قد سُميت الهجرة نصرًا رغم أنه لم تَسِلْ قطرةُ من الدم، ولم تلتقِ فيها السيوف «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ» {التوبة: ٤٠}، و هذا اتساعُ لأُفق النصر في حياة أهل التوحيد و العقيدة، فالثباتُ على المبدأ نصر، و الالتزامُ بالحق نصر ، و الوصول للأهداف سواء مرحليَّة أو كُليَّة نصر، في الهجرة تَحقَّق النصر، لأقل جيش {اثْنَيْنِ} في مكان ضيق {الْغَارِ}، {بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} لاعَدد ولا عتاد، إنما كانت القوَّة في الثقة بالله، و الثبات على مبادئ الدعوة و الدين، والتضحية في سبيل الله، و من ثم :«إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» {التوبة: ٤٠} شاء من شاء و أبَي من أبَى.
ومع قدرة الله على نصرة نبيه دون الهجرة إلا أنه أمره هو و أصحابه بالهجرة فكانت الأسبابُ من صُنعهم و برغبتهم و تطلعهم إلى ثواب الله، أي إنها كانت تخطيطًا و تدبيرًا محكمًا لا يُعْفَي فيه المسلمون من الجد والتخطيط اتكالًا على نصر يتقاطر عليهم من السماء، و من المعروف أن التخطيط ضرورة مُلِحَّة تستلزمها المشكلات الذاتية و الموضوعية، و لا يمكن أن تحقق أيُّ دولٍة تنمية شاملة في جميع الميادين إلا بانتهاج أسلوب التخطيط و وَضع التصاميم من أجل تحقيق الأهداف والغايات.
فقد كانت هذه الرحلة المباركة حدثًا فريدًا في جميع جوانبه و كل مراحلها، و انتهاءً بآثاره و نتائجه؛ لكن ما يلفتُ النظر في كل هذه الأمور أن شيئًا- بعد عناية الله تعالى و رعايته لها- سيطر عليها، ألا وهو التخطيط الجيد الذي لازَمَ صاحبَها منذ اللحظة الأولى لها، والبُشْرَيات و الإرهاصات التي تقدَّمت عليها،فقد عزم ﷺ على الخروج فأخذ يعدُّ لذلك عدته؛ رغبة في تحقيق هدفه و حزم أمره، وأعَدَّ لها مقدماتها، و لم يبق إلا أن يُوحَى إليه أن يُهاجر، فجاء أمرُ ربَّه فوضع لتنفيذه خطة تقوم على عدة مراحل:
أولها: إعداد مستلزمات الرحيل.
ثانيها: آلية الخروج من البيت.
ثالثها: الاستخفاء عن أعين قريش في الطريق.
رابعها: مابَعْدَ الوصول إلى المدينة.
و اللافت للنظر أن الله تعالى لو أراد نَقْلَ نبيَّه ﷺ أمام أعينهم نهارًا جهارًا لفعل :«إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»{يس:٨٢}؛ لكنة خرج كما خرج عامةُ المسلمين؛ حثًّا لهم على ضرورة الإعداد و التخطيط مع الاعتماد على الله تعالى، ولهذا لم تكن الهجرة معجزةً بل كانت نصرا و مَثَلًا الاقتداء به ﷺ.
أهم مظاهر التخطيط في هذه الرحلة المباركة
١- أمر النبيُّ ﷺ أصحابَه بالهجرة قبله سرًّا، و انتظر هو الإذن من الله تعالى، و استبقى معه صاحبَه أبابكر الصديق.
٢-بعد أن أذِنَ الله تعالى لنبيَّه ﷺ بالهجرة ذهب إلى بيت أبي بكر الصديق في وقت الهجيرة، و هو وقتُ لم يكن من عادة الرسول ﷺ أن يزوره فيه، و ذلك لإبلاغه بالهجرة و إخطاره بصُحبته فيها، و قد كان الصديق ينتظر هذا الإذن حيث كان قد اشترى راحليتن و أعَدَّهُما للرحلة المباركة.
٣-كذلك خطِّط النبيُّ ﷺ فأمر عليًّا بالنوم في فراشه لرَدَّ أمانة قريش لها من ناحية، و تضليلهم من ناحية أخرى، و قد كانت عنايةُ الله له بأنْ أَعمَى أبصارَهم وهو مارُّ من بين أيديهم.
٤-الاختباء في غار ثَوْر و أختياره تحديدًا ليختبئ عن أعين الناس لمُدَّةٍ، حتي إذا تسرب إليهم اليأسُ من العثور عليه خرج مُواصِلًا الرحلة هو صاحبه معتمدًا على الله تعالى.
٥- التوظيف الجيد للوسائل و الأدوات؛ فقد وظَف آل بيت أبي بكر توظيفًا فريدًا، فمنهم من يُعِدُ الطعام و يحملة، و منهم من يأتي بخبر قريش، و منهم من يأتي بالأغنام فتُخفي آثارَ الأقدام؛ لكي لا تتمكن قريش من متابعتهم، و على الرغم من ذلك وصلتْ قريش في طريق بحثها إلى غار ثَوْر ولكنَ عناية الله تعالى لنبية ﷺ وصاحبِه صرفتهم عنهما.
٦-اتخاذ طريقٍ غير الطريق المعتاد من مكة إلى يثرب، و استعمال دليل حاذق، و هو[ عبدالله بن أُرَيِْقط].
فقد كان ﷺ دائمَ التخطيط طوال الهجرة، و هذا دَورُ العقل البشري؛ الأخذ بالأسباب، ومن ثم تكون العنايةُ الإلهية.
فالهجرة النبوية حَدَثُ يُثبت أن رحمة الله تعالى لا تتحقق بالخمول أو الكسل أو مجرد التمني؛ إنما تتحقق بالحركة و السعي و العمل و النساط، مع التخطيط و الإعداد.
فالهجرة النبوية تُرَسَّخُ مبدأ اللجوء إلى الله، وصدق الاعتماد عليه مع ضرورة الأخذ بالأسباب المشروعة في تحقيق الغايات الكبرى، خصوصًا و أن الله تعالى يقول: «إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»{البقرة:٢١٨}
أضِف إلى هذا أن الهجرة النبوية كانت فاتحة خير، إذ أكدت على ضرورة القرب من الله تعالى و الإرتباط به و التضرع إليه، و الاعتراف بفضله، و الاقرار بنعمه، فكان بناءُ المسجد الذي مثل القبلة الروحية والوجهة النفسية للمسلمين .
فرسخت أخلاقيات الهجرة النبوية الحب الصادق و الأخوة الصادقة وا العلاقة الصحية الصادقة بين العبد وربه.
و بكلَّ هذه الأسس المانعة الجامعة، أُسَّسَ مجتمع المدينة، الذي جمع بين المسلمين و غيرهم، يحكمهم دستور جامع، جمع فأوعى الكثير من المعاني و القيم و القيم و المبادئ و النظم و المقصاد التي جدَتْ على مجتمع المسلمين حتي صار هذا الدستور الأساس الذي قام عليه أمر المدينة بين المسلمين بعضهم و بينهم و بين غيرهم في شتي مناحي الحياة المختلفة.
و الله أعلم 🌺
هناك 9 تعليقات:
الله يحفظك اخي الكريم ويزيد من علمه
احسنت النشر بالتوفيق دايما
ولو اخذ المسلمين بالاسباب والتدابير قدوة من رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم الى الان لنصرهم الله الى يوم الدين
بارك الله فيك اخي وجعله ف ميزان حسناتك ونفع بك يارب العالمين
احسنت النشر
جزاك الله خيرا وبارك فيك وجعله عملا متقبلا في ميزان حسناتك وشفيعا لك يوم الزحام وان يسقيك به من يد الرسول شربه هنيئة مريئه لا ظمآ بعدها ابدا
احسنت النشر
أحسنت مقال ممتاز جدا
جزاك الله خيرا اخي الحبيب
ربنا يبارك فيك ويوفقك
إرسال تعليق