلى الناس كافة ، و اللّٰه لتموتن كما تنامون ، و لتبعثن كما تستيقظون و لتحاسبن بما تعملون ، و لتجزون بالإحسان إحسانًا و بالسوء سوءا ، و إنها لجنة أبدًا أو لنار أبدًا.

فتكلم القوم كلامًا لينا سوى عمه أبى لهب فإنه قال : خذوا على يديه قبل أن يجتمع عليه العرب ، فإن أسلمتوه إذًا ذللتم و إن منعتموه قتلتم . فقال  أبوطالب : واللّٰه لَنَمْنَعنَّه ما بقينا. ثم انصرف الجمع مخالفين له.

و هذا و اللّٰه أعلم 🌺







السبت، 22 أكتوبر 2022

مرحلة الدعوة إلى الإسلام سرًّا وبيانُ السابقيَن إليه


 الدعوة إلى الإسلام سرًّا لا بد للداعي الحكيم من التدرج في دعوته كيلا يفشل فيها، و هكذا فعل النبي ﷺ ، فقد بدأ بخاصتة فدعاهم سرًّا إلى الإسلام ، و أولُ من آمن به منهم زوجته خديجة بنت خويلد _رضي اللّٰه عنها_ فلم يسبقها إلى الإيمان أحدُ من الرجال و النساء بالإجماع، كما قال ابن الأثير.

وممن آمن به في أول الدعوة ابنُ عمه على بن أبي طالب _ رضي عنه_ و قد كان في كفالته ﷺ، فإن قريشا أصابتهم مجاعةُ، و كان أبوطالب مُقِلًّا في المال كثيرَ العيال، فقال ﷺ لعمه العباس :((إن أخاك أبا طالب كثيرُ العيال، و الناس فيما ترى من الشدة، فانطلق بنا لنخففَ من عياله، تأخذ واحدًا و أنا آخذ وحدًا))، فانطلقا وعرضا عليه الأمر فوافق، فأخذ العباس جعفرًا و أخذ النبي ﷺ عليًّا فكان عنده كأحدِ أولاده إلى أن جاءت الرسالةُ إليه فآمن به عليُّ،

وقد ناهز الاحتلامَ، وقد انتفع عليُّ بوجوده مع النبي ﷺ إذ لم يتدنس بدنس الجاهلية من عبادة الأوثان و اتباع هوى النفس قبل أن يبادر بالإسلام، فلما أكرمة اللّٰه بالإسلام ازداد زكاةً و طهرًا.

ومن السابقين الأولين زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي مولى رسول اللّٰه و حبُّه، و كان قد أُسر في الجاهلية، فاشتراه حكيمُ ابن خزام لعمته خديجة بأربع مئة درهم فاستوهبه النبي ﷺ منها فوهبته إياه، و جاء أبوه و عمه كعب إلى مكةَ و طلبا أن يفدياه فخيَّره النبي ﷺ بين أن يدفعه إليهما أو يبقيه عنده، فاختار البقاءَ عنده، فلاماه فلم يرجع وقال:(( لا أختار عليه أحدًا)).

فقام عليه الصلاة والسلام إلى الحِجر وقال:{{ اشهدوا أن زيدًا ابني يرثني و أرثه}}؛ فطابتْ أنفسهما و انصرفا فدُعي زيدَ بن محمد، فلما جاءت الرسالةُ سارع إلى الإيمان به ﷺ. ثم نُسخت سُنَّة التبني التي كانت معروفة في الجاهلية بقوله تعالى:

««ٱدْعُوهُمْ لِأَبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوٓا۟ ءَابَآءَهُمْ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِى ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمْ»» {الأحزاب:٥}، فأصبح يُدعى زيد بن حارثة.

وأول من آمن به غير أهل بيته من البالغين الأحرار أبو بكر ابن أبي قحافة التْيمي القرشي، و كان صاحبًا لرسول اللّٰه قبل النبوة عالمًا بما أتصف به من مكارم الأخلاق و تنزهه عن الكذب من أن اصطحبا.

فعندما دعاه إلى الإسلام قال: ((بأبي أنت و أمي! أهل الصدق أنت، أشهد أن لا اله إلا اللّٰه و أنك رسول اللّٰه))، وكان _ رضي اللّٰه عنه_ معظَّمًا في قريش ، على سعة من المال و مكارم الأخلاق، سخيًّا عفيفًا، حسَنَ المجالسة؛ و لذلك كان للرسول بمنزلة الوزير، فكان يستشيره في أموره كلها، و لقد شرفه الرسولُ بهذه الشهادة إذ قال ﷺ: ((ما دعوتُ أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة، غيَر أبي بكر)).

و قد عاون الرسول في الدعوة إلى الإسلام سرَّا، و كان لا يدعو إلا من يثق به، و ممن آمن بدعوته عثمان بن عفان بن أبي العاص الأموي القرشي ،. و كان شابّّا لا يتجاوز العشرين من عمره، و لما علم عمه الحكم بإسلامه أوثقه كتافًا و قال له: أترغب عن دين آبائك إلى دين مستحدث؟! و حلف ألا يحله حتي يدع هذا الدين، فقال عثمان: واللّٰه لا أدعه و لا أفارقه، فلما رأى عمه صلابته في الحق تركه.

و منهم الزبير بن العوام بن خويلد القرشي من زوجته صفية بنت عبدالمطلب عمة النبي ﷺ، و كان في سن الاحتلام ، و كان عمه يعلقه حصير و يرسل عليه الدخان ليرجع إلى دين آبائه فلم يزده هذا إلا ثباتاً.

و منهم سعد بن أبي وقاص الزهري القرشي أحد العشرة المبشرين بالجنة و أحد أصحاب _الشوري الستة_ أسلم و هو ابن تسع عشرة سنة، و لما علمت أمه ((حَمْنَة بنت أبي سفيان)) بإسلامه قالت له :[[ ياسعد بلغني أنك قد صبأت، فو اللّٰه لا يظلني سقف من الحر و البرد، و أن الطعام و الشراب علىّ حرام حتى تكفر بمحمد، و بقيت كذلك ثلاثة أيام، فجاء سعد إلى رسول اللّٰه ﷺ و شكا إليه أمر أمه، فنزل في ذلك قوله تعالى في سورة العنكبوت]]

««وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»»{العنكبوت:٨}

و هذه الآية دستور عام فرض اللّٰه فيه أن يحسن الإنسان إلى والديه مسلمين أو كفارين و أن يطيعهما في غير معصية، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، و أن المرء غير مسئول عن إشراك و الديه أو معصيتهما، فإليه تعالى مرجع الجميع فينبئهم بما كانو يعملون و يجازيهم على عملهم خيرًا أو شرًّا، و ذلك على حد قوله تعالى:

««قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ۚ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ»»{الأنعام:١٦٤}.

ومنهم _طلحة بن عبيداللّٰه التميمي القرشي_ أحد العشرة المبشرين بالجنة و أحد أصحاب _الشورى الستة_ و سبب إسلامه ما أخرجه ابن سعد عنه؛؛ قال.

حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم أفيهم أحد من أهل الحرم. قال طلحة: نعم أنا. فقال: هل ظهر أحمد؟ قلت: من أحمد ؟قال: ابن عبداللّٰه بن عبد المطلب، هذا شَهْرُه الذي يخرج فيه، و هو آخر الأنبياء. ومَخْرَجُه من الحرم، و مُهاجَرُه إلى نخيل و حَرَّةٍ و سِبَاخ، قال طلحة: فوقع قوله في قلبي، فخرجت سريعًا حتي قدمت مكة، فقلت: هل كان من حدث؟ قالوا نعم، محمد الأمين تنبأ و قد تبعه ابن أبي قحافة فخرجتُ حتي أتيت أبا بكر، فخرج بي إليه فأسلمت فأخبرتهُ بخبر الراهب.

ومن السابقين الأولين إلى الإسلام _صهيب الرومي_ وكان عبدًا و _عمار بن ياسر العنسي _ رضي اللّٰه عنهم_ قال عمار (( رَأَيْتِ رَسُولَ اللّٰه ﷺ وَمَا مَعَهُ إِلَّا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ وَامْرَأَتَانِ وَأَبُوبَكْرٍ)) و كذلك أسلم أبواه ياسر وسمية.

و منهم عبداللّٰه بن مسعود، و قد كان يرعى الغنم لبعض مشركي قريش، فلما علم بمبعثه ﷺ بادر إلى تصديقه و لزمه و كان كثير الدخول على رسول اللّٰه ﷺ لا يُحجَبُ عنه و كان يمشي أمامه و يوقظه إذا نام.

و من السابقين الأولين _أبو ذر الغفاري_ و كان من أعراب البادية، فصيحًا حلو الحديث، و لما بلغه مبعث رسول اللّٰه ﷺ قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واسمع من قوله ثم ائتني. فانطلق حتى قدم مكة و سمع من قول الرسول ﷺ، ثم رجع إلى أبي ذر الغفاري فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق و يقول كلامًا ما هو بالشعر، فقال : ما شفيتني مما أردت، فتزود و حمل قربة له فيها ماء حتي قدم مكة فأتى المسجد فالتمس النبي ﷺ و هو لا يعرفه و كره أن يسال عنه، لما يعرفه من كراهة قريش لكل من يخاطبه، حتي إذا أدركه الليل رآه علىُّ بن أبى طالب فعرف أنه غريب فأضافه عنده و لم يسأل أحد منهما صاحبه عن شيء، فإن من عادة العرب أن لا يسأل أحدهم ضيفه عن سبب قدومه إلا بعد ثلاث.

فلما أصبح احتمل قربته وزاده إلى المسجد و ظل ذلك اليوم لا يراه الرسول ﷺ حتى أمسى فعاد إلى مضجعه، فمر به علىُّ فقال: أما آن للرجل أن يعرف منزله الذي أضيف به بالأمس؟ فأقامه فذهب معه لا يسأل أحدهما صاحبه عن شيء.

حتي إذا كان اليوم الثالث عاد علىُّ مثل ذلك، ثم قال له علىُّ: ألا تحدثني ما الذي أقدمك ؟ قال : إن أعطيتني عهدًا و ميثاقًا لترشدني فعلتُ، ففعل فأخبره، قال علىُّ : فإنه على حق وهو رسول اللّٰه، فإذا أصبحتَ فاتبعني، فأني إن رأَيت شيئًا أخافه عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيتُ فاتبعني حتي تدخل مدخلي، ففعل فانطلق يتبع أثره حتى دخل على النبي ﷺ و دخل معه و سمع من قوله و أسلم مكانه، فقال النبي ﷺ:(( ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي))، قال: و الذي نفسى بيده لأصرخنَّ بها بين ظهرانيهم، فخرج حتي أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا اللّٰه و أن محمدًا رسول اللّٰه. فقام القوم فضربوه حتى أضجعوه، و أتى العباس فأكب عليه و قال: ويلكم! أَوَلستم تعلمون أنه من غفار و أن طريق تجارتكم إلى الشام عليه فأنقذه منهم ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه و ثاروا عليه فأكب العباس عليه، وكان _رضي الله عنه_ من أصدق الناس قولًا و أزهدهم في الدنيا.

ومن السابقين الأولين سعيد بن زيد العدوي القرشي و زوجته فاطمة بنت الخطاب أخت عمر.

و منهم خالد بن سعيد بن العاص الأموي القرشي، و كان خالد أبوه سيد قريش، إذا اعتم لمَ يعتمَّ قرشي إجلالا لمقامه، و كان خالد ابن سعيد قد رأى في منامه أنه سيقع في هاوية فأدركه رسول اللّٰهﷺ و خاصه منها، فجاءه و قال: إلامَ تدعو يامحمد ؟ قال: ((أدعوك إلى عبادة اللٌٰه و حده لا شريك له، و أن تخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع و لا يبصر و لا يضر و لا ينفع، و الإحسان إلى و الديك، و أن لا تقتل و لدك خشية الفقر، و أن لا تقرب الفاحشة ما ظهر منها و ما بطن ، و أن لا تقتل نفسًا حرم اللّٰه قتلها إلا بالحق، و ألا تقرب مال اليتم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده و أن توفي الكيل و الميزان بالقسط ، و أن تعدل في قولك ولو حكمت على ذوي قرباك، و أن توفي لمن عاهدت))،، فأسلم _رضي اللّٰه عنه_فغضب عليه أبوه و آذاه حتى منعه القوت، فانصرف إلى رسول اللّٰه ﷺ فكان يلزمه و يعيش معه و يغيب عن أبيه في ضواحي مكه، و أسلم بعده أخوه عمرو بن سعيد.

هذه النماذج هي طائفة من الأشراف آمنت به ﷺ و لم يكن معه سيف يضرب به الأعناق حتى يطيعوه مغلبون على أمرهم و لا مال أو عرض من أعراض الدنيا حتى يؤمنوا به طمعًا فيه، بل منهم من ترك ثراء أبيه العريض و جاهه ليكون جنديًّا من جنود الحق، و منهم من كان واسع الثراء عظيم الجاه كأبي بكر و عثمان و خالد بن سعيد و هؤلاء لم يغرهم جاههم و ثراؤهم حتي يستحبوا العمى على الهدى 

و طائفة أخرى من الموالى اختاروا الأسى و الحرمان و غشيان الشدائد ، وهم مهتدون بمشكاة الحق، على السلامة و الشبع ولين الحياة وهم مشركون باللّٰه مالم ينزل به سلطانّا...

و هذا و الله أعلم 🌺

نلتقي في الموضع القادم أن شالله 








الأربعاء، 19 أكتوبر 2022

إعداد الرسول لتحمل الرسالة

أن دعوة الناس إلى غير ما ألِفُوه من عاداتهم شاقة و مرهقة، و أشد منها إرهاقًا و إجهادًا دعوتُهم إلى أن يَٖعبدوا إلهًا غير ما يعبدون، و يؤدوا عبادات غير التي يؤدون، و يتخلقوا بأخلاق مخالفة لما يألفون.
و لا يختار اللّٰه لهذه الدعوة المرتبطة بالعقائد إلا صفوةً من الرجال امتازوا بالعظم الشديد و الخُلق الرشيد، و العقل الراجح و الحجة الدامغة، ينشئهم بعنايتة، و يصنعهم على عينه و تدبيره، و يمرنهم على ما يثبت الفؤاد و يستديم مضاء العزيمة، مهما لقوا في سبيل غايتهم من صعاب و إيذاء.
وكلما اتسع أفق الرسالة عظمتْ أعباؤها، و اشتدتْ حاجتها إلى رسولٍ يفي عزمُة و صبرهُ و كفايته بمتطلباتها.
ولما كانت رسالة الإسلام شاملةً للإنس و الجن إلى يوم القيامة؛ فلهذا كان لا بد لها من رسول بعيد المدى في شدة العزم و الجَلَد، و سعة الصدر، و رجحان العقل، و قوة الإقناع ، و ألمعية الذهن، و فسحة العلم و الفهم، و سُمُوَّ الروح، و طهارة الخلق، و نظافة العقيدة منذ صباه.
كما أنه لا بد أن تكون شريعته صالحةً لكل جيل و كل إقليم، و كل لون و كل لسان؛ ليستقيم على منهاجها الذكر و الأنثى، و الشيخ و الفتي، و العانس و _الخَوْد_{الخَوْدُ: الفتاةُ الحَسَنَةُ الخَلْقِ}.
فلهذا اختار اللّٰه لهذه الرسالة الشاملة سيدَ أولى العزم محمدًا ﷺ وكلَّفه بتبليغها، و منحه القرآن معجزةً له ودستورًا لها.
وقد تضمن هذا الدستورُ مصالحَ الدنيا و الآخرة فعلى أساسه ينشأ المجتمع الفاضل و الحياة الرتيبة المتساندة، فلا يطغى فيه نظام الدنيا على صلاح الدين، و لا يتعارض فيه العملُ للآخرة على العمل للأولى، و صدق اللّٰه إذ يقول :«مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»{الأنعام:٣٨}.
و لم يكتفِ اللّٰه بنشأة محمد ﷺ الصالحة الفاضلة، بل أمره_ قبل تكليفه بأداء الرسالة_ أن يعد نفسه لها بقيام الليل، فأنزل عليه قولة تعالى:««يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُزَّمِّلُ (1) قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا (2) نِّصۡفَهُۥٓ أَوِ ٱنقُصۡ مِنۡهُ قَلِيلًا (3) أَوۡ زِدۡ عَلَيۡهِ وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّيۡلِ هِيَ أَشَدُّ وَطۡـٔٗا وَأَقۡوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبۡحٗا طَوِيلٗا (7)»» {المزمل:١__٧}
ففي هذه الآيات يكلفه اللّٰه تعالى بأن يقوم الليل إلا قليلًا و يذكر له أسبابًا ثلاثة لهذا التكليف؛ أولها: أنه تعالى سيُلقي عليه قولًا ثقيلًا، و هو التكليف بتبليغ رسالة الإسلام العامة الشاملة، و ثانيها: أن العبادة الناشئة في الليل هي أشد و طئًا و أقوم قيلًا، أي إنها تجعله أشدَّ ثباتَ قدم في الدعوة و أقوم قولًا فيها، و ثالثها: أن له في النهار سبحًا طويلًا، أي إنَّ له في النهار تصرفًا و تقلبًا في شئونه المختلفة فلا يمنعه القيامُ بعض الليل من ذلك التصرف.
و إنما كان قيام الليل يُعين على تحمل أعباء الرسالة لما فيه من تجريد الروح من شواغلهاسوى اللّٰه تعالى، فلا يرى ببصيرته سواه سبحانه و لا يحس بغير عظمته و سلطانه القاهر، فيكون دائم الاستغراق في شهود جلاله، متصل المناجاة لعظمته. و لا شك أن هذا الإخلاص الفياض، و المعرفة الرفيعة المستوى لمجده تعالى، و الفناء التام في عبادته، كل أولئك يفتح السبيل إلى فتوحات ربانية لا حد لها تجعله يستسهل كل صعب في سبيله فيقتحم العقبات و يذلل الصعاب و يصبر على تحمل الأعباء الثقال.
فلما حقق اللّٰه لرسوله الغاية المطلوبة من قيام الليل كلَّفه بتبيلغ الرسالة فقال:««يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ (1) قُمۡ فَأَنذِرۡ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ (4) وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ (5) وَلَا تَمۡنُن تَسۡتَكۡثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَٱصۡبِرۡ (7)»» {المدثر١__٧} ..
و هذا والله أعلى و أعلم ....
نلتقي في الموضع القادم [مرحلة الدعوة إلى الإسلام سرًّا]


الجمعة، 14 أكتوبر 2022

حكمة الهجرة المحمدية


 حكمة الهجرة المحمدية

و قد كانت هذه الهجرة من حِكَم اللّٰه تعالى، فإنَّ قريشًا لو آمنت به ﷺ ولم يهاجرْ لقال غيرهم من الأمم: هؤلاء قومُ وَلَّوْا عليهم رجلًا منهم و جعلوه يدَّعي النبوة ليَملِكوا سواهم بهذه الحلية. فلهذا شاء العليم الحكيم أن يُبغِضه أهله بمكة، و أن يؤمن به الغرباء من أهل المدينة بالحجة و البرهان لا بالسيف و السنان، فتتفتح بذلك قلوب الناس لهذا الدين، ويقولوا: قوم لم يُعمِهم التعصبُ عن قَبول الحق فآمنوا، فماذا علينا لو آمنا مثلهم؟!

فلا غرابة في أن يهاجر النبي ﷺ من مكة بعد أن تحجرت من أهلها القلوبُ، و عميت البصائر و تحكمت فيهم تقاليد الآباء و عقائد الأجداد و نخوة الجاهلية.

و لما كانت الرسلُ تُبعَث حينما يتفاقم الشر بين الناس لتوجيههم إلى المثل العليا اعتقادًا و قولًا و عملًا، و نهيهم عما أُركِسوا فيه من المآثم، فلهذا كانوا يَلْقَون من أقوامهم معارضات شديدة للتباين التام بين الحق الذي جاءوا به و بين الباطل الذي أقامت عليه أممهم، و اختلط بلحمهم و دمهم، فلم يبعث نبيُّ إلا عارضه قومُه و عادَوْه، و بسطوا له و لمن آمن به أيديهم و ألسنتهم بالسوء، و أخرجوه من وطنه طريدًا مع من آمن به منهم، أو حملوهم على الخروج فرارًا بدينهم و وقاية من إيذائهم. 

فها هو ذا إبراهيم _خليل اللّٰه_ و أبو الأنيباء، دعا قومه إلى أن يتركوا عبادة الكواكب و الأصنام، فوقفوا لدعوته بالمرصاد، و لما ضاقوا بصبره على معارضتهم و أذاهم أوقدوا له نارًا حامية و ألقوه فيها فجعلها اللّٰه عليه بردًا و سلامًا، فهاجر عنهم قائلًا:«وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ»{الصافات:٩٩}.

و هذه قرى عاد و ثمود و قوم لوط بعد ماحل بها عقاب اللّٰه شاهدات بأن ما أصابها ناجم عن غضب اللّٰه لرسله الذين أوذوا في سبيله من سكانها، حتى إذا شارف العذُاب ديارهم هَجَرها أنبياؤهم، و هكذا كان شأن الأمم مع أنبيائهم من الاضطهاد و الإيذاء حتى يهاجروا.

فإن من سنن اللّٰه الجليلة أنه بعث في كل أمة رسولًا، يرشدهم إلى ما فيه صلاح دنياهم و أخراهم، ويحذرهم مما فيه من سوء منقلبهم و عقباهم، و صدق اللّٰه إذ يقول:«إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۚ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ»{فاطر:٢٤} و لم يتركهم اللّٰه لإرشاد عقولهم و أفئدتهم فإن الإنسان بما طُبع عليه من غرائز يميل حب العاجله و الإقبال على اللذائذ و الشهوات و النفور مما يحدّ نزواتة و رغباتة؛ فلهذا لا يُتعِب قلبَه و فكره بالنظر إلى ما وراء دنياه ولا يفكر في إلهٍ لم تشاهده عيناه، قال تعالى:

«كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ«٢٠»وَتَذَرُونَ ٱلْأَخِرَةَ» {القيامة:٢١،٢٠}

فإذا كانت فطرةُ الإنسان كذلك فإن العقول كثيرًا ما تُغلَب أمرها فلا تهتدي إلى ما فيه السعادة لها، في أولاها و أخراها؛ فلهذا تفضل اللّٰه فأرسل صفوةً من البشر اختارهم بعلمه و حكمته ليكونوا معوانًا للعقول على أداء و ظائفها حتي تهتدي إلى بارئ النَّسَم، و منشئ الخلق من العدم، و تتعرف على ضوابط الكمالات الإنسانية؛ فتتجه بذويها إلى الدين الخالص و العمل النافع و الخلق الفاضل، فكانت هجرتة ﷺ والحكمة منها الحب و المؤاخاة، و الإخلاص لدين اللّٰه و بناء مجتمع إسلامي قوي بفضل اعتصامهم بحبل اللّٰه جميعًا و عدم تفرقهم. 

و هذا اللّٰه أعلم 🌺🌺



الخميس، 13 أكتوبر 2022

الهجرة نصرًا من عند الله

 قد سُميت الهجرة نصرًا رغم أنه لم تَسِلْ قطرةُ من الدم، ولم تلتقِ فيها السيوف «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ»  {التوبة: ٤٠}، و هذا اتساعُ لأُفق النصر في حياة أهل التوحيد و العقيدة، فالثباتُ على المبدأ نصر، و الالتزامُ بالحق نصر ، و الوصول للأهداف سواء مرحليَّة أو كُليَّة نصر، في الهجرة تَحقَّق النصر، لأقل جيش {اثْنَيْنِ} في مكان ضيق  {الْغَارِ}، {بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} لاعَدد ولا عتاد، إنما كانت القوَّة في الثقة بالله، و الثبات على مبادئ الدعوة و الدين، والتضحية في  سبيل الله، و من ثم :«إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» {التوبة: ٤٠} شاء من شاء و أبَي من أبَى.


ومع قدرة الله على نصرة نبيه دون الهجرة إلا أنه أمره هو و أصحابه بالهجرة فكانت الأسبابُ من صُنعهم و برغبتهم و تطلعهم إلى ثواب الله، أي إنها كانت تخطيطًا و تدبيرًا محكمًا لا يُعْفَي فيه المسلمون من الجد والتخطيط اتكالًا على نصر يتقاطر عليهم من السماء، و من المعروف أن التخطيط ضرورة مُلِحَّة تستلزمها المشكلات الذاتية و الموضوعية، و لا يمكن أن تحقق أيُّ دولٍة تنمية شاملة في جميع الميادين إلا بانتهاج أسلوب التخطيط و وَضع التصاميم من أجل تحقيق الأهداف والغايات.

فقد كانت هذه الرحلة المباركة حدثًا فريدًا في جميع جوانبه و كل مراحلها، و انتهاءً بآثاره و نتائجه؛ لكن ما يلفتُ النظر في كل هذه الأمور أن شيئًا- بعد عناية الله تعالى و رعايته لها- سيطر عليها، ألا وهو التخطيط الجيد الذي لازَمَ صاحبَها منذ اللحظة الأولى لها، والبُشْرَيات و الإرهاصات التي تقدَّمت عليها،فقد عزم ﷺ على الخروج فأخذ يعدُّ لذلك عدته؛ رغبة في تحقيق هدفه و حزم أمره، وأعَدَّ لها مقدماتها، و لم يبق إلا أن يُوحَى إليه أن يُهاجر، فجاء أمرُ ربَّه فوضع لتنفيذه خطة تقوم على عدة مراحل:


أولها: إعداد مستلزمات الرحيل.

ثانيها: آلية الخروج من البيت.

ثالثها: الاستخفاء عن أعين قريش في الطريق.

رابعها: مابَعْدَ الوصول إلى المدينة. 

و اللافت للنظر أن الله تعالى لو أراد نَقْلَ نبيَّه ﷺ أمام أعينهم نهارًا جهارًا لفعل :«إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»{يس:٨٢}؛ لكنة خرج كما خرج عامةُ المسلمين؛ حثًّا لهم على ضرورة الإعداد و التخطيط مع الاعتماد على الله تعالى، ولهذا لم تكن الهجرة معجزةً بل كانت نصرا و مَثَلًا الاقتداء به ﷺ.

أهم مظاهر التخطيط في هذه الرحلة المباركة


١- أمر النبيُّ ﷺ أصحابَه بالهجرة قبله سرًّا، و انتظر هو الإذن من الله تعالى، و استبقى معه صاحبَه أبابكر الصديق.

٢-بعد أن أذِنَ الله تعالى لنبيَّه ﷺ بالهجرة ذهب إلى بيت أبي بكر الصديق في وقت الهجيرة، و هو وقتُ لم يكن من عادة الرسول ﷺ أن يزوره فيه، و ذلك لإبلاغه بالهجرة و إخطاره بصُحبته فيها، و قد كان الصديق ينتظر هذا الإذن حيث كان قد اشترى راحليتن و أعَدَّهُما للرحلة المباركة.

٣-كذلك خطِّط النبيُّ ﷺ فأمر عليًّا بالنوم في فراشه لرَدَّ أمانة قريش لها من ناحية، و تضليلهم من ناحية أخرى، و قد كانت عنايةُ الله له بأنْ أَعمَى أبصارَهم وهو مارُّ من بين أيديهم.

٤-الاختباء في غار ثَوْر و أختياره تحديدًا ليختبئ عن أعين الناس لمُدَّةٍ، حتي إذا تسرب إليهم اليأسُ من العثور عليه خرج مُواصِلًا الرحلة هو صاحبه معتمدًا على الله تعالى.

٥- التوظيف الجيد للوسائل و الأدوات؛ فقد وظَف آل بيت أبي بكر توظيفًا فريدًا، فمنهم من يُعِدُ الطعام و يحملة، و منهم من يأتي بخبر قريش، و منهم من يأتي بالأغنام فتُخفي آثارَ الأقدام؛ لكي لا تتمكن قريش من متابعتهم، و على الرغم من ذلك وصلتْ قريش في طريق بحثها إلى غار ثَوْر ولكنَ عناية الله تعالى لنبية ﷺ وصاحبِه صرفتهم عنهما.

٦-اتخاذ طريقٍ غير الطريق المعتاد من مكة إلى يثرب، و استعمال دليل حاذق، و هو[ عبدالله بن أُرَيِْقط].

فقد كان ﷺ دائمَ التخطيط طوال الهجرة، و هذا دَورُ العقل البشري؛ الأخذ بالأسباب، ومن ثم تكون العنايةُ الإلهية.

فالهجرة النبوية حَدَثُ يُثبت أن رحمة الله تعالى لا تتحقق بالخمول أو الكسل أو مجرد التمني؛ إنما تتحقق بالحركة و السعي و العمل و النساط، مع التخطيط و الإعداد.

فالهجرة النبوية تُرَسَّخُ مبدأ اللجوء إلى الله، وصدق الاعتماد عليه مع ضرورة الأخذ بالأسباب المشروعة في تحقيق الغايات الكبرى، خصوصًا و أن الله تعالى يقول: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»{البقرة:٢١٨}

أضِف إلى هذا أن الهجرة النبوية كانت فاتحة خير، إذ أكدت على ضرورة القرب من الله تعالى و الإرتباط به و التضرع إليه، و الاعتراف بفضله، و الاقرار بنعمه، فكان بناءُ المسجد الذي مثل القبلة الروحية والوجهة النفسية للمسلمين .

فرسخت أخلاقيات الهجرة النبوية الحب الصادق و الأخوة الصادقة وا العلاقة الصحية الصادقة بين العبد وربه.

و بكلَّ هذه الأسس المانعة الجامعة، أُسَّسَ مجتمع المدينة، الذي جمع بين المسلمين و غيرهم، يحكمهم دستور جامع، جمع فأوعى الكثير من المعاني و القيم و القيم و المبادئ و النظم و المقصاد التي جدَتْ على مجتمع المسلمين حتي صار هذا الدستور الأساس الذي قام عليه أمر المدينة بين المسلمين بعضهم و بينهم و بين غيرهم في شتي مناحي الحياة المختلفة.

و الله أعلم 🌺


الأحد، 9 أكتوبر 2022

مقدمة عن هجْرَةُ الرسَّوُل ﷺ

 الحمدُلله رب العالمين، و العاقبة للمتقين، وأُصلِّي و أُسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين سيَّدنا و مولانا رسول الله ﷺ و على آله وصحبه و من والاه وبعد .


ففي تاريخ كُلَّ أُمٌَة غمرت الأرضَ أحداث تعتز بها، و وقائعُ تفتخر بنتائجها ، وتجعل منها سبيلًا للتباهي بالماضي والإعداد في الحاضر ، والتخطيط للمستقبل.

والأُمة الإسلامية من بين هذه الأُمم التي تتعدد أحداث فخرها و مجدها ، لكن حدثًا من بين أحداثها يختلف في أهدافه و أغراضه و مقاصده و نتائجة عن الأحداث التي وقعت للأمة.

إن الهجرة النبوية المباركه على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم هي حدث مُهم في التاريخ الإنساني بشكل عام ، و في تاريخ الإسلام بشكل خاص ، و لِمَ لا ؟! وهو فيصل بين عهدين ؛ ظلم و عدل ، حرب وسِلْم، باطل و حق ، كفر و إيمان.



هي ذكري طيبة خالدة متجددة سنويَّة تجمع في ثناياها مزيجًا عظيمًا من القيم النبوية الرفيعة،و الخلال المحمدية النبيلة ،من صدق العزم، و الإخلاص في القول والعمل، والتضحية في سبيل الحق و للحق ، والصبر و تحمل المكاره، والرضا بقضاء الله و حسن الاعتماد عليه، و جميل اللجو إليه،و ضرورة التوكل عليه، و حتمية الثقة فيه.

كما تنبئ عن رعاية ربانية، و عناية إلهية انتقلت بها الرسالة المحمدية من طور الدعوة في مكة إلى طور الدعوة و الدولة في المدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة و أتم السلام.

فقد أراد الله تعالي حينما أمر رسولَه ﷺ بالهجرة إلى المدينة أن يبث القوة النفسية في قلوب المسلمين ؛ ليجابهوا بها رعاة الظلم وينشروا من خلالها تعاليم الإسلام وقيمة، كما كان الأمر بالهجرة فتحًا لأبواب الخير التي عادت بالنفع الوفير على الإسلام و أهله، وصدق الله_تعالى_ حينما قال ۞ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً۞ (النساء:١٠٠).

إن الهجرة في عهد جديد لتأسيس دولة الإسلام التي امتدت من مشارق الأرض إلى مغاربها.

إنه عهد جديد لبناء قيم الإخاء والعدالة و المودة و المحبة و تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، و جعل رابطة الدين أقوى من رابطة النسب، وغرس قيم و مبادئ الحفاظ على كليات و مقاصد، و التنبيه على أوامر و نواهٍ تحيا الأمة بحياتها و تموت بموتها؛ إذ هي صوت و جودها،

و في الوقت ذاته إذا ضاعت تكون معقل هدمها.

ليس هذا فحسب، بل هي أتت حربًا على الأعراف الظالمة،و العادات الباطلة، التي لا نصيب لها من حق، فجاءت رافضة للعصبية القبلية الممقوتة، والقضاء على المبادئ المرفوضة التي لا يقرها الإسلام كتحميل القبيلة جريرة الأفراد ، إنه عهد جديد ساده مبدأ:{{أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ «٣٨» وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ}}«٣٩»(النجم: ٣٨؛٣٩) إنه عهد جديد حرص فيه النبيُّ ﷺ على ردَّ البشرية إلى صوابها و الأخذ بيد الإنسانية إلي مسالك نجاتها، فأرسي فيه ﷺ مبادئ التكافل و التراحم و الاعتصام و التواضع و الرفق و الإيثار و التضحية ونبذ العنف وهجر الفحش، والترفع عن الدنايا و التخلص من العجب و الكبر و الأثرة و حب الذات .

نظرًا لأهمية هذا العهد و ما يمكن أن يحققه في دنيا الناس، فقد حرص فيه ﷺ أن يكون جامعًا لكل ألوان الخير مانعًا لكل ألوان الشر، و من ثم تعهده من اللحظة الأولى له، بالعناية و الرعاية و الاهتمام ؛ إذ إنه ﷺ يُدرك أن عهدًا كهذا لا يتحقق بالأمنيات ؛ بل لا بد من سعي دائم في تحصيله، و إعداد متميز لتنفيذه، و تخطيط و اقعي للظفر بنتائجة و آثاره، و من ثم لا بد من الإعداد له على أُسس علمية واضحة المعالم ، محددة الأهداف ، معلومة المقاصد ، معروفة النتائج؛ خصوصًا و أن الناظر في السيرة النبوية المباركة يُدرك أنه ﷺ ومنذ اللحظة الأولي لمبعثه كان على دراية بوقع حادث الهجرة لا محالة، مما يعني أن إرهاصاتها بدأت مع بداية دعوته ﷺ منذ اللحظة الأولى، عندما جاءه الملك جبريل -عليه السلام -فقال : اقرأ ،قال: ((ما أنا بقارئ))،قال:(( فأخذني فغَطَّني حتى بلغ منَّى الجهدُ ثم أرسلني ، فقال: اقرأ ، قلتُ: ما أنا بقارئ ،فأخذني فغَطَّني الثانيةَ حتى بلغ مني الجهدُ ثم أرسلني ،فقال: اقرأ ،فقلتُ: ما أنا بقارئ، فأخذني فغَطَّني الثالثةَ ثم أرسلني ،فقال :{{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ«١» خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ «٢» اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ«٣»}} ((العلق:١_٣))..))فرجع بها رسول الله ﷺ يرجف فؤادُه، فدخل على زوجه خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- فقال:(( زَمَّلُوني زَمَّلُوني)) فَزمَّلُوه حتى ذهب عنه الرَّوْعُ، فقال لخديجة و أخبرها الخبر : "لقد خشيتُ على نفسي" فقالت خديجة: كلَّا و الله ما يُخْزيكَ الله أبدًا، إنكَ لَتَصلُ الرَّحمَ، و تَحْمِلُ الكَلَّ،و تُكْسِبُ المعدومَ، و تَقْرِي الضعيفَ، و تُعِينُ على نوائبِ الحقَّ، فانطلقتْ به خديجةُ حتى أتتْ به [ورقةَ بن نوفل بن أسد بن عبد العُزَّى] ابن عمَّ خديجة، و كان امرَأً تنصَّر في الجاهلية،و كان يكتبُ الكتابَ العبراني، فيكتبُ من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عميَ فقالت له خديجة: يا ابن العم، أسمعْ من ابن أخيك ، فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا تري!؟ فأخبره رسول الله ﷺ خبر ما رأى؛؛ فقال له ورقة: هذا الناموسُ الذي نَزل الله على موسى، ياليتني فيها {{جَذَعٌ}} أي صغير السن...ليتني أكون حيًّا إذ يُخرِجُكَ قومُك، فقال رسول الله ﷺ "أوَ مخْرِجِيَّ هُمْ؟" قال: نعم لم يأتِ رجل قطُّ بمثل ما جئت به إلا عُودِيَ و إن يُدركني يومُكَ أنصُركَ نَصْرّا مُؤزَّرًا.. ثم لم ينشب ورقة أنْ توفي؛ وهذا القولُ من ورقة يُمكِن عدُّه إرهاصًا لهذا الحدث العظيم، وإشارةً منه في الوقت ذاته إلى بداية عهدٍ جديدٍ للدعوة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة و السلام.

ثم تبع ذلك أمرُ النبي ﷺ لأ صحابه بالهجرة إلى الحبشة مرتين، ثم رحلة الطائف ، ثم لقاؤه ﷺ بالوفود بشكل عام ، و أهل يثرب بشكل خاص، ومن ثم كانت بيعة العقبة الأولى و الثانية و على إثرهما كانت الهجرة المباركة، على صاحبها أفضل الصلاة و أتم التسليم.

ولهذا ما إن أمر اللهُ تعالى بالخروج حتي بدأ ﷺ البحث عن عوامل وأدوات نجاحها وخطط لذلك بمهارة فائقة و أرجحية عقل لا مثيل له و لا نظير..

فقد كان التخطيط لهذه الرحلة المباركة واضح المعالم في فكر الرسول ﷺ وهو يرسم الخطى في مكة المكرمة مؤيَّدّا بالوحي الإلهي، وكم كان ﷺ مُدركًا لعِظَم الحدث وخطورته؛ لذا لم يشأ أن يترك شيئًا للظروف و الأحداث؛ بل لعلمه أنها ستكون معلمًا من معالم الدين الحنيف الذي تتأسس على خطاه دولة العلم و المعرفة و الحق و العدل ؛ لتصبح منارة الدنيا التي تهدي البشرية إلى طريق الله المستقيم، و تخلصها من ترهات الشك و شبهات الحيرة و القلق، و تأخذ بيدي البشرية إلى قمم الفضيلة والمثل العليا التي يشع نورها فيشرق الكون بأسره.

وحقًّا كانت الهجرة سببًا لإشراق دولة الخير والنور، و من ثم كان من توفيق الله تعالى للخليفة الثاني الفاروق سيدنا عمر بن الخطاب أن وفقة الله تعالى بالتأريخ بها*رضي الله تعالى عنه وأرضاه*وكان في ذلك ملهمًا فقد أفاد السهيلي رحمه الله في ( الروض الأنف) [[أن الصحابة رضي الله عنهم أخذوا التأريخ بالهجرة من قوله تعالى «لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ»، وقد علم أنه ليس أول الأيام كلها، ولا أضافه إلى شيء في اللفظ الظاهر، فتعينَ أنه أُضيف إلى شيء مضمر فيه من الفقة صحة ما اتفق عليه الصحابة مع عمر حين شاورهم في التاريخ، فاتفق رأيُهم أنْ يكون التاريخُ من عام الهجرة؛ لأنه الوقتُ الذي عزَّ فيه الإسلام، و الذي أمر فيه النبي ﷺ وأسس المساجد. وعبدَ اللهَ آمنًا كما يحبُّ، فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل،

و فَهِمْنا الآن بفعلهم أن قوله سبحانه: «مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ » أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي يُؤرَّخ به الآن..

وقد ذكر بعضُهم للبدء بالتأريخ بالهجرة مناسبة فقال،

كانت القضايا التي اتفقتْ له ويمكن أن يؤرخ بها أربعة:

مولده و مبعثه و هجرته و وفاته، فرجح عندهم جَعْلُها من الهجرة؛ لأن المولد و المبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السَّنة، و أما وقت الوفاة فأعرضوا عنه لما توقع بذكره من الأسف عليه، فانحصر في الهجرة، وإنما أخَّرُوه من ربيع الأول إلى المحرم ؛ لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في شهر المحرم؛ إذ البيعة وقعتْ في أثناء شهر 

ذي الحجة وهي مقدمة الهجرة، فكان أولُ هلالٍ اسْتُهلَّ بعد البيعة و العَزْم على الهجرة هلالَ المحرم، فناسبَ أنْ يُجعَلَ مُبتَدَأً، و هذا أقوي ما و قفتُ عليه من مناسبة الابتداء بشهر المحرم .

و الله أعلم 🌺🌺



كل ما تريد معرفته عن جروك Grok منافس ChatGPT

  جروك Grok سيحدث ثورة في عالم الذكاء الاصطناعي، حيث يتمتع بكثير من المميزات التي يفتقدها المنافسين له في نفس المجال وخاصة ChatGPT الذي يعت...