مدينة تنيس
أو تل تنيس ، مدينة دونت تاريخها بالخيوط الكتانية الفاخرة المزخرفة بالنقوش المستوحاة من البيئة المصرية الأصيلة.
تنيس هي لؤلؤة بحيرة المنزلة نغمة تخرج من صدر التاريخ ؛ قديمة قدم الزمان ، مدينة نائية صُنعت الحضارة على أرضها ، جزيرة صغيرة في حجمها كبيرة في أثراها رفعت اسم مصر عاليًا و جذبت إليها الأنظار ، أشرقت بوجهها الساحر منذ أكثر من ألف عام فأضفت على العالم قبسًا من الجمال و الرومانسية ، حازت لقب عاصمة الموضة و الأناقة و الجمال في العالم القديم و أبهرت العيون بمنسوجاتها الغنية التي تتداخل خيوطها مع خيوط الذهَب فتفوقه تألقًا .
.موقع مدينة تنيس..تباهي بعباءاتها السلاطين و ارتدي منسوجاتها العزيز باللّٰه و هارون الرشيد و الأمين ، و تسابق الناس لاقتناء أعجوبة العصر قماش البوقلمون الذي انفردت تنيس بصناعته و كان يتغير لونه بتغير ساعات النهار ، و مما زادها شرفّا و مكانة صناعة كسوة الكعبة المشرفة على أرضها قرونًا طويلة ، شهد التاريخ على سيرة أهلها العطرة الذين تجلت عبقريتهم ونقشوا سيرتهم بسطور من الذهب في ذاكرة الزمان.
و على مر العصور صنع الإنسان المصري كل احتياجاته من الخامات التي و فرتها له الطبيعة و أظهر تفوقًا في المنتجات اليدوية على اختلاف أشكالها من رسم و نحت و خرط و فخار ، و ظلت هذه الفنون متميزة عبر العصور ، أما أكثر صناعة برع فيها الحرفي المصري و فاقت شهرتها الزمان فهي صناعة المنسوجات و أشهرها على الإطلاق القباطي ، و القباطي هو منسوجات كتانية مزخرفة بدأ إنتاجها في مصر من العصر الفرعوني و تطور الإنتاج في العصر الروماني و ازدهر في العصر القبطى حتى بلغ أوج عظمته في العصر الإسلامي لمصر ، فهي من أقدم المنسوجات الزخرفية في العالم.
... لوحات مرسومه للرحالة الراهب بيكانو.. لمدينة تنيسو تعد مدينة تنيس درة مدائن مصر في العصور الوسطي ، كانت جزيرة صغيرة حالمة تحيطها الطبيعة الساحرة في أحضان بحيرة المنزلة التي أطلق عليها قديمًا بحيرة تنيس.
و كان بالمدينة ما يقرب من عشرة آلاف حانوت ( دكان ) تزخر بالسلع المجلوبة من الشرق و من الغرب و لا تهدأ حركة البيع و لا الشراء في الاسواق التي يتعاظم فيها زحام التجار الوافدين من سائر أنحاء العالم لاقتناء المنسوجات.
امتاز أهل تنيس برقة طبائعهم و اعتادوا استقبال التجار بود وترحاب و بالغوا في إكرام الغرباء ، هم فنانون عشقوا الجمال و أجادوا الرسم و التصوير وصنعوا أرقي و أجود أنواع القباطي التي حازت إعجاب الناس في شتى أنحاء البلاد فعلا شأن مدينتهم حتى قال المؤرخون ؛ ليس في الدنيا منزل إلا و فيه ثوب من تنيس و لو خرقة.
اكتظ ميناء تنيس بالسفن التجارية التي تجلب كل متطلبات أهل الجزيرة من المواد الغذائية ؛ لأن تربتها مالحة لا تصلح للزراعة ، تأتي السفن من سائر البلدان ممتلئة بالبضائع المختلفة و تعود محملة بالأنواع العديدة من الأقمشة .
و كثغر بحري هام كانت مدينة تنيس محطًّا لأنظار البيزنطيين و الصليبيين ، فكثرت غاراتهم عليها و كانوا مصدر تهديد دائم لأمنها فشيدت حولها الأسوار العالية و الأبواب المصفحة بالحديد ، و أقيمت بها قلعة منيعة يصطف بها الجنود ، و تم حشد أسطولٍ قوي لحمايتها من الغارات الخارجية.
و لكن افتقد أهل مدينة تنيس الماء العذب في جزيرتهم ، و كان المذاق المالح هو الغالب على بحيرة تنيس معظم العام نتيجة لامتزاجها بمياه البحر المتوسط ، و كان موسم الفيضان هو موسم عودة الحياة ينتظره أهل الجزيرة بفارغ الصبر فيخزنون الماء العذب في صهاريج ضخمة مبنية تحت بيوتهم و يستخدمون هذا الماء طوال العام و من لديه فائض ماء يقوم ببيعه.
..لوحات مرسومه للرحالة الراهب بيكانو للمدنية تنيسكان يوجد بتنيس خمسة آلاف منسج ( نول ) و يعمل بها عشرة آلاف عامل ، فنانون ذوو أنامل ذهبية يسري الإبداع في عروقهم ابتكروا أجمل النقوش ، ورسموا أدق الصور بخيوط الكتان الناعمة التي تتجانس بانسجام مع الخامات الراقيه فأنتجوا أروع المنسوجات ، و نظرًا لأهمية صناعة النسيج في العصور الإسلامية أولتها مصر عناية خاصة ، و كان لذلك الاهتمام أكبر الأثر في ازدهار تلك الصناعة. أنشأت الدولة دار طراز الخاصة لصناعة ملابس سلطان مصر التي يطلق عليها الطراز الشريف ، و لا يستطيع أي شخص مهما علت مكانته شراء ما ينسج بها ، أما دور طراز العامة فكانت مملوكة لأفراد من الشعب يصنع بها المنسوجات التي يرتديها الناس . و خضعت دور الطراز لأشراف الدولة التي كانت تمدهم بالمواد الخام و تتولى عملية ختم الأقمشة بخاتم السلطان الرسمي و تفرض ضرائب باهظة على النسيج و تسجل المبيعات اليومية في دواوين حكومية و تحدد أسعار البيع ؛ و يشرف على دور الطراز موظف كبير يسمى ناظر الطراز كان من أعلى الموظفين مقامًا و أعلاهم راتبًا.
تعجز الألسن عن وصف عظمة ملابس سلطان مصر الفريدة التي أثارت غيرة ملوك العالم بخاماتها الغنية و أذواقها الرفعية و صناعتها المحكمة ، و قد انفردت تنيس بعمل ثوب يصنع خصيصًا لسلطان مصر يطلق عليه البدنة السلطانية ينسج بخيوط الكتان و الذهب بطريقة متقنة لا يحتاج بعدها إلى تفصيل و يبلغ ثمنه ألف دينار.
كما اشتملت ملابس السلاطين على شرائط كتابية يطلق عليها شرائط الطراز ينقش عليها اسم السلطان بخيوط من الذهب و الفضة مع إضافة ألقابه و بعض العبارات الدعائية مثل : نصر من اللّٰه ، سعادة مؤبدة و نعمة مخلدة ، و اسم المدينة التي صنع فيها الطراز و اسم الوزير و صاحب الخراج و ناظر الطراز .
و تاقت نفس ملوك العالم لارتداء ملابس مماثلة لملابس سلطان مصر التي لا يوجد لها مثيل في العالم ، و حالوا اقتناءها بشتى الطرق و لكن ذهبت محاولاتهم هباء ؛ لأنها كانت حكرًا على السلطان ،
كما روي الرحالة ناصر خسرو الذي زار الجزيرة فى ( 1047 ) من الميلاد ( أن ملكًا فارسيًّا بعث بِرُسله إلى تنيس بعشرين ألف دينار ليشتروا حُلِة من كسوة السلطان و مكثوا عدة سنوات يساومون الصناع و لم يبلغوا مرادهم وعادوا صفر اليدين).
و كان الصناع يعملون للسلطان و يتقاضون أجورهم و يتم تشجيعهم و منحهم مكافآت مجزية حين يتقنون عملهم.
و يروي أن أحد سلاطين الروم بعث رسولاً إلى سلطان مصر و طلب أن يضم مدينة تنيس إلى مملكته مقابل مائة مدينة من مدن الروم و لم يقبل هذا العرض و رفض التخلي عن هذه المدينة الزاهرة التي اندثرت منذ ألف عام.
طبقت شهرة قباطي مصر الآفاق و يكفيها الفخر و الشرف أن الرسول ﷺ ارتداها بعد أن بعث المقوقس حاكم مصر قبل الفتح الإسلامي بهدية للرسول ﷺ و تضمنت عشرين ثوبًا من القباطي .
أنتج صُنْاعَ مدينة تنيس المنسوجات الموشاة بأنواع لا تعد و لا تحصى ، فأنتجوا القصب الملون و هو نسيج رقيق من الكتان يشبه المنخل ( الغربال ) يستخدم في صناعة العمائم و ملابس النساء .
كما براعو في صناعة الثياب الشرب و هو نسيج رقيق شفاف يصنع من الكتان أو الحرير ، كما تفوقوا في صناعة البُرد الكتانية.
أما أشهر منتجات مدينة تنيس على الإطلاق التي كانت تعد من عجائب ذلك الزمان فهو نسيج البوقلمون أو الطاووس الذي انفردت تنيس بصناعته و هو قماش ذهبي يتغير لونه بتغير ساعات النهار عندما تنعكس عليه أشعة الشمس و كان يصدر إلى بلاد المشرق و المغرب ، و يعد من أندر و أقيم التحف. كما أنتجت مناسج تنيس أنواعًا نادرة من المخمل كانت تستخدم في تنجيد أثاث المنازل من ستائر و أسِرِة و وسائد ، وصنع عمالها المهرة ثوبًا من الكتان الخالص يطلق عليه الطراز و هو لا يحتوي على ذهب و مع ذلك كان يباع الثوب بمائة دينار من الذهب ، كما تفننوا في صناعة القميص الذهبي الذي يحتوي على أربعمائة دينار من الذهب و أوقيتين من الكتان ، و أنتجوا الثياب المعلمة و هي ثياب كتانية تشتمل على شرائط كتابية ، و الحرير المرقوم الذي يحتوي على كتابات بالإضافة إلى المناديل و المناشف و الوسائد.
أراد الخلفاء العباسيون صنع كسوة فاخرة للكعبة المشرفة فبحثوا عن خير من يحسن صناعة النسيج في العالم فلم يجدوا أعظم من مدينة تنيس رائدة صناعة المنسوجات في العصور الوسطي ، فوقع اختيارهم عليها . و يروي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب _رضي اللّٰه عنه_ كان يطلب من والى مصر صناعة كسوة الكعبة المشرفة من القباطي و يسدد ثمنها من بيت المال .
و عندما تولى معاوية بن أبي سفيان خلافة المسلمين صار يكسو الكعبة المشرفة مرتين في العام ، فكان يتم صنع كسوة القباطي في آخر شهر رمضان المعظم و كسوة الديباج في يوم عاشوراء في مدينة تنيس و شطا وتونه. وقال _ الفاكهي_ في كتاب _أخبار مكة_ رأيت كسوة من الكعبة مكتوبًا عليها ( مما أمر به السري بن الحكم والي مصر و عبدالعزيز بن الوزير الجروي حاكم مدينة تنيس بأمر الفضل بن سهل ذي الرياستين و طاهر بن الحسين ) .
و من المعروف أن الجزيه السنوية التي ترسلها مصر إلى بلاط الخليفة العباسي في بغداد كانت من منسوجات دور الطراز المصرية، و قد شجع الولاة الأمويون و العباسيون صناعة النسيج في مصر بسبب رغبتهم في ارتداء الثياب الأنيقة التي تليق بمكانتهم.
قال المؤرخ المعروف الفاكهي إنه رأي بتنيس كسوة صنعت للخلفية العباسي هارون الرشيد مدونًا عليها : ( بسم اللّٰه بركةمن اللّٰه للخلفية الرشيد عبداللّٰه هارون أمير المؤمنين) و شقة من قباطي مصر كتب عليها بخط دقيق أسود ( مما أمر به أمير المؤمنين المأمون 206 هجرية ) .
و هذا و اللّٰه أعلم 🌼
أكتفي بهذا القدر إلى أن نكمل بعون الله عن مدينة تنيس وعصر الفاطميين و نتعرف على قصة المحتسب ( ابن بسام ) وماذا فعل الحاكم بأمر اللّٰه الفاطمي ليشيد المساجد بها وأنه ولما هدم الكنائس و لماذا أمر السلطان ( صلاح الدين الايوبي ) بإخلاء المدينة من السكان وكيف كانت قصة نهاية هذه المدينة الزاهرة مدينة تنيس.
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
الرجاء دعمكم لمدونتى الشخصيه بزيارة و متابعة و تعليق
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼