الدعوة إلى الإسلام سرًّا لا بد للداعي الحكيم من التدرج في دعوته كيلا يفشل فيها، و هكذا فعل النبي ﷺ ، فقد بدأ بخاصتة فدعاهم سرًّا إلى الإسلام ، و أولُ من آمن به منهم زوجته خديجة بنت خويلد _رضي اللّٰه عنها_ فلم يسبقها إلى الإيمان أحدُ من الرجال و النساء بالإجماع، كما قال ابن الأثير.
وممن آمن به في أول الدعوة ابنُ عمه على بن أبي طالب _ رضي عنه_ و قد كان في كفالته ﷺ، فإن قريشا أصابتهم مجاعةُ، و كان أبوطالب مُقِلًّا في المال كثيرَ العيال، فقال ﷺ لعمه العباس :((إن أخاك أبا طالب كثيرُ العيال، و الناس فيما ترى من الشدة، فانطلق بنا لنخففَ من عياله، تأخذ واحدًا و أنا آخذ وحدًا))، فانطلقا وعرضا عليه الأمر فوافق، فأخذ العباس جعفرًا و أخذ النبي ﷺ عليًّا فكان عنده كأحدِ أولاده إلى أن جاءت الرسالةُ إليه فآمن به عليُّ،
وقد ناهز الاحتلامَ، وقد انتفع عليُّ بوجوده مع النبي ﷺ إذ لم يتدنس بدنس الجاهلية من عبادة الأوثان و اتباع هوى النفس قبل أن يبادر بالإسلام، فلما أكرمة اللّٰه بالإسلام ازداد زكاةً و طهرًا.
ومن السابقين الأولين زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي مولى رسول اللّٰه و حبُّه، و كان قد أُسر في الجاهلية، فاشتراه حكيمُ ابن خزام لعمته خديجة بأربع مئة درهم فاستوهبه النبي ﷺ منها فوهبته إياه، و جاء أبوه و عمه كعب إلى مكةَ و طلبا أن يفدياه فخيَّره النبي ﷺ بين أن يدفعه إليهما أو يبقيه عنده، فاختار البقاءَ عنده، فلاماه فلم يرجع وقال:(( لا أختار عليه أحدًا)).
فقام عليه الصلاة والسلام إلى الحِجر وقال:{{ اشهدوا أن زيدًا ابني يرثني و أرثه}}؛ فطابتْ أنفسهما و انصرفا فدُعي زيدَ بن محمد، فلما جاءت الرسالةُ سارع إلى الإيمان به ﷺ. ثم نُسخت سُنَّة التبني التي كانت معروفة في الجاهلية بقوله تعالى:
««ٱدْعُوهُمْ لِأَبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوٓا۟ ءَابَآءَهُمْ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِى ٱلدِّينِ وَمَوَٰلِيكُمْ»» {الأحزاب:٥}، فأصبح يُدعى زيد بن حارثة.
وأول من آمن به غير أهل بيته من البالغين الأحرار أبو بكر ابن أبي قحافة التْيمي القرشي، و كان صاحبًا لرسول اللّٰه قبل النبوة عالمًا بما أتصف به من مكارم الأخلاق و تنزهه عن الكذب من أن اصطحبا.
فعندما دعاه إلى الإسلام قال: ((بأبي أنت و أمي! أهل الصدق أنت، أشهد أن لا اله إلا اللّٰه و أنك رسول اللّٰه))، وكان _ رضي اللّٰه عنه_ معظَّمًا في قريش ، على سعة من المال و مكارم الأخلاق، سخيًّا عفيفًا، حسَنَ المجالسة؛ و لذلك كان للرسول بمنزلة الوزير، فكان يستشيره في أموره كلها، و لقد شرفه الرسولُ بهذه الشهادة إذ قال ﷺ: ((ما دعوتُ أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة، غيَر أبي بكر)).
و قد عاون الرسول في الدعوة إلى الإسلام سرَّا، و كان لا يدعو إلا من يثق به، و ممن آمن بدعوته عثمان بن عفان بن أبي العاص الأموي القرشي ،. و كان شابّّا لا يتجاوز العشرين من عمره، و لما علم عمه الحكم بإسلامه أوثقه كتافًا و قال له: أترغب عن دين آبائك إلى دين مستحدث؟! و حلف ألا يحله حتي يدع هذا الدين، فقال عثمان: واللّٰه لا أدعه و لا أفارقه، فلما رأى عمه صلابته في الحق تركه.
و منهم الزبير بن العوام بن خويلد القرشي من زوجته صفية بنت عبدالمطلب عمة النبي ﷺ، و كان في سن الاحتلام ، و كان عمه يعلقه حصير و يرسل عليه الدخان ليرجع إلى دين آبائه فلم يزده هذا إلا ثباتاً.
و منهم سعد بن أبي وقاص الزهري القرشي أحد العشرة المبشرين بالجنة و أحد أصحاب _الشوري الستة_ أسلم و هو ابن تسع عشرة سنة، و لما علمت أمه ((حَمْنَة بنت أبي سفيان)) بإسلامه قالت له :[[ ياسعد بلغني أنك قد صبأت، فو اللّٰه لا يظلني سقف من الحر و البرد، و أن الطعام و الشراب علىّ حرام حتى تكفر بمحمد، و بقيت كذلك ثلاثة أيام، فجاء سعد إلى رسول اللّٰه ﷺ و شكا إليه أمر أمه، فنزل في ذلك قوله تعالى في سورة العنكبوت]]
««وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۚ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»»{العنكبوت:٨}
و هذه الآية دستور عام فرض اللّٰه فيه أن يحسن الإنسان إلى والديه مسلمين أو كفارين و أن يطيعهما في غير معصية، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، و أن المرء غير مسئول عن إشراك و الديه أو معصيتهما، فإليه تعالى مرجع الجميع فينبئهم بما كانو يعملون و يجازيهم على عملهم خيرًا أو شرًّا، و ذلك على حد قوله تعالى:
««قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ۚ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ»»{الأنعام:١٦٤}.
ومنهم _طلحة بن عبيداللّٰه التميمي القرشي_ أحد العشرة المبشرين بالجنة و أحد أصحاب _الشورى الستة_ و سبب إسلامه ما أخرجه ابن سعد عنه؛؛ قال.
حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم أفيهم أحد من أهل الحرم. قال طلحة: نعم أنا. فقال: هل ظهر أحمد؟ قلت: من أحمد ؟قال: ابن عبداللّٰه بن عبد المطلب، هذا شَهْرُه الذي يخرج فيه، و هو آخر الأنبياء. ومَخْرَجُه من الحرم، و مُهاجَرُه إلى نخيل و حَرَّةٍ و سِبَاخ، قال طلحة: فوقع قوله في قلبي، فخرجت سريعًا حتي قدمت مكة، فقلت: هل كان من حدث؟ قالوا نعم، محمد الأمين تنبأ و قد تبعه ابن أبي قحافة فخرجتُ حتي أتيت أبا بكر، فخرج بي إليه فأسلمت فأخبرتهُ بخبر الراهب.
ومن السابقين الأولين إلى الإسلام _صهيب الرومي_ وكان عبدًا و _عمار بن ياسر العنسي _ رضي اللّٰه عنهم_ قال عمار (( رَأَيْتِ رَسُولَ اللّٰه ﷺ وَمَا مَعَهُ إِلَّا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ وَامْرَأَتَانِ وَأَبُوبَكْرٍ)) و كذلك أسلم أبواه ياسر وسمية.
و منهم عبداللّٰه بن مسعود، و قد كان يرعى الغنم لبعض مشركي قريش، فلما علم بمبعثه ﷺ بادر إلى تصديقه و لزمه و كان كثير الدخول على رسول اللّٰه ﷺ لا يُحجَبُ عنه و كان يمشي أمامه و يوقظه إذا نام.
و من السابقين الأولين _أبو ذر الغفاري_ و كان من أعراب البادية، فصيحًا حلو الحديث، و لما بلغه مبعث رسول اللّٰه ﷺ قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واسمع من قوله ثم ائتني. فانطلق حتى قدم مكة و سمع من قول الرسول ﷺ، ثم رجع إلى أبي ذر الغفاري فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق و يقول كلامًا ما هو بالشعر، فقال : ما شفيتني مما أردت، فتزود و حمل قربة له فيها ماء حتي قدم مكة فأتى المسجد فالتمس النبي ﷺ و هو لا يعرفه و كره أن يسال عنه، لما يعرفه من كراهة قريش لكل من يخاطبه، حتي إذا أدركه الليل رآه علىُّ بن أبى طالب فعرف أنه غريب فأضافه عنده و لم يسأل أحد منهما صاحبه عن شيء، فإن من عادة العرب أن لا يسأل أحدهم ضيفه عن سبب قدومه إلا بعد ثلاث.
فلما أصبح احتمل قربته وزاده إلى المسجد و ظل ذلك اليوم لا يراه الرسول ﷺ حتى أمسى فعاد إلى مضجعه، فمر به علىُّ فقال: أما آن للرجل أن يعرف منزله الذي أضيف به بالأمس؟ فأقامه فذهب معه لا يسأل أحدهما صاحبه عن شيء.
حتي إذا كان اليوم الثالث عاد علىُّ مثل ذلك، ثم قال له علىُّ: ألا تحدثني ما الذي أقدمك ؟ قال : إن أعطيتني عهدًا و ميثاقًا لترشدني فعلتُ، ففعل فأخبره، قال علىُّ : فإنه على حق وهو رسول اللّٰه، فإذا أصبحتَ فاتبعني، فأني إن رأَيت شيئًا أخافه عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيتُ فاتبعني حتي تدخل مدخلي، ففعل فانطلق يتبع أثره حتى دخل على النبي ﷺ و دخل معه و سمع من قوله و أسلم مكانه، فقال النبي ﷺ:(( ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي))، قال: و الذي نفسى بيده لأصرخنَّ بها بين ظهرانيهم، فخرج حتي أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا اللّٰه و أن محمدًا رسول اللّٰه. فقام القوم فضربوه حتى أضجعوه، و أتى العباس فأكب عليه و قال: ويلكم! أَوَلستم تعلمون أنه من غفار و أن طريق تجارتكم إلى الشام عليه فأنقذه منهم ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه و ثاروا عليه فأكب العباس عليه، وكان _رضي الله عنه_ من أصدق الناس قولًا و أزهدهم في الدنيا.
ومن السابقين الأولين سعيد بن زيد العدوي القرشي و زوجته فاطمة بنت الخطاب أخت عمر.
و منهم خالد بن سعيد بن العاص الأموي القرشي، و كان خالد أبوه سيد قريش، إذا اعتم لمَ يعتمَّ قرشي إجلالا لمقامه، و كان خالد ابن سعيد قد رأى في منامه أنه سيقع في هاوية فأدركه رسول اللّٰهﷺ و خاصه منها، فجاءه و قال: إلامَ تدعو يامحمد ؟ قال: ((أدعوك إلى عبادة اللٌٰه و حده لا شريك له، و أن تخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع و لا يبصر و لا يضر و لا ينفع، و الإحسان إلى و الديك، و أن لا تقتل و لدك خشية الفقر، و أن لا تقرب الفاحشة ما ظهر منها و ما بطن ، و أن لا تقتل نفسًا حرم اللّٰه قتلها إلا بالحق، و ألا تقرب مال اليتم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده و أن توفي الكيل و الميزان بالقسط ، و أن تعدل في قولك ولو حكمت على ذوي قرباك، و أن توفي لمن عاهدت))،، فأسلم _رضي اللّٰه عنه_فغضب عليه أبوه و آذاه حتى منعه القوت، فانصرف إلى رسول اللّٰه ﷺ فكان يلزمه و يعيش معه و يغيب عن أبيه في ضواحي مكه، و أسلم بعده أخوه عمرو بن سعيد.
هذه النماذج هي طائفة من الأشراف آمنت به ﷺ و لم يكن معه سيف يضرب به الأعناق حتى يطيعوه مغلبون على أمرهم و لا مال أو عرض من أعراض الدنيا حتى يؤمنوا به طمعًا فيه، بل منهم من ترك ثراء أبيه العريض و جاهه ليكون جنديًّا من جنود الحق، و منهم من كان واسع الثراء عظيم الجاه كأبي بكر و عثمان و خالد بن سعيد و هؤلاء لم يغرهم جاههم و ثراؤهم حتي يستحبوا العمى على الهدى
و طائفة أخرى من الموالى اختاروا الأسى و الحرمان و غشيان الشدائد ، وهم مهتدون بمشكاة الحق، على السلامة و الشبع ولين الحياة وهم مشركون باللّٰه مالم ينزل به سلطانّا...
و هذا و الله أعلم 🌺
نلتقي في الموضع القادم أن شالله