السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.
هي المدنية المقدسة ، و مدينة السلام وزهرة المدائن و دُرّتها ، من أقدم مدن العالم ، عربية المنشأ و التكوين ، إسلامية الهُويّة ، تضرب جذورها العربية في أعماق التاريخ منذ ستة آلاف عام ، عروبتها حقيقة تاريخية راسخة ثابتة لا تقبل التغير أو الشك أو التأويل ، مهبط الأنبياء والرسل - عليهم السلام - ، ومسرى خاتم الأنبياء و الرُّسُل سيدنا محمد ﷺ فيها ثالث الحرمين و أولى القبلتين ، مدينة صنعت التاريخ و صُنِع فيها التاريخ ، عاصمة دولة فلسطين الحرة الأبيَّة.
عروبة المنشأ و التكوين
إنَّ تاريخ القدس لا ينفصل عن تاريخ أرض كنعان العربية ( فلسطين ) ، الذين هاجروا من شبة الجزيرة و استقروا بأرض فلسطين في الألف الرابع قبل الميلاد و صارت تعرف البلاد بأرض كنعان أو بلاد كنعان ، و أقاموا فيها حضارتهم العربية ، واشتهروا بالزراعة و التجارة و صناعة الأواني الفخارية و صناعة النسيج و الزجاج ، وقد أكد ذلك ماورد فى الشواهد الأثرية القديمة ، وقد شهد الساحل الجنوبي الغربي لأرض كنعان _من غزة إلى يافا _ في القرن الثاني عشر قبل الميلاد هجرة إحدى قبائل جزيرة كريت بالبحر المتوسط قبائل ( البِلست ) وانصهارهم في الحضارة الكنعانية التي أفادوا من ازدهارها ، وقد جاء ذكرهم في الكتابات الأثرية فى القرون الأخيرة قبل الميلاد ، ثم أطلق مؤرخو الغرب فى القرن الرابع الميلادي - كهيرودوت - و من بعده اسم ( بلستين ) على ساحل أرض كنعان ثم على كامل البلاد ، من باب إطلاق اسم الجزء على الكل فاشتهرت به بعد ذلك ، ثم تم تعريبها إلى ( فلستين ) ثم ( فلسطين ) ، و من هنا صارت أرض كنعان تعرف بفلسطين ، ولفظ ( كنعان ) في اللغة العربية القديمة تعني خشونة الأرض ؛ و لذلك اشتهر أهلها بالصلابة و القوة و شدة البأس ★(1).
وقد تأسست مدينة القدس فى الألف الرابع قبل الميلاد على يد العرب اليبوسيين و هم إحدي قبائل العرب الكنعانيين ، وقد اختار اليبوسيون موقعًا مميزًا لإنشاء مدينة يبوس ( القدس ) بوسط أرض كنعان ( فلسطين ) على أحد التلال المطلة على قرية ( سلوان ) بفلسطين ، و مكان محصن من ثلاث جهات ، و أقاموا حولها سورًا منيعًا لتحصينها ، فامتازت منذ القدم بموقعها الجغرافي المميز و الاستراتيجي المحصن المنيع ، بسبب مناعتها الطبيعية ضد الغزو ★(2) ، فهي بذلك من أقدم المدن العربية و العالمية حيث بلغ عمرها ستة آلاف عام.
و قد تعدد أسماء مدينة القدس بتعدد الأزمان و الشعوب التي تعاقبت على استيطانها فعرفت في بداية تأسيسها باسم بُـنـاتِـهـا الأوائل و هم اليبوسيون ، فأطلق عليها مدينة ( يبوس ) ، و صار علمًا عليها حتى مطلع القرن الحادي عشر قبل الميلاد ، كما عرفت باسم ( أورو سالم ) ؛ أي مدينة السلام نسبة إلى سالم إلـه السلام لدى الكنعانيين ، و قيل نسبة إلى القائد اليبوسي العربي - سالم أو ساليم - الذي أشرف على بنائها ، و قد ذكرت بهذا الاسم فى النصوص الأثرية القديمة مثل : ( الهيروغليفيه و الآشورية ) ، و إليه يرجع المسمي الإفرنجي ( جيروزاليم Jerusalem ) و الذي تم تحريفه إلى ( أورشليم ) ، كما عرفت مدينة القدس فى العصر اليوناني باسم ( قاديتس ) و هو اسم مشتق من مسماها العربي ، كما عرفت في العصر الروماني بــ ( إليا كابيتولينا ) نسبة للقب عائلة الإمبراطور الروماني ( إيليوس هادريان ) ، و تعني مدينة إيليوس العظيمة ، ثم عاد مسماها لبيت المقدس و القدس عقب الفتح الإسلامي لها على يد عمر بن الخطاب _رضي الله عنه _ عام ( ١٥ هجرية = ٦٣٦ ميلادية )★(3) ؛ و هكذا نرى أن أسماء القدس عربية أو مشتقة منها ، و لم يكن يومًا لها أي مسمى عبري أو تابع لبني إسرائيل.
الشواهد الأثرية تؤكد عروبة القدس و تدحض المزاعم الصهيونية
كما تؤكد الشواهد الأثرية - بما لا يدع مجالًا للشك - على عروبة القدس من حيث المنشأ و التكوين و الحضارة ، و منها - على سبيل المثال لا الحصر _: ( عين سلوان )
و هي البئر التي حفرها اليبوسيون ؛ للوصول الى نبع الماء و تقع على مسافة ثلاث مئة متر من الزاوية الجنوبية الشرقية للحرم القدسي الشريف ؛ و أطلق المقدسيون عليها ( أم الدرج ) ؛ لأنَّ الوصول إليها يتم عن طريق دَرَج أو سلم ، و قد قام الخليفة عثمان بن عفان _ رضي الله عنه _ بوقف مياه العين على فقراء مدينة ( القدس ) ، كما عثر علماء الآثار على أجزاء كبيرة من الأسوار و المنشآت العسكرية اليبوسية القديمة ، مثل ( حصن يبوس ) أقدم أبنية المدينة ، وقد شيده اليبوسيون على القسم الجنوبي من الهضبة الشرقية ، و شيدوا في طرف الحصن برجًا عاليًا للسيطرة على المنطقة ، وأحاطوا الحصن بسور ، كما عثر الآثاريون على مجموعة من الأدوات منها : أواني الطهي ، و السهام العربية ، و غير ذلك من الأدلة و الشواهد مما يؤكد الأصول العربية للحياة في القدس ، و ما اكتشفه علماء الآثار في منتصف القرن العشرين من لوحات طينية مكتوبه باللغة الكنعانية بالقرب من القدس ، يرجع تاريخها إلى ٢٥٠٠ قبل الميلاد ، و هذا بالإضافة إلى ذكر اسمها اليبوسي الكنعاني العربي في الكتابات المصرية القديمة بــ ( لوحات تـل الـعـمـارنة ) ، و نصوص التوراة المليئة بما يؤكد عروبتها ووجودها قبل ظهور بني إسرائيل بمئات القرون ★(4) ، و حينما خضعت أرض كنعان لمصر في القرن الخامس عشر قبل الميلاد ، كان المصريون يطلقون على القدس اسمها اليبوسي ( يابيشي ) تارة و اسمها الكنعاني ( أوروسالم ) تارة أخري ★(5).
علاقة بني إسرائيل بالقدس.
لم يكن لبني إسرائيل أدني علاقة بنشأة القدس ، و كان وجودهم حولها و فيها طارئًا و عابرًا لفترات وجيزة لا تمثل ولو حلقة فى عقد زمانها التليد ؛ حيث يعود نسب بني إسرائيل إلى سيدنا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم السلام - ، و سيدنا إبراهيم عاش فى جنوب ( العراق ) في القرن التاسع عشر قبل الميلاد ، وقد ارتحل إلى أرض كنعان ( فلسطين ) فأكرم العرب الكنعانيون و فادتة و أطلقوا على مدينة ( حبرون ) التي نزل بها اسم مدينة ( الخليل ) تكريمًا له ، و عرف مع أتباعه ( بالعبرانيين ) ( نسبة لعبروهم نهر الفرات قادمين من العراق ) ، أما أبناء يعقوب ( الأسباط ) فهم الأصل الذي ينتسب له بنو إسرائيل وهؤلاء عاشوا فى القرن الثالث عشر قبل الميلاد حيث ارتحلوا إلى ( مصر ) و كانت محتلة من الهكسوس ، و استمروا حتى عصر سيدنا موسى -عليه السلام ، ثم انتقلوا عقب وفاته وقضاء فترة التيه إلى أرض كنعان كغزاة تحت قيادة ( يوشع بن نون )★(6).
وظل بنو إسرائيل متفرقين على أطراف أرض كنعان ( فلسطين ) حتى جاء عصر سيدنا داود -عليه السلام - نهاية القرن الحادي عشر قبل الميلاد ، و يُعدُّ أول من وحَّد بني إسرائيل وأقام ملكًا على جزء من أرض كنعان عام ( ١٠٠٠ قبل الميلاد ) تقريبًا استمر أربعة عقود مُتّخذًا من مدينة يبوس. ( القدس ) قاعدة لملكه و أقام بها حصنًا عرف بحصن داود ، ثم انتقل الملك من بعدة إلى ابنه سليمان - عليه السلام - واستمر لثلاثة عقود ، وكان اليبوسيون فى عهد مملكة داود و سليمان يعيشون فى مدينتهم يبوس ويقومون على إدارتها كما كانوا من قبل ، ثم تشتت ملك سليمان - عليه السلام - من بعده و تفرق أبناؤه ★(7) ؛ و عمت الصراعات بينهم حتى وقعوا تحت سيطرة الأشوريين و البابليين فتم أسرهم جميعا وتدمير جميع مقدساتهم و إزالة مبعد سليمان فيما عرف بالشتات البابلي عام ( ٥٨٦ قبل الميلاد ) ، ثم عاد بعضهم مرة أخرى إلى أرض كنعان ( فلسطين ) في العهد الفارسي و أقاموا معبدًا على غرار معبد سليمان ، ثم وقعت البلاد تحت سيطرة العديد من الإمبراطوريات الغربية القديمة وآخراها الرومانية ، و فيها ولد ( الـمـسـيـح ) -عليه السلام - في بيت لحم ، و فيها انتهي عهد بني إسرائيل بالقدس و فلسطين بشكل قطعي ؛ لأثارتهم القلاقل و القيام بثوارت عصيان ضد الرومان ، حيث تم القضاء عليهم وإزالة المعبد من الوجود تمامًا و تدمير مقدساتهم و كل ما يرمز لهم عام ( ١٣٥ بعد الميلاد ) على يد الإمبراطور ( هادريان ) فيما يعرف بالشتات الروماني أو الشتات الأخير ، حيث حُرِّم على اليهود الوجود في( إيليا ) اي القدس منذ ذلك الوقت ففرَّ من نجا منهم إلى مختلف المدن الأوروبية ، وقد قدر تعدادهم _وقتئذ_ بأربعين ألف يهودي ، وظلت مدينة القدس في يد الرومان حتى تم فتحها على يد سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عام ( ١٥ هجرية = ٦٣٦ميلادية ) ★(8)
وختاما ومما سبق يتبين لنا أن مدينة القدس عربية المنشأ والتكوين ، و يكشف بطلان الزعم الذي يتم ترويجه زورًا و بهتانًا ، بأن بني إسرائيل لهم صلة بها وبنشأتها ، فقد تم تأسيسها على يد العرب اليبوسيين في الأف الرابع قبل الميلاد ، فسبقت نشأتها العربية ميلاد إبراهيم -عليه السلام - بأكثر من عشرين قرنًا من الزمان ، و سبقت ميلاد أبناء يعقوب -عليه السلام - الذين ينتسب إليهم بنو إسرائيل بأكثر من سبع و عشرين قرنًا من الزمان ، وسبقت عصر سيدنا داود وابنه سليمان - عليهما السلام- بأكثر من ثلاثين قرنًا من الزمان ، و أن الوجود العربي فيها لم ينقطع على مدار الزمان .
و يتضح أن وجود بني إسرائيل في أرض كنعان ( فلسطين ) ويبوس ( القدس ) كان وجودًا طارئًا على أطراف البلاد ، و أن النبي موسى -عليه السلام - الذي ينتسب إليه اليهود ولد و عاش و مات في مصر فترة وجود بني إسرائيل بها دون أن يرى القدس ، و لم يكن لهم ملكًا فيها سوى في عهديّ داود وابنه سليمان -عليهما السلام- و لم يتجاوز سبعة عقود من تاريخها الذي يضرب بجذوره في أعماق التاريخ منذ ستة آلاف عام ، مما يؤكد الحق العربي ويدحض المزاعم الصهيونية حول أحقيتهم فيها.
و هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺
إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼
★الـمـراجـع.___________________________
★(1) فلسطين أرض الحضارات ، شوقي شعث ، دار الأوائل للنشر و التوزيع ، دمشق ، 2000م ،ص 8؛9 ؛ اليهود أنثروبولوجيا ، دار الهلال ، 1996م ، صـ 55 ؛ 56 ؛ تاريخ فلسطين القديم ( 1220 قـ .م - 1359 م ) منذ أول غزو يهودي حتى آخر غزو صليبي ، ظفر الإسلام خان دار النفائس - بيروت ، طبعة ثالثة 1401 هـ = 1981 م ، صـ 15؛ 19.
★(2) القدس عربية إسلامية ، د/ سيد فرج راشد ، دار المريخ للنشر الرياض ، 1406 هـ =1986 م ، صـ 29 ، ملامح من تاريخ القدس عبر العصور ، القدس عبر التاريخ دراسة جغرافية تاريخية أثرية للمدينة المقدسة ، مخائيل مكسي ( د.ن ) 1972 م صـ6 ، لجنة التاريخ والحضارة بهيئة كبار العلماء 1442هـ =2021 م صـ 9.
★(3) تاريخ القدس ، عارف باشا العارف ، دار المعارف ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، 1994 م ، صـ 11 ، 167 ، القدس الشريف حقائق التاريخ و آفاق المستقبل ، د/ محمد على حُلّة ، 1421هـ = 2001 م ؛ صـ 9 ، 10 ؛ القدس عربية إسلامية صـ 27 ، 28.
★(4) يُنظر : ملامح من تاريخ القدس عبر العصور ، صـ 37: 38 ، القدس عربية إسلامية ، صـ 46 .
★(5) تاريخ القدس عارف باشا صـ 13.
★(6) ملامح من تاريخ القدس عبر العصور صـ 17 ؛ 21.
★(7) حيث انقسم أبناؤه إلى قبيلتين : قبيلة إسرائيل ، و قبيلة يهوذا ، ومنها نشأ مصطلح اليهود بدلًا عن مصطلح بني إسرائيل.
★(8) القدس الشريف حقائق التاريخ وآفاق المستقبل ، صـ 11 ، 13 ؛ القدس عربية إسلامية ، صـ 54 ، 56 ؛ تاريخ القدس ، عارف باشا ، صـ 14 ، 40.