المتابعون

‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصة واقعية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصة واقعية. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، 2 سبتمبر 2024

وَلْيَسَعْكَ بيتُك - keep to your house


 

الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

جاءنا في الخبر عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ - رضي الله عنه قالَ : قلت : يا رسولَ الله : مَا النّجاةُ قال : « أَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ » ؛ *(1).

الحديث الشريف 

من جوامع كَلِمِهِ ﷺ يقف السائلَ عن النجاة الحريصَ على السعي إليها على سُبُلها ، وكلٌّ من هذه الثلاث تستحق إفرادها بالحديث .

ولأن هذه الإطلالة تخص واسطة العِقد منها فحسبُـنا في هذا المقام الإشارةُ المجملةُ إلى هذا العِقْدِ الفريد المنظوم من الجمل الثلاث أنها جاءت في ترتيـبـهـا موافقةً لما تعبر عنه من معانٍ سامية ، ففي الصدارة يأتي اللسان ، فإذا لم يُلْجِمْه صاحبُه إلجامًا حتى يَملِكَه فإنه يَفقِدُ السيطرة عليه ، وحينئذٍ لن يَسَعَه بيتُه ، بل سيضق عليه ، حيث شَهِيَّةَ انِفلاتِ لسانِهِ خارجَ بيتِهِ في مواطن اللهو و الأُنسِ و السمِرِ ، وساعتئذٍ لا مكان لتَذَكُّر خـطيـئةٍ مضت ، فيكون باكيًا على اقتِرافِها ، كيف ولسانُهُ المنفلتُ يُغرقُهُ فيها ، ألا ترى معي أن ترتيب الجمل الثلاث جاء منسجمًا مع المعاني المعبِّرةِ عنها ؟ 

و انـظـر 

إلى ثالث الجُمل من حديثة ﷺ وذلك قوله : « وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ » و قد جاءت بعد سابقتيها ، و كأنها تشير على هذا الوجه من الترتيب إلى أن الممتثل للأمرين الأولَينِ ماضٍ إلى ثالثهما ، وما له لا يبكي على خطيئته وقد استشعر بعد أن ملك زمام لسانه ، و وسعه بيته أنه فرَّط فيما مضى ، لعله يستدرك فيما بقي ، فهو حينئذٍ المشفق على نفسه وعلى أهله ، الخائف من أن يلقى ربه وهو مُقَصِّرٌ في حق أهله وحق نفسه ؛ لذا فهو بين أهله ليس ذلك الآمرَ الناهيَ الزاجرَ المُزَمْجِرَ ، و إنما يجده أهله بينهم خائفًا من ربه وَجِلًا أن يكون مقصرًا في حقهم ؛ تربية و تزكية ورعاية ، ومشفقًا على نفسه أن يكون قصَّر فيهم ، ومشفقًا عليهم بكل وجوه الإشفاق ، وبيتٌ هذا شأنه عرف معنى الخشية من الله ، ويوم يذوق أهل هذا البيت الذي تلمَّس طريقه لمولاه ثمارَ ما امتثلوا و أطاعوا ، هنالك يتذاكرون تلك الأيام الخالية في قوله تعالى:- { وَأَقۡبَلَ بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ يَتَسَآءَلُونَ } ( الطور :- ٢٥) ؛ قائلين :--{ قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا قَبۡلُ فِيٓ أَهۡلِنَا مُشۡفِقِينَ } ( الطور :- ٢٦ ).

لنعد إلى واسطة العِقْدِ في تلكم الجمل الثلاث  ( وَلَيَسَعْكَ بيتُك ).

كلمتان عظيمتان 

حقًّا إنهما في دلالتهما على المعني ، عظيمتان في توسطهما بين الجملتين المذكورتين توسُّطَ البيت الهادئ الهانئ بمن فيه ولو أحاطت به الأعاصير من كل جانب ، وكأنه سفينة نوحٍ : سفينِة النجاة وهي تجري بالناجين في موج كـ الجبال.

كلمتان لا تنتظران من مثلي أن يبين للعقلاء عظمتهما ، إنما هما اللتان تنبئان عن عظمتهما ، بما تحملان من دقة اللفظ مع وجازته ، بالأضافة إلى عمق المعاني وسَعَتِها مع غزارتها.

وكأني بالكلمتين من جوامع كَلِمِه ﷺ تُلِحّانِ علينا إلحاحًا ؛ كي نعيدَ قراءَتَهما من جديد كلما شعرنا بمزيد حاجتنا إلى العودة إلى بيوتنا.

حاجة بيوتنا لعودتنا إليها 

وأول ما يستوقف المتأمل في هذا الهَدْي القويم ذلك الأمر الموجَّه إليك أيها المخاطب العاقل فعل الأمر ( وَلَيَسَعْكَ ) ، فمن أنت حتى يُطلَبَ منك أن تسعى جاهدًا لأن يَتَّسِعَ لك بيتُكَ ؟ ألم يَتَّسع البيتُ الذي تسكن فيه لك ولمن معك من أفراد أسرتك !؟ أبلغتْ ضخامةُ بدنك الحَدَّ الذي يُطلَبُ منك أن يتسع لك بيتك ؟ أم يطلب منك أن تُخرِج من في البيت حتى يخلو البيت لك ويسعك ؟

لا ريب أن هذا النوع من الفهم -- المثير للضحك -- المتبادر إلى الذهن سرعان ما يكشف عن ضحالته وسذاجته عند أدنى تأمل.

لكن الحكمة النبوية أرفعُ وأجلُّ من أن تُفهَمَ على هذا الوجه الساذَجِ أو ذاك ، فلا البيت الذي طُلِبَ منكَ أن يَسَعَكَ هو هذا البيتُ الماديُّ الذي لا يتجاوزُ الأركانَ و الجدرانَ ، ولا أنت أيها المخاطَبُ المطلوبُ منك هذا المطلَبُ هو أنت صاحبَ البدن وكفى ، فبيوتُنا الماديةُ هي على حالها ، وأبدانُنا كذلك على حالها إذا كانت نظرتنا بهذا المنظور السطحيِّ.

من نحن 

فمن نحن الموجَّهون بهذا التوجيه الحكيم الرشيد ؟ وما بيوتنا التي يطلب منا أن تكون واسعة لنا ؟

إنّ المخاطب بهذا الخطاب الشريف هو تلك النفس البشرية التي خلقها ربها خلقًا خاصًّا مركبًا مما تفرَّق في المخلوقات من حولنا ، فلئن كان البدن آلة لهذه النفس فهي مزيجٌ مُعَقَّدٌ من نوازع الخير فينا إذا تعهدناها تَعَهُّدَ الزارع النَّبتة الصغيرة فإذا هي شجرة مورقة مزهرة مثمرة ، وإن نحن أهملناها وتركناها ترتعْ بلا ضابطٍ من عقل ودينٍ هلكت وأهلكت ؛ قال تعالى : -- ﴿ وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا (٧) فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا (٨) قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا (٩) وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا (١٠) ﴾ :- { الشمس :- ٧ - ١٠ } .

و أما بيتك الذي أمرت أن يَسَعَكَ فهو أهلُكَ و شئونهم ، و شأنُك بينهم ، ودورُك معهم ، وقِوامتُك عليهم ، إنه أمورٌ كثيرةٌ و متشعبةٌ ، إنه والحالة هذه مملكتُك التي تعتلي عرشَها متحمِّلًا مسئولياتها ، إنه أمانتُك التي ائتُمِنتَ عليها ، وخلافتُك التي استُخلِفتَ فيها .

ألم تسمع إلى رسولنا الكريم ﷺ يقول : (( كَـفَى بالمرءِ إثمًا أن يُضيّعَ مَنْ يَقُوتُ ))*(2).

النجاةَ 

إن في سعة بيتك لك النجاةَ كلَّ النجاة ، فبيتك الذي يُؤويك ، فتسلم من أذى الناس ، ويسلم الناس من أذاك ، وفي ذلك نجاة لك من نفسك ، وفي سعة بيتك لك نجاة أهلك ، فهم أولى الناس بك ، وأحوجهم إليك ، و أصحاب الحق عليك ، وهذا كله يضاف إليه نجاةُ الآخرين منك حيث ملكتَ لسانَك ، و وسعكَ بيتُك ، وشُغِلت بنفسك عن غيرك .

وهذه الوجوه من النجاة وإن كانت دنيوية فهي ليست مقطوعة الصلة عن نجاة الآخرة ، و من منا لا يعلم بَدَهِيَّةَ الإسلام القاضية بأن الدنيا مزرعة الآخرة !!

أما من لم يستجيب ـ عافانا الله وإياكم ـ إلى هذا الهدي القويم فانظر إلى حالهم و أوضاع أُسرهم .

انظر إليهم وقد ضاقت عليهم بيوتهم فضاقت عليهم الأرض بما رحُبَت ، وضاقت عليهم أنفسهم ! فتراهم يَتَرَنَّحون هـنـا -- و هناك تـرنُّـحَ الـطـائـر المذبوح وقد سرقته السكين ، فالمسكين --- منهم يخرج من عمله إلى المقهى أو الملهى تاركًا أهل بيته ، فلا يعود إليهم إلا وهم نيام كما تركهم بالغداة و هم على هذا الحال و قد --- صاروا يتامى بلا يُـتْـم ، و حيارى بلا ربان .

ألا إننا نحن الذين نُوَسِّعُ ضيِّقًا ، و نُضَيِّقُ واسعًا ، لو عدنا إلى بيوتنا لوسِعتْنا ، ونجونا ونجت بنا ، فالنجاة النجاة ؛ فإن حاجتنا إلى بيوتنا ، كـحـاجـة بيوتنا إلينا .

هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺

إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان.

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

*الـمـراجـع .___________________________

*(1) أخرجه الترمذي في الجامع الكبير ، بَابُ مَاجَاءَ فِي حِفْظِ اللِّسَان ، رقم الحديث : ( ٢٤٠٦ ) ، وقال : هذا حديثٌ حسنٌ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*(٢) أخرجه أبو داود في السنن ، عن عبدالله بن عمرو ، باب

 في صلة الرحم ، رقم الحديث : ( ١٦٩٢ )ــــــــــــ

الأربعاء، 24 يوليو 2024

الشيخ حسن العطار _ Hassan Al-Attar

 



الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

نشأته و حياته :

المتوفَّى سنة ( ١٢٥٠هـ = ١٨٣٤ م ).

ولد بالقاهرة سنة - نيف ؛ وثمانين ومئة وألف من الهجرة ، ونشأ بها في ظل أبيه الشيخ محمد كتن ، ويمت بنسبه إلى أسرة مغربية ، وفدت إلى مصر وكان أبوه رقيق الحال ( عطارًا ) ، ملمَّا بالعلم كما يدل عليه ما يقوله في بعض كتبه : « ذاكرت بهذا الوالد رحمه اللّٰه » ، وكان يستصحبه إلى متجره ، ويستعين به في صغار شئونه _ نشأ حاد الذكاء قوي الفطنة ، إلى التعليم هواه ، شديد الغيرة و التنافس ، إذ يرى أترابه يترددون على المكاتب ؛ ومن ثم يتسلل إلى الجامع الأزهر مستخفيًا من أبيه ، وقد عجب والده إذ رآه يقرأ القرآن في زمن وجيز ، فشجعه ذلك على أن يدع ابنه الذكي القطن المحب للعلم يختلف إلى العلماء ، وينهل من وردهم ما يشاء ، فجد في المثابرة و الانتفاع من الفحول أمثال : الشيخ محمد الأمير ، و الشيخ الصبان ، و غيرهما حتى بلغ من العلم و التفوق فيه ما أهَّله للتدريس بالأزهر الشريف على تمكن وجدارة.

ولكن نفسه لم تقنع بهذه الغاية ؛ بل مال إلى التبحر في العلوم ، واشتغل بغرائب الفنون ، و الوقوف على أسرارها .

وكان منذ صباه ذا شغف بالأدب ، جادَّا في مطالعته والتزود منه حتى أجاد النظم و النثر في ريعان صباه وبواكير حياته .

وعُني بالأدب الإندلسي عناية فائقة فأخذ يدرسه ويحاكيه ، وكثيرًا ما كان يأسف على انحطاط الأدب في عصره ، ويصف شعراء زمانه بأنهم اتخذوا الشعر حرفة ، وسلكوا فيه طريقة متعسفٍ ، فصرفوا أكثر أشعارهم في المدح و الاستجلاب و المنح ، حتى مدحوا أرباب الحرف لجمع الدراهم ، و كان منهم من كان يصنع القطعة من الشعر في مدح شخص ، يغيرها في مدح آخر ، وهكذا حتى يمدح بها كثيرًا من الناس ، وهو لا يزيد على أن يغير الاسم و القافية ، و أشبهه في ذلك إلا بمن يفرق أوراق _الكدية*(1) بين صفوف المصلين في المساجد ، و هكذا كان حال الرجل ، فلا يكاد يتخذ وليمة أو عرسًا أو يبني بناءً أو يُرزأ بموت محب إلا بادره بشئ من الشعر قانعًا بالشئ النزر.

ولما كانت تلك نظرته إلى الشعر و الشعراء رأيناه قد أغفل شعره ، ولم يحتفظ بما قاله في المدح والهجاء اضطرارًا ، 

ورجا ألا يُحفظ عنه إلا ما لطف من النسيب ، مما ولع به أيام الشباب حيث غصن الشبيبة غض ، و الزمن من الشوائب محض ، و لأعين الملاح سهام بالفؤاد راشقة ، وتثني قدود الغيد تظل له أعين الأحبة وامقة.

ذاك وقت قضيت فيه غرامي    

                                      من شبابي في سترة بالظلام 

ثم لما بدا الصباح لعيني 

                                   من مشيبي ودعته بسلام .

ولما اضطربت الفتن بدخول الفرنسيين مصر رحل إلى الصعيد ، و معه جماعة من العلماء ، ثم عاد إلى مصر بعد أن استقرت الأمور ، و قد أداه حبه الحياة الاجتماعية وميله إلى المخالطة ، و ما عرف به من خفة الروح ، وطيب المعاشرة ، إلى الاتصال بالفرنسيين العلماء فاستفاد من فنونهم ، و أفادهم اللغة العربية ، و كان يقول : « إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها و يتجدد بها من المعارف ما ليس فيها ».

وكان يتعجب مما وقف عليه من علوم الفرنسيين ، ومن كثرة كتبهم و تحريرها وقربها من العقول و سهولة الاستفادة منها.

وهو الذي وقف في امتحان مدرسة الطب خطيبًا يشيد بفائدة الطب في تقدم الإنسانية ، ويفخر بأن أتيح للأزهر في تاريخ مدرسة الطب أول نشأتها أثر جليل إذ كان جُلُّ تلامذتها الأُوَل من الازهر ، و كان لهم في مدرسة الطب من الذكاء وحسن الاستعداد ما راع وبهر.

والشيخ حسن العطار هو الذي قدم الشاب  الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي لمحمد علي ، ليكون إمامًا للبعث الذي أرسل إلى فرنسا في سنة ( ١٨٢٦م ).

وهو الذي أوصي رفاعة أن يقيد مشاهداته في بلاد الغرب من الأمور التي يرى فيها فائدة لبني وطنه ، كي يظهرهم على النواحي المختلفة للحضارة الأوروبية ، حتى إذا أطاع رفاعة أستاذه ، و أتم رحلته ( تلخيص الإبريز في تلخيص باريز ) أوصي العطار بها حتى قامت الحكومة على طبعها ونشرها .

تنقله :

ثم إنه ارتحل إلى الشام ، وأقام بـ دمشق زمنًا كان يقرض فيه الشعر حينًا بعد حين ، قال « وقلت وأنا بدمشق هذه القصيدة ، و سببها أن صاحبنا العلامه محمد المسيري كان قدم من بيروت لـ دمشق ، فأقام بالمدرسة البدرية حيث أنا مقيم ، ومكث نحو شهرين فوقع لي به أنس عظيم  .

ثم عاد إلى بيروت وأرسل مكتوبًا لبعض التجار فيه قصيدة تتضمن مدح دمشق و علمائها وتجارها الذين صاحبوه مدة إقامته ، فكان جزاء تلك القصيدة أنها لم تقع منهم موقع القبول ، و ساروا يهزأون بكلماتها و قوافيها فانتدبت لنظم هذه القصيدة على بحرها ورويها ؛ انتصارًا للشيخ المسيري ، وقد ذكرت بعض متنزهات دمشق في أول قصيدتي ، وأتيت فيها بفنون من الغزل ، و الهجاء وغيرهما ، فقلت :- 

بوادي دمشق الشام جُزْ بي أخا البسط

                                 و عرج على باب السلام و لا تخطي 

ولا تبكِ ما يبكي امرؤ القيس حوملًا

                                ولا منزلًا أودى بمنعرج السقط

هنالك تلقى ما يروقك منظرًا 

                              و يسلي عن الإخوان والصحب والرهط

عرائس أشجار إذا الريح هزها 

                        تميل سكارى وهي تخطر*(2)في مرط*(3)

كساها الحيا أثواب خضر تدثرت 

                       بنور شعاع الشمس والزهر كالقرط*(4)

و منها :-

وقف بي بـ جسر الصالحية وقفة 

                                 لأقضي لبانات الهوي فيه بالبسط 

وعرج على باب البريد تجد به 

                                   مراصد للعشاق في ذلك الخط *(5)

وحاذر سويقات العمارة إنها 

                                  مهالك للأموال تأخذ لا تعطي 

فلو أن قارونًا تبايع بينهم 

                                لعاد فقيرًا للخلائق يستعطي 

ولست لما أنفقت فيها بآسف 

                             و لا بالرضا مني أمازج بالسخط .

وجاء في بعض كتبه أنه أدى فريضة الحج ، واتفق له بعد أدائه أن توجه مع الركب الشامي إلى ( معان ) ثم بلدة الخيل _ فأقام بها عشرة أيام ، ثم يمم القدس فنزل دار نقيبها ، وهنأه بعودته إلى منصبه بعد عزله منه ، ثم ارتحل إلى بلاد الروم وأقام بها طويلًا ، وسكن بلدًا من بلاد _الأرنؤوط _ ، و تأهل بها وأعقب ، ولكن لم يعش عقبه.

عودته إلى مصر :

ولما عاد إلى مصر تولى تحرير الوقائع المصرية ، فكان أحد الأزهريين الأدباء الذين نهضوا بها ، وكانت له شهرة علمية أدبية ، ومكانة أذعن لها معاصروه من العلماء و الأدباء و الأفذاذ.

كان يعقد مجلسًا لقراءة ( تفسير البيضاوي ) ، فيتوافد الشيوخ عليه تاركين حلق دروسهم ، وقد أهلته هذه المكانة العلمية و الأدبية ، وما اتسم به من النبوغ ، و ما طار من شهرته و بعد صيته أن يكون شيخًا للأزهر بعد وفاة الشيخ ( الدمهوجي الشافعي ) .

و لما قدم إلى مصر عام سبعة و ثلاثين ومئتين وألف من الهجرة كبير الدروز _ و كانوا قد انتقضوا عليه _ ملتجئًا الى محمد علي باشا ، وكان في صحبته بطرس النصراني ، اجتمع به وكان بينهما اتصال ومودة ، ورأى المترجم فيه تمكنًا من الأدب والمحاضرة ، ومعرفة بالتواريخ و الأنساب وعلوم العربية وقد حدث بذلك*(6) ، وبأن بطرسًا امتدحه بقصيدة منها :- 

أمــا الـذكـاء فـإنـه             أذكــى وأبـرع مـن إيـاسـه

في أي فــنٍّ شئـتـه               فـكـأنه بـانـي أسـاسـه

أضحى البديع رفيقـه             لما تفرد في جـنـاسه.

مواهبه :

كان رحمه الله طموحًا محبًّا للاجتماع و التنقل ، ومشاهدة الحضارات المختلفة ، وكان معروفًا بالجد و الذكاء معًا ، حدَّث عنه معاصره :- الشيخ محمد شهاب الدين المصري ، الشاعر بأنه كان آية في حدة النظر وشدة الذكاء ، وأنه ربما استعار منه الكتاب في مجلدين ، فلا يلبث عنده الأسبوع أو الأسبوعين ثم يعيده إليه وقد استوفى قراءته ، وكتب في طـرره *(8) على كثير من مواضعه *(9) ، و مما عرف عنه أنه كان يرسم بيده المزاول النهارية.

آثاره : 

له تآليف عدة ؛ منها : ( حاشيته على جمع الجوامع ) نحو مجلدين ، و ( حاشية على الأزهرية في النحو ) ، و ( حاشية على مقولات الشيخ السجاعي ) ، و ( حاشية على السمر قندية ) ورسائل في الطب ، و التشريح ، و الرمل ، و اليازرجة و غير ذلك ، وقد شرح جزءًا من ( الكامل ) للمبرد.

شـعـرة :

لم يُجمع شعر العطار في ديوان ، وقد أراد هو ألا يحتفظ بشعره الذي نظمه في المدح و الهجاء ، ورغب ألا يحفظ عنه إلا ما كان غزلًا رقيقًا نظمه في صباه ، حيث العيش غض ، و الزمن من الشوائب محض ، وأن مما يؤسف له أن يفقد كثير من ثروة العطار الشعرية النفيسة ، ولو توفر جمع شعره لارتسمت فيه صورة ناطقة لشاعريته ، ومواهبه وشخصيته ، ووضحت هذه القصائد مجتمعة كثيرًا من أحوال العصر إذ الشعر مرآته المجلوة.

ومهما يكن من شيء ففي القصائد المتناثرة التي وقعنا عليها ما يعين _ و لو في جهد _ على دراسة شعره ، وطريقته و اتجاهه الشعري .

يدل ما بين أيدينا من شعر العطار على السهولة ، ووضوح الغرض و إشراق المعنى وسعة الأفق ، و غزارة مادة التشبيه ، ولعل مما بسط في أفقه الشعري ، ومد في خياله ، ومال به في الشعر إلى الوضوح و الرقة و السجاحة ما تهيأ له من مخالطة الكبراء و العظماء ، وما كلف به من حب الحياة الاجتماعية وغشيانها في شتى مجاليها ، ومختلف ميادينها وما اجتلاه في الممالك التي ارتحل إليها وحال في ربوعها من مشاهد و حضارات ، و أخلاق و عادات ، وما اطلع عليه من ألوان الحياة المتقاربة و المتباينة ، فإن كل ذلك من مقومات الشعر ، ومن أسباب بسطة وتلوينه ، على أن هذه المخالطات وتلك الاتصالات التي وثق العطار أسبابها صرفت شعره عن التعقيد و الغموض و الالتواء.

و يظهر أن العطار يميل بطبعه إلى السلاسىة ، و ينحو بفطرته إلى الإشراق و السهولة ، وإذا رجعت إلى أقدام ما عثر عليه من شعره لم تَفُتْك منه هذه الصفات ، وطالعتك منه صفحة نقية من الغموض و الالتواء.

فمن أقدم شعره قصيدته التي رواها الجبرتي *(10) ؛ يمدح بها الشيخ :- شامل أحمد بن رمضان المتوفي سنة خمس عشرة ومئتين و ألف من الهجرة ، حينما ولي مشيخة رواق المغاربة إذ يقول : -

انهض فقد ولت جيوش الظلام

                                 وأقبل الصبح سفير اللثام

وغنت الورق على أيكها

                                 تنبه الشرب لشرب المدام

والزهر أضحى في الربا باسمًا

                                  لما بكت بالطل عين الغمام

والغصن قد ماس بأزهاره

                                   لما غدت كالدر في الانتظام

 وعطر الروض مرور الصبا

                                     على الرياحين فأبرا السقام 

كأنما الورد على غصنه

                           تيجان إبريز على حسن هام

كأنما الغدران خلجان أغــ

                                 ـصان النقا والنهر مثل الحسام(11)

كأن منظوم الزراجين بها

                              قوت غدا من نظمه في انسجام*(12) 


كأنما الآس*(13) عذار *(14) على 

                                        وجنـته وقد علاها ضرام

كأنما الورقاء لما شدت

                                        تتلو علينا فضل هذا الإمام

بشراك مولاي على منصب

                                         كان له فيك مزيد الهيام

وافاك إقبال به دائمًـا

                                   وعشت مسعودًا بطول الدوام

فقد رأينا فيك ما نرتضي 

                                   لا زلت فينا سالمًا والسلام .

وهذه الأبيات من أقدم شعرة الذي عثر عليها ، وهي مبتسمة بالسهولة و وضوح الغرض و مجافاة الغموض ، مح حسن صياغتها و تسلسلها ، وكثرة تشبيهاتها المحكمة السائغة 

و مما قاله متغزلًا :-

إلى متى أشكو ولم ترث لي

                                   أما كفى أن رق لي عذلي؟

يا باخلا بالوصل عن عاشق

                                   بعسجد الأجفان لم يبخل

أنفق في حر الهوى عمره

                                     وعن أمانيه فلا تسأل

لم يبق في الصب سوى مهجة

                                   أمست بنيران الهوى تصطلي

ومقلة ترعى نجوم الدجى

                                     شقيقك الزاهر عنها سل

تبيت تبكي شجوها كلما

                                      هـاج بذكراك فـؤاد بـلي

ما أطول الليل على عاشق 

                                 فـارق محبوبًا عليه ولي 

كأنما الصبح اتقى سطوه 

                                  من كـافر الـلـيل فلم ينجل .

فهذه القطعة من أرق أبيات الصبابة وأعذبها ، أودعها

الشاعر عواطفه وشجونه ، فعبرت عنها أصدق تعبير ، فهو

يعتب على محبوبه عتاب الشاكي ويسائله : إلام يغضي من

شكواه ، وقد رثى العُذَّل لحاله ؟

ثم يتجه إليه فيخاطبه قائلا :- متى بخل بالوصل على عاشق جاد بعسجد أجفانه لطول بكائه ، وأنفق عمره في حر الهوى ، وأنت معرض لا تسأل عن أمانيه ، لم يبق في محبك إلا مهجة تصطلي بنار الهوى ، ومقلة تبيت ساهرة ترعى النجوم ، فسل شقيقك ينبئك عن حالها ، إنها تبيت تبكي كلما هاج بذكراك الفؤاد البالي.

ثم ينتقل الشاعر إلى التبرم من طول الليل على العاشق

الذي فارق محبوبًا ولي عليه ، وينـتظر الصـبح فلا يطلع ،

فيخيل إليه أنه يخشى سطوة الليل الكافر ، فمن ثم لم ينجلِ ، وهو مسبوق إلى هذا المعنى بقول البهاء زهير :-

لـي فـيـك أجـر مـجـاهـد

                                     إن صـح أن الـلـيـل كـافـر.

 واكتفي بهذا القدر ......... حتى لا أطيل عليك عزيزي/ت ... 

و هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺

إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان.

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

*الـمـراجـع .___________________________

*(1)_ الكدية :- بمعني ( السؤال )_______.

*(2)_ تخطر : خطر في مشيته اهتز وتبختر _____.

*(3)_ المرط : كساء من صوف أو خز _____.

*(4)_ القرط : ما يعلق في شحمة الأذن ( حلق)___.

*(5)_ الخط : بالضم موضع الحي والطريق والشارع ، ويفتح ، وبالكسر الأرض لم تمطر ، والتي تنزلها ولم ينزلها نازل قبلك __________________________ .

*(6)_ الخطط التوفيقيه ، جـ ٤ ، صـ ٣٩_________.

*(7)_ الطرز ؛ جمع طرة ، وهي جانب الثوب الذي لا هدب له ، وشفير النهر و الوادي ، وطرف كل شيء وحرفه ، والناصرية______________.

*(8)_الخطط التوفيقيه ، جـ ٤ ، صـ ٣٩_______.

*(9) _ الجزء الـثـالث ، صـ ١١٣_________.

*(10)_النقا : القطعة من الرمل تنقاد محدودبة_____.

*(12)_ الزراجين ، مفردها الزرجون ، كقربوس شجر العنب( العنقود ) أو قضبانها ، والخمرة ، وماء المطر الصافي المستنقع في الصخرة______.

*(13)_ الآس : نبت معروف من الرياحين ____.

*(14)_ عذار اللحية : الشعر النازل على اللحيين _____.

ايه الكرسي أسمعها فقط ،،،،،



              


الأحد، 7 يوليو 2024

رفاعة بك رافع الطهطاوي_ Taha


الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

هو السيد : 

رفاعة بك ابن بدوي بن علي بن محمد بن علي رافع ، و يلحقون نسبهم بمحمد الباقر بن على زين العابدين ابن الحسين ابن فاطمة الزهراء.

المتوفي سنة ١٢٩٠ هـ = ١٨٧٣ مـ .

ولد في طهطا بمديرية جرجا في صعيد مصر ، و يؤخذ مما كتبه عن نفسه في رحلته أن أجداده كانوا من ذوي اليسار . 

و لكن الدهر أخنى عليهم ، و الأيام تنكرت لهم ، فلما وُلِدَ تفتحت عيناه على الضيق و العسرة ، و سار به و الده إلى منشأة - النيدة - بالقرب من مديرية جرجا ، فألقى عصاة تسياره بين قوم كرام النفوس ، ذوي يسار و  مجد ،  يقال لهم ( بيت أبي قطنة ) فأقاما هناك مدةً ، ثم نزحا إلى - قنا -و لبثا بها حتى شَبَّ الغلام ، و شرع يقرأ كتاب الله ، ثم نقل إلى فرشوط التي عاد منها إلى طَهْطَا و طنه الأول ، بعد أن أتمَّ القرآن حفظًا .

الأزهري الصغير

و قد تهيأت له في حداثته ثقافةٌ أزهريةٌ ؛ إذ قرأ كثيرا من المتون الأزهرية المتداولة على أخواله ، و فيهم طائفة من علماء الأزهر الفضلاء ؛ كالشيخ : عبد الصمد الأنصاري ، و الشيخ : أبي الحسن الأنصاري ، و الشيخ فراج الأنصاري ، و غيرهم .

و لما توفي والد رفاعة قدم هو إلى القاهرة ، و انتظم في سلك الطبلة بـ الجامع الأزهر ، في سنة ١٢٢٣ هـ ؛ وجَدَّ في الدرس و المطالعة حتى نال من العلم حظًّا محمودًا ، و لم يمضِ بضع سنين حتى صار من طبقة العلماء في اللغة و الحديث و الفقة ، و سائر علوم _المنقول _ و المعقول ، و كان في جملة مَنْ تلقَّى عنهم العلم العالم اللغويّ الشاعر و الكاتب الشيخ _ حسن العطار ؛ المتوفي في سنة ١٢٥٠ هـ ، و قد تنبه إلى مخايل ذكائة ، وأمارات نجابته ، فميزه من أقرانه ، و خصه ببالغ عطفه ، و كان يتردد على منزله لينهل من علمه ، و ينشد توجيهه ، و يشترك معه في الاطلاع على الكتب الغريبة التي لم تتداولها أيدي علماء الأزهر*(1).

نبوغـه المبكر 

أشرق نبوغُ رفاعةَ وذكاؤُه وهو لدن العود ، غَض الصبا ، وبدت لذلك علائم ودلائل ، فقد أُثِرَ عنه أن أحد الفضلاء المدرسين سأله زمن حضوره بالأزهر ، تأليف خاتمة لكتاب _ قطر الندى وبل الصدى _ فأجابه لذلك و أنشأها في صحن الأزهر ، في جلسة خفيفة ، فختم القطر بها ذلك المدرس ، وعُدَّ ذلك على فضله مع حداثة سنه من أبلغ الدلائل ، ومن ذلك الوقت اعترف له وهو ابن عشرين سنة جميع أبناء طبقته ؛ بأنه تلقى راية العلم باليمين*(2).

مواهبه وجده 

قضى رفاعة في الدراسة في الأزهر زهاء ثماني سنوات ، كان فيها مرموقًا لذكائه وجدِّه ، وسلامة ذوقه ، ودقة فهمه ، لم يكن يلتزم طريقة زملائه الطلاب في مبدأ طلبه ؛ = بل كانت دروسه تتعدد في اليوم الواحد تعدادًا زائدًا عن طاقته و وسعه*(2).*

وقد اشتغل في الأزهر بعد تخرجه بتدريس كتبٍ شتى في المنطق و البيان و البديع و العروض و الأدب وغير ذلك وكان سهل الأداء ، عذب الأسلوب ، فصيح التعبير ، قادرًا على تصوير المعنى بطرق مختلفة ، يجد الذكي و غيره في درسه نفعًا وإرشادًا وهداية.

ولقد يبلغ به الجد والمثابرة أنه لا يقف في ذلك اليوم و الليلة على وقت محدود ، فكان ربما عقد الدرس للتلامذة بعد العشاء ، أو عند ثلث الليل الأخير ، ومكث نحو ثلاث أو أربع ساعات على قدميه في درس اللغة ، أو فنون الإدارة و الشرائع الإسلامية ، و القوانين الاجنبية ، و كذلك كان دأبه معهم في تدريس كتب فنون الأدب العاليه ؛ بحيث أمسى جميعهم في الإنشاء نظمًا ونثرًا أطروفة مصرهم ، وتحفة عصرهم ، ومع ذلك كان هو بشخصه لا يفتر عن الاشتغال بالترجمة أو التأليف ، و كانت مجامع الامتحان لا تزهو إلّا به*(3).

الوظائف التي شغلها 

شغل رفاعة بك كثيرًا من الوظائف العلمية و الإدارية ، فكان فيها مثلًا رفيعًا للكفاية و الجد ، ونموذجًا يحتذى في بروز الشخصية و وفرة الإنتاج ، و قد عثر صالح بك مجدي صاحب كتاب ( حلية الزمن بمناقب خادم الوطن ) على ورقة مختومة سرد فيها رفاعة المناصب التي تقلدها ، و الأعمال التي اضطلع بها ، وذلك أنه عُيِّنَ خطيبًا و واعظًا لدى _حسن بك المانسترلي_ ، الذي ارتقى فيما بعد رتبة الباشوية ، وعين في منصب (( الكتخدائية )) في عهد عباس باشا الأول _، وتُوفيَ في زمن محمد سعيد باشا _ ، ثم نقل إلى مثل هذه الوظيفة لدى أحمد بك الشكلي ، الذي مُنح رتبة الباشوية فيما بعد ، و توفي في عهد محمد سعيد باشا.

رفاعة في البعثة 

ولما أراد محمد علي أن يرسل طائفةً من الشباب النابهين إلى باريس ؛ لينقلوا علوم الغرب وآدابه وثقافته ، و طلب من الشيخ حسن العطار ، أن ينتخب لهم إمامًا من علماء الأزهر ، فيه الأهلية و اللياقة ، اختار تعيين صاحب الترجمة لتلك الوظيفة .

و كان الشيخ حسن العطار من المعجبين بذكائه ، المقدرين كفايته و علمه ، فزكَّاه لهذا العمل الذي كان باكورة نجاحه و مطلع شهرته وانبلاج صبحه.

اتجه مع البعثة إلى باريس موصًّى من شيخه العطار بأن يجدي على بلاده بعمل رحلة ، يسجل فيها ما يشاهده في فرنسا من أحوال و أخلاق و عادات فألف رحلته المشهروة التي سماها : ( تلخيص الإبريز ، و الديوان النفيس ) ، وقد شرع يتعلم الفرنسية منذ غادر مصر ، وبذل همه وعزمه ، واتخذ له بعد وصوله إلى باريس معلمًا خاصًّا على نفقته ، و ما لبث في هذه البلاد أن عرفه العلماء و الأدباء و قدروه حق قدره و كان للمسيو ( جومار ) فضل سابغ عليه بإرشاده وتعليمه و وفائه له في وده ، كما فعل ذلك معه العالم الشهير ( البارون دساسي ) .

و في المدة التي أقامها بباريس بين _ ١٢٤١ و ١٢٤٦ هجرية ؛ نبغ في العلوم و المعارف الأجنبية ، و لاسيما في الترجمة في سائر العلوم على اختلاف مصطحاتها ، ولم تكن هذه المدينة البراقة الفاتنة لتصرفه عن التوفر على المثابرة والتضلع في ثقافة هذه البلاد ، أو تجرح خلقه وحصانته ، بل أكبَّ على عمله غير مدخر وسعًا ، حتى ترجم خلال إقامته بباريس جمهرةً من الرسائل و الكتب ، منها : ( قلائد المفاخر ) و الذي سنذكره في آثاره.

عودة رفاعة من بعثته

ولما رجع من بعثته عُيِّنَ في سنة ١٢٤٩هـ ؛ بمدرسة الطب بأبي زعبل في وظيفة مترجم و مدرس للغة الفرنسية ، ورئيسًا لقسم الجغرافيا بالمدرسة ، ثم انتقل في السنة نفسها إلى مدرسة الطوبجية ، وأقام بها إلى سنة ١٢٥١ هـ ؛ شغل وظيفة مترجم ، و كانت هذه المدرسة قائمة على تحصيل الفنون العربية ، مؤسسة لترجمة العلوم الهندسية و الفنون العسكرية ، ويقول صاحب (( حلية الزمن )) صـفحة رقم -١٢؛ وقد عثرت له مدة إقامته بها على رسالةٍ مترجمةٍ في الهندسة العادية ، مطبوعة بمطبعة بولاق البهية ، و هذه الرسالة من جملة الرسائل الفرنسية التي يقرؤها التلامذه بمدرسة سانسيرا بفرنسا ، و قد انتفع بها أبناء هذه المدارس .

ثم وكلت إليه نظارة ( قلم أفرنجي ) في عهد محمد سعيد باشا ، و نيطت به نظارة دار كتب قصر العيني ، و كانت ضخمة حافلة بالأسفار ؛ إذ تضم أثني عشر ألف ، أو خمسة عشر ألف مجلد ، ومعظمها بالفرنسية و الإيطالية*(4).

كما وُكِّلَت إليه رئاسة فرقة تلامذة الجغرافيا بهذا القصر.

رفاعة ومدرسة الألسن

و كانت هذه المدرسة من وحي رأيه ، وثمرات فكره ، فقد عرض على الجناب العالي أن تنشأ هذه المدرسة لتجدي على الوطن أبلغ جدوى ، و ليستغني بها عن الأجانب الدخلاء ، وقد عهد إليه اختيار التلامذة لهذه المدرسة فطاف بهم ، وانتخب مَن وجد فيه صلاحية وكفاية . 

أسس رفاعة مدرسة الألسن، وانتهت إليه إدارتها والإشراف على تلاميذها والترجمة بها ، وعلاوة على قيامه بإدارة المدرسة من الوجهة الفنية ، كان ناظرًا لها من الوجهة الإدارية ، كما كان يشرف على مراجعة و إصلاح الكتب التي كان يمر بها تلامذته *(5).

ولما كان مرهقًا بكثرة العمل ، و الاضطلاع بمختلف الشئون ، خصص له ديوان المدارس مدرسًا فرنسيًّا ليعاونه في إدارة المدرسة ، و التفتيش على الدروس وأمانة المكتبة ، وليخفف بمعاونته من هذه الأعمال التي يضيق الزمن بها ، فإنه كان يطوف كل عام بمكاتب المبتديان في الأقاليم ؛ ليشرف على امتحان التلاميذ الذين يتقدمون إلى المدرسة التجهيزية ؛ ليلحق المتفوقين منهم بها .

و من العجيب أن يضطلع إلى جانب هذا كله بنظارة مدرسة التجهيزبة ، و الوقائع المصرية ، و الكتبخانة الأفرنجية ، و مخزن عموم المدارس ، و الإشراف على قلم الترجمة الذي أُسِّس بمدرسة الألسن ، و الإشراف على مدرسة المحاسبة و الفقه الشرعيّ ، و الإدارة ، و الأحكام الإفرنجية ، وملاحظة المكتب العالي ( بالخانقاه ) ، وقد ظل رفاعة بك مديرًا لمدرسة الألسن ، و المدارس الملحقة بها ، حتى أوائل عصر عباس الأول ؛ حيث نُقلت من الأزبكية إلى الناصرية و لما ألغيت مدرسة الألسن ، عُيِّنَ ناظرًا للمدرسة الابتدائية التي أنشئت في الخرطوم .

تلك هى الوظائف التي شغلها رفاعة بك ، الذي كان حركة دائبةً و عملًا موصولًا ، و إنها لجهود جبارة تتقاصر دونها جهود الرجال وتعيا عن حملها قوي متضافرة و عزائم متعاونة ، عدا ما اضطلع به من أعمال جسام عقب عودته من الخرطوم .

و لنظارته لمدرسة الخرطوم بالسودان قصةٌ تهوى النفوس معرفتها : سوف نكلمها في موضوع اخر وكيف كان نفيه إلى الخرطوم ، وأثر رفاعة في الحركة العلمية فى السودان واكتفي بهذا القدر ......... حتى لا أطيل عليك عزيزي/ت ... 

و هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺

إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

*الـمـراجـع .___________________________


*(1) الخطط التوفيقيه ، جـ ١٣ ، صـ ٥٤._________

*(2) حلية الزمن بمناقب خادم الوطن ، للسيد صالح مجدي صـ٥______________

*(2) نفس المرجع صــ٥_________

*(3) الخطط التوفيقيه ، جـ١٣ ، صـ٥٤______

*(4) تقويم النـيل ، لأمين باشا سامي جـ٢ ، صـ ٤٤٨.___

*(5) دفتر رقم ٢٠٢١ ( مدارس تركي ) ، جلسة شورى

 المدارس ، في ٢١ من ذي القعدة ، سنة ١٢٥٢ هـ.
 

الأربعاء، 18 أكتوبر 2023

Tahira Quraish طاهرة قريش


 



كانت قريش على حقٍّ حين لقَّبَتْها بلقبِ الطاهرة ؛ فقد شدت انتباهَ أهلِ مكةَ بنقائِها ، و أمانتِها ، و طهارتِها فى كل ما تفعلُ أو تتركُ من الأمر.

رأتها قريش طاهرةَ اللسان ؛ تقولُ فتصدقُ ، و تعِدُ فتَفِى ، و تتحدثُ بالكلمةِ النافعةِ التى تحمى حقََّـا ، أو تدفعُ ظلماً ، أو تنفِّسُ كربةَ سائل أو جائعٍ أو محروم ، فإذا لم يكن حقٌّ و خيرٌ صانت لسانَها عما يلوِّثُه و يشوِّهُـه .


و وجدَتْها طاهرةَ اليِـد ، تبسُطُها بالعطاء ، فتمسحُ بها دموعَ المحزونين ، و تداوى بها آلامَ البائسين و اليائسين ، و تقبضُها عن أن تمتدَّ إلى ما ليس لها ، أو تؤذىَ أحداً من أهلِها أو ممن يعملون في تجارتِها أو من غيرِ هؤلاء و هؤلاء .

و عهِدَتْها طاهرةَ الذَّيلِ ، تعـطِّـرُه بالعـفَّـةِ و الالتزامِ و قوةِ الإرادةِ ، و لا تعرِّضُـه أبداً إلى شيءٍ مما يدنّسُ النساء ، ويجلب لهنَّ الفضيحة والعار .

و عرفَتْها طاهرةَ القلبِ ، تعمُرُه بحبِّ الخير للناسِ ، و لا تطويه على غلٍّ أو حقدٍ أو طمعٍ أو خداع .

و تابعَتْ قريش حياةَ هذه السيدة : بنتاً ، و زوجةً ، و أُمًّـا ، وربَّةَ عملٍ واسعٍ في التجارةِ و تـثميرِ المالِ ، فأعجِبَت بها فى كلِّ حالٍ من أحوالِها ، و كل موقفٍ من مواقفِها.

أُعجبت بها فتاةً عاقلةً رزينةً ، تترفَّـعُ ، مع جمالها و شبابها ، عن كلِّ ما يصدرُ عن الفتياتِ الطائشاتِ من نظرةٍ مائعة ، أو كلمةٍ لينة خاضعة ، أو حركة منحطة نابية ، و تحرِصُ على أن تتصرَّفَ في الخفاءِ كما تتصرفُ حين يراها الناسُ ، و تتسلطُ عليها الأنظار .

و أُعجِبَت بها زوجةً صالحةً ، تنهضُ بحقِّ زوجِها ، و تخلِصُ له ، و تحملُ أعباءَه و ما تستطيعُ من هفواتِه ، و لكنها تترفَّعُ عما لا يجمُلُ بمثلها من حياةِ سيداتِ قريش اللائى تصوَّرْنَ أن السيادة غطرسةٌ و كبرياء ، و إسراف في المأكِل و الملبَس و الزينة ، و مجاراةٌ للأزواجِ فى اللهو و العبث والتمتعِ بالرقصِو الغناءِ . 

كما أُعجِبت قريش بها ؛ لحسنِ قيامِها على تربيِة أولادِها الذين تركهم لها عتيقُ بنُ عائٍذ المخزومىُّ زوجُها الأول ، و هندُ بنُ زُرارةَ زوجُها الثاني ؛ فقد بذلت غاية جهدها فى رعايتهم وإعدادهم للحياة التي تنتظرُ أمثالَهم ورضِيَت قريش عنها كل الرضا ، وهى تمارس عملها التجارى الواسع ، فى مَقدرةٍ يعجِزُ عنها كثيرٌ من الرجالِ ؛ لأنها فتحت أبوابَ العيش لمن يعملونَ في تجارتها ، كما فتحت بجودها وسخائِها أبواب الأملِ لمن كانوا يتهافتون عليها من الجياعِ المطحونين فى مكةَ ، و ممن يفدون إليها طلباً للمعونة والعطاء .

لهذا كلِّه ، و أكثرِ منه ، رضيت عنها قريش وأُعجِبَتْ بها في الجاهلية ، و عبرت عن رضاها و إعجابِها بهذا اللقب الذى منحته إياها ، وكانت تسميها و تناديها به.

و لكن أهلَ مكة عادوا ، فاستعجبوا ودهشوا لموقفها الغريب من الزواج ؛ فقد تقدَّمَ لها عددٌ غيرُ قليل من كبارِ قريش ، و طلبوا فى إلحاحٍ يدَها ، و لكنها ردتهم جميعاً ، و لم تَرتَضِ واحداً منهم .. و طالما تساءَلَ مَنْ حولَها عن سرِّ هذا

الرفض ، و قالوا فى حيرة : حقًّا إنها تزحف نحو الأربعين من عمرها و لكنها تبدو و كأنها فى ميعة الشباب ؛ بما فيها من قوةٍ و حيوية ، و ما لها من جمالٍ و نضارةٍ و إشراق .. ثم إنها ذاتُ حسبٍ و نسبٍ و ثراءٍ و منزلةٍ كريمة في عيون الناسِ و قلوبهم ، و كلُّ هذه مبرراتٌ ، تدفع إلى الزواج ، و لا تدفع إلى

العُدولِ عنه .. و كثيراً ما عتبوا عليها ، وودُّوا لو تغيّر موقفها منه ، و لكنها لم تستمع لهم ، و لم تغير من موقفها شيئاً

و لم تكن هذه الحيرة بعيدةً عن بيت هذه السيدة نفسه ، فكثيراً ما كان

مواليها يفرُغون من عملهم ، فيلتقُون على سمرٍ أو حديث أو حوار كهذا الحوار :

الأول : لقد رعانى القدَرُ حين ساقنى إلى بيتِ هذه السيدةِ الطيبة .. إن بيتها جنة ! إنها تعاملُنا كما تعامل أولادَها ، فلا شتم ولا زجر ، ولا ضربَ ولا إذلالَ ولا شيء مما يعانى الموالى والعبيد من حولنا !

الثاني : الموالى و العبيد من حولنا ! إنهم يعيشون فى جحيم ! يأكلون من بقايا الطعامِ كالكلاب ، و يُضْرَبون بالسياطِ ، و يكلَّفونَ القيامَ بأشقِّ الأعمال ، ولا يحسُّ أحد بآلامِهِم ، و إذا تعبوا أو مرِضوا أو هدَّتهم السنُّ لم يجدوا من يفكر فيهم.

الثالث : كم أود أن تكمل سعادتها بزوج صالحٍ مثلِها !

الأول : و من مثلُها ؟ لا أجد أحداً مثلَها أو قريباً منها . شرفٌ و سيادةٌ ، و عفة و طهارةٌ ، و أدبٌ وأخلاقٌ ، و جمال ورقةٌ ، و عقلٌ كبيرٌ ، ويدٌ سخيةٌ ؛ يبدو أنها عزفت عن الزواجِ و أصبحت لا تفكر فيه !

الثاني : بل هى تفكرُ فيه ! أراها من حين إلى حين شاردةَ الذهن كأنها تحلمُ ، و فى ملامحِ و جهِها ثقةٌ وأمل بأنَّ الأقدارَ سوف تُهدِيها أو تُهدى إليها الرجلَ الذي تحلمُ به !

الثالث : لعل القدَرَ أَخَّرَ زواجها لأمرٍ أراده و لا نعلمه !

كانت طاهرةُ قريش التى جذبت انتباهَ ، قومِها ، فأعجبوا بها ، و حاروا في أمرِها هي خديجةُ بنتُ خويلد بنِ أسدٍ حفيدِ قصيِّ بن كِلاب ، عَظيمِ قريش الذى ألَّفَ بين أهلها ، وجمعهم على الوحدة والمحبة والسلام .

و هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺

إلى أن ألقاكم أن شالله على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼


الخميس، 7 سبتمبر 2023

مؤيد الدين العلقمي Minister Al-Alqami

 




الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

من هو الوزير مؤيد الدين العلقمي ، و لا يغرك اسمه ، فقد كان رجلاً فاسداً خبيثاً جداً ، وكان رافضياً ، يرفض خلافتي _أبو بكر الصديق_ و _عمر بن الخطاب_ رضي الله عنهما ، وكان شديد التشيع كارهاً للسنة وأهلها ، ومن العجب أن يصل إلى هذا المنصب المرموق في دولة سنية تحمل اسم الخلافة و هو على هذه الصفة ، ولا شك أن هذا كان قلة رأي و ضحالة فكر و سوء تخطيط من الخليفة ( المستعصم بالله ) ، الذي ترك هذا الوزير المفسد في هذا المكان الخطير الحساس.

و لم يتول هذا الوزير الوزارة شهراً أو شهرين أو سنة أو سنتين، وإنما بقي فيها ١٤_ سنة كاملة من سنة ( ٦٤٢) هجرية إلى سنة( ٦٥٦ )هجرية عندما سقطت بغداد ، فقد تولى المستعصم بالله خلافة المسلمين سنة ( ٦٤٠ )هجرية ، وبعد سنتين جاء بهذا الوزير المفسد إلى مركز كبير وزراء الخلافة العباسية.

فتعاون مع هولاكو و إستغل منصبه و اتفق معه على تسهيل دخول الجيوش التترية إلى بغداد بالآراء الفاسدة الاقتراحات المضللة على قدر ما يستطيع ، في مقابل أن يكون له شأن في مجلس الحكم الذي سيدير بغداد بعد سقوط الخلافة.

و اقنع الوزير مؤيد الدين العلقمي الخليفة العباسي 

( المستعصم بالله ) بأن يخفض من ميزانية الجيش ، وأن يقلل من أعداد الجنود ، و ألا يصرف أذهان الدولة إلى قضايا التسليح و الحرب ، وأن يحول الجيش إلى الأعمال المدنية و الزراعية و الصناعية و غيرها ، حتى يصبح الجيش مشغولاً بزراعة الطماطم و الخيار و بناء الكباري و عمل المخابز و الأطعمة ، و لا داعي للتدريب و القتال و السلاح و الجهاد ، حتى لا تثار حفيظة التتار ، ونقول لهم :_ ( نحن قوم سلام ولسنا قوم حرب ، وانظروا إلى جيشنا ماذا يعمل ) ؛ فلما قال الوزير مؤيد الدين العلقمي هذا الكلام للخليفة ( المستعصم بالله ) وافقه على ذلك.

و بدأت خطة إضعاف جيش الخلافة العباسية ، فخفض ميزانية التسليح وقلل أعداد الجنود ، أصبح الجيش العباسي المسلم الذي كان يبلغ عدده مائة ألف فارس في آخر أيام ( المستنصر بالله ) ( والد المستعصم بالله ) سنة ( ٦٤٠ ) من الهجرة لا يزيد على عشرة آلاف فارس فقط في سنة ( ٦٥٤ ) هجرية ، وكان هذا هبوطاً مروعاً في إمكانيات الخلافة العسكرية ، و ليس هذا فقط ، بل أصبح الجنود في حالة مزرية من الفقر و الضياع ، فكان الجندي لا يجد ما يأكل أصلاً ، حتى أنهم كانوا يسألون الناس في الأسواق ، وأهملت التدريبات العسكرية ، و فقد قواد الجيش مكانتهم ، حتى لم يوجد بينهم من له القدرة على التخطيط أو الإدارة أو القيادة ، ونسي المسلمون فنون القتال و النزال ، و غابت عن أذهانهم تماماً معاني الجهاد بسبب ضحالة الفكر من الخلفية.

و في _البداية و النهاية_ لابن كثير ، يلقي باللوم الكامل على _مؤيد الدين العلقمي_ في نصائحه للخليفة ، و لكن اللوم هنا على الخلفية ذاته ، فهو الذي قبل بهذا الهوان ورضي بهذا الذل ، و غاب عن ذهنه أن من أهم و اجباته كحاكم أن يضمن لشعبه الأمن و الأمان ، وأن يدافع عن ترابه و أرضه ضد أي غزو أو احتلال ، وأن يبذل قصارى جهده لتقوية جيشه و تسليح جنده ، وأن يربي الشعب بكامله لا الجيش فقط على حب الجهاد و الموت في سبيل الله ، ولم يفعل _الخليفة المستعصم _ذلك ، ولا عذر له عندي و عندكم فى التاريخ ؛ فإنه كان يملك من السلطان ما يجعله قادراً على أخذ القرار ، و لكن النفوس الضعيفة لا تقوى على أخذ القرارات الحاسمة.

و كان هذا هو إعداد هولاكو و وزيرة منكو خان، و قد كان إعداداً مبهراً عظيماً كبيراً حقاً.

و في المقابل لم يكن هناك أي رد فعل مناسب أو غير مناسب من المسلمين استعداداً للغزو التتري القريب عما قليل للخلافة العباسية ، فما هي إلا خطوات و هولاكو يجميع الجيوش ويستعد لغزو العاصمة الإسلامية التليدة العتيدة بغداد !

التي كان بمجرد التفكير في غزوها فقط قبل بضع سنوات هي نهايته و نهاية مملكة التتار.

و هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ و أن يجعل لنا في التاريخ عبرة ، إنه ولي ذلك والقادر علية ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺

إلى أن ألقاكم أن شالله على مدونتي 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼





الاثنين، 31 يوليو 2023

Patience over affliction الصَّبرُ على البلاءِ


 


الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

بيَّنَّا في مقالات سابقةِ أن الابتلاءَ بالنسبةِ للمؤمنِ باللَّه تعالى خيرٌ كلُّه ؛ لأنه يُعرِّضُه لثوابٍ عظيمٍ ينالُه جزاءَ ما قدَّمَ من شكرٍ أو صبرٍ ، وبيَّنَّا أن الابتلاءَ بالمصائبِ كالفقرِ و المجاعةِ و الأمراضِ و فَقْدِ الأحبَّةِ ليس أمارةً على سَوءِ حالِ المبتلَى ، فصفوةُ البشريةِ هي التي يُصيبُها البلاءُ ، كما بيَّنا أنَّ البلاءَ كثيرًا ما يكون طريقًا معبَّدًا الى جنةِ الرضوانِ و النعيمِ المقيمِ .... بل إن العبدَ قد تكونُ له منزلةٌ في الجنهِ لا يَصِلُ إليها بعملِه الذي اعتادَ عليه لعلوِّ هذه المنزلةِ و سُموِّها عن درجةِ عمله ، فيُبتلَى من اللَّهِ ، فيبلغ هذه الدرجة بثواب الصبرِ على قضاء اللَّه ، و قد مرَّ بنا قول النبي ﷺ : (( عَجبًا لأمرِ المؤمنِ ، إنَّ أمْرَه كلَّه له خيرٌ ، و ليسَ ذلك لأحدٍ إلا للمؤمنِ ؛ إن أصابَتْه سراءُ شَكرَ فكان خيرًا له ، و إن أصابَتْه ضراءُ صبرَ فكان خيرًا له )) …*(١).

و سببُ الخير في عموم البلاءِ هو : 

التَّحقُّقُ بمقامِ الصبرِ أو مقامِ الشكرِ ، و هما مَنزلانِ لا يَنزلُهما إلا مؤمنٌ باللَّه و باليومِ الآخرِ ، و بالجزاءِ ثوابًا و عقابًا .

و قد وردَ ذِكرُ الصبرِ و مُشتقاته في القرآنِ الكريمِ أكثر من مئة مرةٍ ، و هو يدورُ على(( حبس النَّفسِ على ما تَكرَه ابتغاءَ مرضاةِ اللَّه )) ، و قد أشارَ النبي ﷺ الى مناطِ الثوابِ في الصبرِ ، و هو : 

الصبرُ على المكارِه ، و ذلك في الحديثِ الشريفِ : (( و اعْلَمَ أنَّ في الصبرِ على ما تَكرَه خيرًا كثيرًا )) …*(٢).

و قد ربطَ القرآنُ الكريمُ ، و كذلك السنةُ المشرفةُ ، بين الصبرِ و بين أعظمِ الدرجاتِ في الدنيا و أجلِّها ثوابًا في الآخرةِ ، فالصابرونَ هم أئمةُ المتقينَ ، و ينالون أجرهم مرتينِ بما صبروا ، و اللَّهُ مع الصابرينَ ، كما ربطَ القرآن بين الصَّبر و النَّصر ، و جعَل الصَّبر الأنفعَ في النوازلِ و الملماتِ : { وَأَن تَصْبِرُوا۟ خَيْرٌ لَّكُمْ }{ النساء : ٢٥ } ،

{ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } { النحل : ١٢٦}.

و قد رُوي عن النبي ﷺ أنَّه وصفَ الصَّبرَ بأنَّه نصفُ الإيمانِ …*(٣).

و علينا أن نعلمَ أن الصبرَ المقبولَ هو ما كانَ في و قتِه الصحيحِ : (( إنَّما الصَّبرُ عند الصَّدمةِ الأُولَى ))…*(٤).

فإذا فَترَ المبتلَى بتأثيرِ مرورِ الزَّمنِ أو مواساةِ الآخرينَ فإنه لا يُسمَّى صابرًا محتسبًا .

و قد بلغت فضيلةُ الصبرِ هذه المنزلةَ لضرورتِها القُصوَى في تحقيقِ الآمالِ في الدنيا و الآخرةِ ، فهو ضرورةٌ دينيَّةٌ و ضرورةٌ دنيويةٌ سواءً بسواءٍ ، و إذا كان اللَّهُ تعالى قد أجرَى العادةَ في الدنيا على نظامِ التَّدرُّجِ ، درجةً بعدَ درجةٍ و خطوةً إثرَ أُخرَى ، فلا جرمَ أن كان الصبرُ هو الوسيلةَ الوحيدةَ التي يتمكن بها العبد من تحقيق آماله و بلوغ غاياته ، فالزارعُ و الصانعُ و التَّاجِرُ و العالمُ و المتعلِّمُ و المفكِّرُ و غيرهم لا يُمكنُ لهم أن يُنجِزُوا عملًا أو يحقِّقوا غايةً أو هدفًا إلا باصطحابِ الصبرِ و الانتظارِ لقَطعِ كل مرحلةٍ من المراحلِ التي تَسبِقُ مرحلةَ الإنجازِ.

و يطولُ الكلام كثيرًا في ذِكرِ الحِكَمِ في الشعرِ و النثرِ التي تدعو لفضيلةِ الصبرِ ، و أن الإنسانَ لا يبلُغُ مجدًا و لا نجاحًا و إلَّا إذا اتخذَ الصبرَ مطيةً في السعي لبلوغ المقاصِدِ و تحقيقِ الآمالِ .

و من أبلغِ ما قيلَ في ذلك ؛ قولُه ﷺ (( حُفَّتِ الجَنَّةّ بالمَكارِه ، و حُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ ))…*(٥).

و قولُ المسيحِ عليه السلامُ : (( إنَّكم لا تُدركُون ما تحبُّونَ إلا بصبرِكم على ما تَكرهُون ))...*(٦).

و ما من زمنٍ نحن فيه أحوجُ إلى الصبرِ على نزلَ بنا مثلُ زمنِ هذا الوباء الذي يَجثُمُ على الصدورِ ، و يخنُقُ الأنفاسَ ، و يَقُضُّ المضاجعَ ، و يَحدُّ من الحرياتِ العامةِ و الخاصةِ .

و إنه لَبَلاءٌ عظيمٌ لا يعالجُه إلا الصبرُ و الدعاءُ الدائم عَقِبَ الصلواتِ أن يَكشِفَ اللَّهُ عن عبادِه ما نَزَلَ بهم .

و هذا باللَّهِ التَّوفيق🌺🌺 و اللّٰه أعلم 🌼🌼

إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

                     ‏

_________________________________________

(١)*أخرجه مسلم في صحيحه (٢٩٩٩) من حديث صُهيب الرُّوميِّ رضي اللّٰه عنه.

_________________________________________

(٢)*جزء من حديث أخرجه أحمد في مسنده (٢٨٠٣) من حديث عبداللَّه بن عبَّاس رضي اللّٰه عنهما.

________________________________________

(٣)*أخرجه ابن الأعرابيِّ في معجمه (٥٩٢) و ابن شاهين في التَّرغيب في فضائل الأعمال (٢٧٠) من حديث عبداللَّه بن مسعود رضي اللّٰه عنه.

_________________________________

(٤)*جزء من حديث أخرجه البخاريُّ في صحيحه (١٢٨٣) و مسلم في صحيحه (٩٢٦) من حديث أَنَس بن مالك رضي اللّٰه عنه.

________________________________________

(٥)* أخرجه مسلم في صحيحه (٢٨٢٢) من حديث أَنَس بن مالك رضي اللّٰه عنه.

_______________________________________

(٦)* رواه ابن أبي الدُّنيا في(( ذمِّ الدُّنيا )) (٢٨٦) عن فُضيل بن عِياض ، قال : قال عيسى ابن مريم عليه السلام : ((إنَّكم لن تُدرِكُوا ما تُرِيدُون إلَّا بتَركِكُم ما تَشتَهُون ، و لا تَنالُونَ ما تَأمَلُونَ إلَّا بصَبرِكُم على ما تَكرَهُونَ ...)).____________



الجمعة، 7 يوليو 2023

Love your mom and dad


 

الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

بِـرُّ الـوالِـدَيـن

مـن أَخطرِ الموضوعاتِ و أهمِّها التي يجبُ التذكيرُ بها في كل وقتٌ (( بِـرِّ الـوالـديـنِ )) و التزامِ الأدابِ في معاملةِ الأباءِ و الأمهاتِ ، وما وردَ في التَّرغيبِ _بـبـرِّ الـوالـديـنِ_ و التَّحذيرِ من عـقـوقِـهـمـا من أحكامٍ شرعيَّةٍ واضحةٍ و صريحةٍ في القرآنِ الكريم و السنةِ النبويَّة المطهرةِ .

وأولُ ما يَلفِتُ نظرَ المسلمِ في شأنِ هذا الموضوعِ هو تكرارُ ورودِه في القرآنِ الكريمِ سبعَ مراتٍ في صورةِ توجيهاتٍ صريحةٍ ؛ يقول اللَّهُ تعالى : 

_{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَانًا }{ البقرة : ٨٣}.

_ { ۞ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا }{ النساء : ٣٦ }.

_{ ۞ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ }{ الأنعام : ١٥١}.

_{ ۞ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا }{ الإسراء : ٢٣}.

_{ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ }{ لقمان : ١٤ }.

_ { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ }{ العنكبوت : ٨}.

_{ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } { الأحقاف : ١٥ }.

كما ورَدَ _ أكثَرَ من مرَّةٍ _ في صورةِ ثناءٍ على الأنبياءِ و المرسلين بما هم أهلُه من نُبْلِ الأخلاقِ الإنسانيةِ ، وفي الذُّؤابةِ منها برُّ الوالدينِ ؛ مثل قولِه تعالى في شأنِ سيدِنا يحيـي _ عليه السلام_ : { يَٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَٰبَ بِقُوَّةٍ وَءَاتَيْنَٰهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَوٰةً وَكَانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (١٤) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)}{ مريم : ١٢_١٥ }.

و في قولهِ تعالى حكايةً عن سيدِنا عيسى _ عليه السلامُ _ في معجزتِه التي تفرَّدَ القرآنُ الكريمُ بتسجيلِها و ذِكرِها ، و هي : كلامُه في المهدِ ، وفي عُمْرٍ لا يَقدِرُ الأطفالُ فيه على النطقِ بالحروف ، و ذلك حين واجهَت السيدةُ مريمُ _ عليها السلامُ_ ما واجهت بعد ما اتَّهمُوها و سألُوها ، و كانت قد أُمِرَت بالصيامِ عن الكلامِ ، فأشارَت إليه _ عليه السلامُ_ و هي تنظرُ إليهم نظرةَ مَن يُحيلُ السؤالَ إليه _عليه السلامُ_ وقدِةاستنكروا ذلك منها ، و لكن سرعانَ ما فاجأتهمُ المعجزةُ حين خاطَبهم _عليه السلامُ_ بلسانٍ فصيح : { قَالَ إِنِّى عَبْدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِىَ ٱلْكِتَٰبَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِى مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَٰنِى بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (٣٢)}{مريم : ٢٩_٣٢ }.

و تدلُّ هذه الآياتُ مجتمعةٍ أنه سبحانَه فرضَ حقوقًا لأعضاءِ الأسرةِ ، وجعلَ من أوجبِها وأعظمِها خطرًا حقوق الآباءِ و الأمهاتِ على الأبناءِ كما تدلُّ على أن مطالبةَ الأبناءِ بأداءِ هذه الحقوقِ لوالدَيهم ليست مجرَّدَ وصايا خُلقيةٍ خاليةٍ مِن أحكامٍ تكليفيةٍ يترتَّبُ عليه الثوابُ و العقابُ ، أو لنَقُلْ : من وجوبٍ أو حرمةٍ ، فالحقوقُ في هذه الآياتِ و إنْ وردَ بعضُها بصيغةِ (( الـوصـايـا )) ، إلا أنَّها في حقيقتِها أوامرُ ونَواهٍ تكليفيةٌ ، يدلُّ على ذلك أنها وردتْ في القُرآنِ الكريمِ إمَّا تاليةً للأمرِ بعبادةِ اللَّه و توحيدِه ، و إما مقرونةً بما يجبُ لله تعالى على العبدِ من شكرٍ : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ }{ لقمان : ١٤}.

و في هذا الاقترانِ و التجاوُرِ بين التكاليفِ المتعلِّقةِ باللَّه تعالى : إيمانًا وعبادةً وشكرًا ، و بين شُكرِ الوالدَيْنِ و الإحسانِ إليهما _ ما يدلُّ على عِظَمِ المسؤوليةِ و خطرِها في حياةِ المسلم ، و أنَّها قضيةٌ لا يُقبلُ في الإبطاءِ بالوفاءِ بها تبريرٌ و لا اصطناعُ عللٍ أو معاذيرُ .

عزيزي /ت القارئ /ة…!

إن التَّذلُّلَ أو خفضَ جناح الذلِّ للوالدَيْنِ هو أوَّلًا من باب سدادِ الدُّيونِ كما قُلنا ، ثم هو خُلُقٌ من أخلاقِ الواجبِ و الوفاءِ و المروءةِ ، و مصدرُه الرحمةُ ورقةُ القلبِ و استقامةُ الضميرِ ، وإذا بذلَه الأبناءُ فإنما يبذلونَه طواعيةً و اختيارًا ؛ امتثالًا لأمرِه تعالى و تقرُّبًا إليه ، لا تضطرُّهم إليه زُلفى و لا مصلحةٌ ، ولا يشعرونَ معه بشيءٍ منَ الهوانِ أو النِّفاقِ أو المداهنةِ التي تَلحَقُ المُتذلِّلَ الناسِ من أجلِ الحاجةِ و المصلحةِ ، سواءً أكان التذلُّلُ سجيَّةً في طبعِه ، أم ممَّا ألجأتْه إليه خلائقُ الحِرصِ ، و قديمًا قال العرب : ( أذلَّ الـحـرصُ أعـنـاقَ الـرجـالِ ) .


سَمِعنا مرارًا و تكرارًا الترغيبَ و الترهيبَ في شأنِ ((بـرِّ الـوالـديـن )) سواءً من آياتِ الكتابِ الكريمِ أم أحاديثِ النبي ﷺ ، و عرفنا أن (( بـرَّ الـوالـديـنِ )) من أفضل الأعمال قاطبةً بعد التوحيدِ و عبادةِ اللَّه ، و أنه على قَدَمِ المساواةِ مع الصلاةِ و الزكاةِ : { وَأَوْصَٰنِى بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي }{ مريم : ٣١_٣٢}.

و أنَّ عقوق الوالدينِ من أكبرِ الكبائرِ حتي لو كان العقوقُ بكلمةٍ غيرِ مهذَّبةٍ ، أو كلمةٍ تعبِّرُ عن الضِّيقِ ، مثل ، ( أُفــ ) : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا }{ الإسراء : ٢٣ }.

و الأبُ والأمُّ سواءٌ في وجوبِ برِّهما ، و بعضُ الأئمَّةِ يرى استحقاقَ الأمِّ مزيدًا من البرِّ ، للحديثِ الذي نحفظُه جميعًا : (( أمِّـكَ ، ثـمَّ أمُّـكَ ، ثـمَّ أبـوكَ ))…*(١).

و مما يدل على خطر هذا الموضوع: أن بِـرَّ الـوالـديـن واجبٌ على الأبناءِ حتى لو كان الوالدانِ كافِرَيْنِ ، و يَتأكَّدُ البرُّ في حالِ كِبَرِ الوالدينِ و ضعفِهما أو مرضِهما ، و هنا يجِبُ _ و جوبًا حتميَّا _ على الأبناءِ ألَّا يَضيقُوا ذَرْعًا بإقامةِ الأبِ و الأمِّ مع أسرِهم ، و ألَّايلجؤوا إلى وَضْعِ الأبوينِ في دُور المسنِّين ، اللَّهم إلَّا للضروراتِ القُصوى ؛ كعجزِ الأبناءِ عن رعايةِ الوالدَينِ أو تمريضِهم ، فحُكمُ الأبناء في هذه الحالِ حُكمُ المضطرٌّ ، و لكن يَلزمُهم (( الـبـرُّ و الإحـسـانُ )) بهم ، و الحرصُ على زيارتِهم واستمرارِ التواصلِ معهم ما استطاعُوا إلى ذلك سبيلًا.

و على الـزوجـةِ ألا تَـضِـيـقَ صـدرًا بهذا الواجبِ الخُلقيِّ ، و أن تُشَجِّعَ زوجَها على الوفاءِ به تجاه والدَيْة ، و ليَعْلَمَ الزوجانِ أنَّ ما يُقدمانِه في هذا الشَّأن يُدَّخَرُ لهما ويُجازيانِ به في الدنيا قبلَ الآخرةِ ؛ إنْ خيرًا فخيرٌ ، و إن شَرًّا فشرٌّ ، قال رسول اللَّه ﷺ : (( بِـرُّوا آبـاءَكُـم تَـبَـرَّكُــم أبـنـاؤُكُـم ، و عِـفُّـوا تَـعِـفَّ نِـسـاؤُكُـم ))…*(٢).

هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼 باللَّهِ التَّوفيق🌺🌺 .

إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 

  ‏ ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين.

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

______________________________________

*(١) أخرجه البخاريُّ في (صحيحه)(٥٩٧١) و مـسـلم في (صحيحه) (٢٥٤٨) من حديث أبي هـريـرة رضي اللّٰه عنه.

______________________________________

*(٢) أخرجه الحاكم بنحوه في ( مستدركه) : ١٥٤/٤ ، من حديث أبي هريرة رضي اللّٰه عنه ؛ و قال : (( حديث صحيح الإسناد )).

_________________________



 











الاثنين، 26 يونيو 2023

الـرَّحـمـةُ

 



الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

إنَّ من أبرزِ الصِّفاتِ الًـخُلُـقـيَّـةِ التي أمَرَنا الـشَّرعُ بالتحلِّي بها ، و يحتاجُها الناسُ لضمانِ حياةٍ إنسانيَّةٍ كريمةٍ _ صفةَ الرحمةِ و التراحُمِ ؛ لِما لها مِن أثرٍ بعيدِ المدى في تبادلِ الشُّعورِ بالمحبَّةِ و تعميقِ أواصرِ المودَّةِ ، ولِما لِِغيابِها من أثرٍ سيِّئٍ في تعريض حياةِ الناسِ إلى التَّباعُدِ و التفكُّكِ الأُسَريِّ و الاجتماعيِّ ، و إيقاظِ نوازعِ الشَّرِّ و إشعالِ الحروبِ ، و التسلُّطِ على البلادِ و العبادِ.

و يكفينا دلالةً على عَظمةِ هذه الصِّفةِ إنَّ اللَّهَ تعالى تَسمَّى بها ، مرَّةً باسمِ الرحمنِ ، و مرَّةً باسمِ الرَّحيمِ ؛ و أنَّ اسمَ (( الرَّحم )) التي هي علاقةُ القُربى و مناطُ التواصلِ بينَ بني آدمَ ، مُشتقٌّ من صِفة الرَّحمةِ التي اتصف بها اللَّه تعالى .

و قد وردَت صفةُ الرَّحمةِ و مشتقَّاتُها في القُرآن الكريمِ تسعًا و تسعينَ و ميةَ مرةٍ ، و بمعانٍ كثيرةٍ منها : أرزاقُ المخلوقاتِ ، و الغَيثُ المُرسَلُ من السَّماءِ ، و العافيةُ من الابتلاءِ و الاختيارِ :  

{ إِنْ أَرَادَنِىَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَٰشِفَٰتُ ضُرِّهِۦٓ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَٰتُ رَحْمَتِهِۦ قُلْ حَسْبِىَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ }{ الزمر : ٣٨ } .

و مِن معانيها الأُلفةُ و المحبَّةُ ، قالَ تعالى في شأنِ أتباعِ سيِّدِنا عـيـسَـى _ عليه السلامُ _ { وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً } { الحديد : ٢٧ } ، و قد وصف اللَّهُ بها التوارةَ المنزَّلةَ على سيِّدِنا مُـوسـى _ عليه السَّلامُ_ في قوله تعالى : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً ۚ } { هود : ١٧ } كما وَصفَ بها القرآن في قولِهِ تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا }{ الإسراء : ٨٢ } .

و الرَّحمةُ في بني آدمَ هيَ إرادةُ إيصالِ الخيرِ و هي حالةٌ وجدانيةٌ تَعرضُ للإنسانِ الرَّقيقِ القلبِ ، و هي مبدأُ الرَّأفةِ بالآخَرِ و الإحسانِ إليهِ ؛ أما الرَّحمةُ التي يتَّصِفُ بها اللَّهُ سُبحانه فليسَتْ مِن هذا القَبيلِ ، إنَّها مِن قَبيلِ الإحسانِ المجرَّدِ عنِ الأعراضِ الماديَّة الحسيَّة التي تلازمُ الرحمةُ الآدميَّةَ مِنَ الشُّعورِ بالرأفةِ و التألُّمِ ، و محاولةِ دفعِ الألمِ عمَّن يرحمُهُ ، و نجاحِه أو إخفاقِه في إزاحتِه.

نـعـم ! رحمةُ اللَّه بعبادِه هي مِن طَورٍ آخَرَ مختلفٍ عن طَورِ رحمةِ بني آدمَ بعضِهم لبعضٍ ، و ليسَ فيها من شَبَهٍ بالرَّحمةِ الآدميَّةِ غيرُ الاشتراكِ في الاسْمِ ؛ فهي أوسعُ و أشملُ ، تسعُ الخلقَ كلهم في الدُّنيا و الآخِرةِ ، وقد كتبَها اللَّهُ على نفسِهِ وأخبرَ بذلكَ في كتابِهِ الكريمِ ، فقال : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } و قال : { وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ } ، أي : وسِعَت في الدُّنيا كلَّ بَرِّ و فاجرٍ ، و قال في الحديث القدسي : (( إنَّ رحمتي تغلِبُ غضَبي ))…*(١) ؛ و معنى غَلَبَة الرَّحمةِ أو سَبقِها : أن رِفْقَه تعالى بعباده ، و إنعامَه عليهم و لُطفه بهم أكثرُ كثيرًا من انتقامِه ، فاللَّهُ أرحمُ بعبادِه من الوالدةِ بولدها و قد رغَّب اللَّهُ عبادَه في الرَّحمة و التراحمِ بجميع صُوره و أشكالِه ، و حذَّر من الجفاءِ و الغِلظة و قسوة القلوب ، وتوعَّد غلاظَ الأكباد بالحِرمان من رحمته ، يقول النبي ﷺ : (( مَـنْ لـا يَـرْحَـم لـا يُـرْحَـمُ )) …*(٢) ، أي : لا يستحق رحمةَ اللَّه تعالى إلا الراحمون الموفَّقون ؛ كما وسَّع من مجالاتِ تداولِها حتى شَمِلت عوالمَ المخلوقاتِ كلَّها ، وتراكَم في تُراثِنا من هذه التعاليمِ ما يَستحقُّ المباهاةَ و الفخارَ ، فاللَّهُ الذي يؤمِـنُ به المسلمونَ هو :( الرَّحمن الرحيم )) ، و رسولُهم الذي يتبعونَه هو ( الرؤوفُ الرحيمُ ) ، و العبادُ على اختلافِ ألوانِهم و عقائدِهم و مِـلَـلِـهـم و أديانِهم إخوةٌ في فلسفةِ الإسلامِ ، و أُخوَّتُهم ليست _دَعـوى_ يُحتاجُ في استنباطِها إلى تلمُّسِ الأدلةِ و البراهين ، بل هي شهادةٌ يوميةٌ ، كان رسولُ الإسلامِ ﷺ يردِّدُها عَقِبَ صلواتِه اليوميةِ و يقولُ فيها : (( أنـا شـهـيـدٌ أنَّ الـعِـبـادَ كـلَّـهـم إِخـوةٌ )) …*(٣).

وحَقُّ السَّلام مكفولٌ للعِبادِ كُلَّهم في شرائعِ هذا الدينِ ، و الإسلامٌ لا يسعى للحربِ و لا لإراقةِ الدِّماء ما وَسِعَه ذلك ، و هو يعتصمُ بمبدأ (( السَّلامِ )) إلى آخِـر مـدًى ممكن : { ۞ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا }{ الأنفال : ٦١ }. 

(( لا تَـتـَمَـنَّـوا لِـقـاءَ الـعَـدُوِّ و سَـلُـوا اللَّهَ الـعـافـيـةَ ))…*(٤).

و المسلمون لا يُقاتِلون إلا مَن يُقاتِلُهم : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }{ البقرة : ١٩٠ } ، و هذه عدالةٌ مطلقةٌ لا تُعرفُ لغيرِ المسلمينَ في أحكامِ الحروبِ و مواقعِ القتالِ ؛ وأنْ وَقَعَ قتالٌ في الإسلامِ فهو لِدَفع عدوٍّ مقاتلٍ ، وصَدٍّ لهجُومِه ، وصَوْلتِه على المسلمين ؛ و دفاعُ المسلمِ أو قتالُه لعدوِّه مضبوطٌ بالعدلِ و عدمِ التجاوزِ ؛ فإنْ تجاوَز المسلِمُ في قتالِه كان عُدوانًا يكرَهُه اللَّهُ ، ولو كان ذلك مع الكافرين.

و إذا فُرِضَ القتالُ على المسلمينَ فلا يَحِلُّ لهم أن يَقتلوا الرُّهبانَ ، و لا الصبيانَ ، و لا النِّساءَ ، و لا الفلاحينَ ، و لا العجزةَ و مكفوفي البَصرِ في جيش العدوِّ ، بل لا يـحـلُّ لـهـم قَـتـلُ الـحـيـوانـاتِ في جـيـشِ الأعداءِ إلَّا لـضـرورةِ الأكـلِ .

وقد أحـسـَن أديبُ العربيَّةِ في العَصرِ الحديثِ : مصطفى صادق الرَّافعـي _رحمه اللّٰهُ_ في قولِه : (( إنَّ لـسـيـوفِ الـمـسـلـمـيـنَ أخـلاقًـا )) .

و لعلَّكم تتساءَلونَ عن مُناسبةِ هذا الكلامِ لموضوع اليوم ، و الإجابةُ ظاهرةٌ : إنَّها الرَّحمةُ التي تجسَّدت بتمامِها في نبيِّ الإسلام ، و أعلَت صوتَه في العالمينَ : (( إنَّـمـا أنـا رحـمـةٌ مـهـداةٌ ))…*(٥) ،

 { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}{ الأنبياء : ١٠٧ }.

إنـهـا الرحمـةُ بالإنسانِ و الرحمةُ بالحيوانِ : (( إذا ذبـحـتـم فـأحـسـنـوا الـذِّبـحـةَ ، و إذا قـتـلـتـم فـأحْـسِـنـوا الـقِـتـلـةَ )) …*(٦).

إنها الرحمةُ التي تتساوى فيها الدماءُ ؛ فيُقتلُ الجمعُ بالواحدِ إذا اشتركوا في إراقةِ دمِـه ، جاء في (( الـمـوطَّـأ )) …*(٧) : أن عـمـر بنَ الخطابِ _رضي اللّٰه عنه_ قتل نفرًا - خـمـسـةً أو سـبـعـة - بـرجـلٍ واحـدٍ ، قـتـلُـوه في الـيـمـن قَـتـلَ غِـيـلـةٍ ، أي : خـادَعـوه و أَمَّـنـوه ثـمَّ قـتـلـوه ، قال عـمـرُ : (( لـو تَـمـالَأَ عـلـيـه أَهـلُ صـنـعـاءَ لـقَـتـلـتُـهـم بـه ))._______________

و هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼

إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 

#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

__________

*(١) أجرجه البخاريُّ في ( صحيحه )( ٣١٩٤ ) ، و مسلم ( صحيحه )( ٢٧٥١ ) من حديث أبي هريرة -رضي اللّٰه عنه. _________________________________________

*(٢) أخرجه البخاريُّ في ( صحيحه)( ٥٩٩٧ ) ، و مسلم في ( صحيحه )( ٢٣١٨ ) من حديث أبي هريرة رضي اللّٰه عنه.

________________________________________

*(٣) جزء من حديث أخرجه أبو داود في ( سننه )( ١٥٠٨ ) من حديث زيد ابن أرقم رضي اللّٰه عنه.

________________________________________

*(٤) جزء من حديث أخرجه البخاريُّ في ( صحيحه )( ٢٩٦٦ ) ، و مسلم في ( صحيحه )( ١٧٤٢ ) من حديث عبداللَّه بن أبي أوفَى رضي اللّٰه عنهما.

______________________________________

*(٥) أخرجه البزَّار في ( مسنده )( ٩٢٠٥ ) ، و الطَّبرانيُّ في ( المعجم الأوسط )( ٢٩٨١ ) ، و الحاكم في ( المستدرك ) : ٣٥/١ ، من حديث أبي هريرة رضي اللّٰه عنه ؛ و قال الحاكم : (( حديث صحيح ، على شرط البخاريِّ و مسلم ))

_______________________________________

*(٦) أخرجه بنحوه مسلم في ( صحيحه ) ( ١٩٥٥ ) من حديث شدَّاد بن أوس رضي اللّٰه عنه.

________________________________

*(٧) برواية يحيى بن يحيى ا

للَّيثيِّ ( ٢٥٥٢ ).

________




الاثنين، 19 يونيو 2023

fairness _ الإنصاف 1


 

الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

نستكمل ما شرعنا فيه من موضوع سابق عن قيمة 

👈  الإنصاف👉.

فمِن غيرِ الإنصاف أن يعرِضَ متحدِّثٌ لهذا الموضوعِ في الإسلامِ دونَ أن يتوقَّف قليلاً أو كثيرًا عند أحدِ مشاهدِ القرآن الكريم في إدانةِ المسلم و إنصافِ غريمِه ، و انا واحدٌ من هؤلاء الذين تأخذُهم الدَّهشةُ من جميع أقطارها ، كُلَّما قرأتُ الآياتِ المتعلِّقةَ بهذه القِصَّةِ في (( سورة الـنـسـاء )) ، و تبلُغُ الدَّهشةُ ذروتَها حين نقرأُ في الآياتِ ما يُشبِهُ العِتابَ الإلهيَّ للنبي ﷺ في بعض مواقف هذا المشهد ، و كيف أن تِسعَ آياتٍ بيِّناتٍ متتالياتٍ نزلت لإنصافِ يهوديِّ مظلومٍ و إدانةِ مُسلم خائنٍ ، يقول علماءُ التَّفسيرِ في سببِ نزولِ هذه الآياتِ : إن صحابيًّا على عهد النبي ﷺ اسمه (( طُعمةُ بنُ أُبيرِق )) ، سَرَقَ دِرعًا مِن جارٍ له اسمُه (( قتادةُ )) ، و كانت الدِّرعُ في جرابِ دقيقٍ به ثُقبٌ ، فأخَذَ الدَّقيقُ يتناثَرُ على الطَّريقِ ، و خَشيَ طعُمةُ أن يَفتضِح أمرُه إن هو ذَهبَ به إلى منزِله ، و تفتَّقت حيلتُه عن التوجِّهِ به لصَديقٍ له يهوديًّ اسمه : (( زيدُ بنُ السَّمينِ )) ، و قال له : ضَع هذا أمانةً عندكَ ، و لما تنبَّه -قتادةُ- و قومُه للدِّرعِ المسروقةِ ، ذهبوا إلى _طُعمةَ _ و يبدو أنَّه كانَ معروفًا بالسَّرقةِ_ فحَلَف لهم أنَّه ما أَخَذَها ، و ما لَه بها عِلمٌ ، _ فتتبَّعوا أثرَ الدَّقيقِ حتى إذا ما انتَهى بهم إلى بيتِ _زيدٍ اليهوديِّ_ ، فدَخَلوا عليه و قالوا له : (( أنتَ سرَقتَ الدِّرعَ )) فأَقسَمَ باللّٰه ما سَرَقتُه _ و أنَّ طُعمةَ هو الذي جاءَ به ؛ و قالَ : ضَعْه أمانةً عندَك ، فرَجعوا إلى طُعمةَ مرة أخرى و سأَلوه فأَقسم لهم أنِّي ما سرقتُه ، و أنَّ مَن سَرَقَكم هو زيدٌ اليهوديٌّ ، و شاعَ الأمرُ في الناسِ ، و خشي طعمة و قبيلته من و صمهم بجريمة السرقة ، فذَهب طُعمةُ و قبيلتُه إلى النبي ﷺ ليَطلبوا منه تبرئتهم من السَّرقةِ ، و أن يجادِلَ عنهم ليدفَعَ هذه الوصمةَ ، و قالوا : إن لم تُدافِع عنا هَلَكنا و بَرِئَ اليهوديُّ _ فأرسل النبي ﷺ إلى زيدٍ اليهوديِّ ، و سأله فأجابَه : و اللَّه يا أبا _الـقـاسِـمِ ما سَرَقتُ الدِّرعَ ، و لكن رماهُ عندي طُعمةُ كأمانةٍ ، و أوشَكَ النبي ﷺ أن يُصدِّق طُعمةَ و قَبيلَتَه ، في دَعواهم أنَّ الذي سَرَقَ الدِّرعَ هو زيدٌ اليهوديُّ ، و هَمَّ بعقابِ زيدٍ لولا أن نزلَ القرآنُ و برَّأَ اليهوديَّ من تُهمةِ السَّرقةِ ، و دمغَ طُعمةَ و أهلَه بالخيانةِ ، و توعَّدَهم بالعقابِ الأليم إنْ لم يتوبوا إلى اللَّه و يَستغفروه________ (١) .

و هذه هي قصة الآياتِ التي نقرأها في سورة الـنـسـاء في قوله تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (١٠٦)}{ الـنـسـاء : ١٠٥_١٠٦ } ، أي : استغفرِ اللَّهَ لما همَمتَ به من عقابِ اليهوديِّ ؛ { وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (١٠٨) هَا أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (١٠٩) } { الـنـسـاء : ١٠٧_١٠٩ } ؛ و الآيات خطابٌ لجماعةِ من الأنصارِ ، اشترَكوا في الدِّفاعِ عن طُعمةَ و عن المسلمينَ.

و معنى الآياتِ : هَبوا أنَّكم خاصَمتُم عن طُعمةَ و قومِه في الدَّنيا فمَن يخاصِمُ عنهم في الآخِرَةِ إذا أخذَهم اللَّهُ بعذابِه .

ثم يقولُ اللَّهُ تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (١١٢) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ۚ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (١١٣)}{ الـنـسـاء : ١١٠_١١٣ } ؛ انظر أيها القارئ الكريم ! تسعُ آياتٍ بيِّناتٍ تنزلُ على نبيِّ الإسلام في تبرئةِ يهوديٍّ مظلومٍ و إدانةِ مسلمٍ ظالمٍ ، و تَعتِبُ عليه ﷺ مَيلَه لتَصديقِ المسلمِ و تكذيبِ اليَهوديِّ ، كُلُّ ذلكَ في جوٍّ كانت فيه أغلبيَّةُ اليهودِ تُناصِبُ الإسلامَ و المسلمينَ العَداءَ ، و تتربَّصُ بهم وتُعينُ عليهم أهلَ الشِّركِ و الوثنيَّةِ من قريشٍ .

و لقَد صدَّقَ القرآن على ( طُعمةَ ) بما يُشعِرُ بسوءِ الخاتمةِ و العَذابِ الأليمِ يوم القيامةِ ؛ فقيلَ : إنَّه هرَبَ إلى مكةَ ، و سَرَقَ و ارتَدَّ ، ثُمَّ سرقَ و قُتِلَ في سَرِقَتِه الأخيرةِ !.

هل أَدركتُم عظمةَ الإسلامِ في تطبيقِ مبدأِ العدلِ و الإنصافِ حتى مع الكارهينَ للإسلامِ ، و كيف أن هذا المبدأَ لا مَفَرَّ منه لاستقرارِ المجتمعاتِ ، و أساسٌ لشعورِ النَّاسِ بالهدوءِ و الطُّمأنينةِ ؟! و كيفَ أن المسلِمَ و غيرَ المسلمِ سواءٌ في دينِ الإسلام ، دينِ العدلِ و الإنصافِ و المساواةِ بينَ بني آدمَ ؟!.

و هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼

إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

__________________________________________(١) ؛ أخرج قصَّة طُـعـمـة بن أُبَـيْـرِق _رضي الله عنه_ الطَّبريُّ في (( جامع البيان )) : ٤٦٢/٧ ؛ عن قتادة مرسلًا ؛ و أخرجها كذلك : ٤٦٦/٢ ، عن إسماعيل السُّدِّيِّ ، مرسلًا_






الجمعة، 16 يونيو 2023

fairness _ الإنصاف


 

الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

من القِيمِ المفقودةِ في غِمارِ حياتِنا الماديةِ و العمليةِ اليوم قـيـمـةُ الإنـصـافِ ، التي باتت عملةً نادرةً في معاملاتِنا الحديثة ، و أوشكَت أن تُحال لمستودَع الأخلاقِ القديمةِ ، و التي يُنظرُ لصاحبِها من منظورِ الدَّهَشِ و الاستغرابِ ، و كأنه قادمٌ منَ القورنِ الوسطَي ، و يتعاملُ في الأسواقِ بعملةٍ مضي عليها الزمنُ ، و طَمَرتْها الأعصرُ و الدهورُ .

و الإنصاف - باختصارٍ شديدٍ - هو العدلُ مع النفسِ ، و مع الغيرِ ، و افقَك هذا الغيرُ أو خالفك ، و معناه في بابِ المعاملاتِ : أن تُعامِلَ الناسَ بمثل ما تحبُّ أن يعاملوكَ به ، مِثلًا بمِثلٍ ، و تمامًا بتمامٍ ، و أن تُعطَيهم حقوقَهم بمثلِ ما تطالبُهم به من إعطائِك حقَّك.

و الإنصافُ - بهذا المعني - هو معيارُ العدلِ ، بل هو القسطاسُ المستقيمُ الذي يزِنُ به المرءُ معاملاتِه مع الناسِ ، أخذًا و عطاءً في الجليلِ و الحقيرِ من أصنافِ هذه المعاملاتِ .

و إذا كان الإنصافُ يستلزمُ فضيلةَ العدالةِ طردًا و عكسًا ، فهذا يعني أنه كلما وُجِدَ الإنصاف وُجدَ العدلُ ، و كلما انتفى العدلُ انتفى الإنصافُ ، و لازومُ ذلك أن يكون الإنصافُ و العدلُ توأميْن متلاصقيْنِ.

هذا و إنَّ أعلى درجاتِ الإنصافِ و أعظمَها أثرًا في دُنيا الناسِ هي درجةُ (( الانتصافِ مِنَ النفسِ )) أي : قدرةُ المرءِ على أن ينتصفَ لنفسِه من نفسِه ، و بمعنًى أوضحَ : قدرتُه على أن يخاصِمَ نفسَه و يخطِّئَها و يُعاتبَها فيما أساءتْ فيه من قولٍ أو عملٍ .

و مواجهةُ النفسِ و محاسبتُها و لومُها تتطلَّب قدرًا غيرَ قليلٍ من القوةِ و الشَّجاعةِ و الإيمانِ بمبدأ المساواةِ بين الناسِ الذي أرساه نبيُّ الإسلام ﷺ ورسَّخه في قولِه : (( النَّاسُ سَواسِيةٌ كأسنانِ الـمُـشْـطِ )) أخرجه الدُّولابيُ في الكنى و الأسماء ٩٤٩ و ابن حبَّان في- المجروحين - : ١٩٨/١ ، و أبو الشيخ فى أمثال الحديث ( ١٦٨ ) و غيرهم ، من حديث سهل بن سعد رضي اللّٰه عنهما .

و منَ المعلوم أن مَن يَعجِزُ عن مواجهةِ نفسِه و الانتصافِ منها يَعجِزُ عن إنصافِ غيرِه منَ الناسِ من بابِ أولى ، ففاقدُ الشَّيءِ لا يُعطيه كما يقولُ الحكماءُ .

و بسببٍ غياب هذا الخُلُقِ العظيم انتشر في حياتنا المعاصرة هذا النوعُ من الذين يأخذون و لا يُعطونَ ، و يُبصرونَ أخطاءَ الناس و تَقْذَى عيونُهم عن أخطاءِ غيرِهم ، و يطلبون أن يُعتذرَ إليهم و لكن لا يعتذرونَ لأحدٍ ، و يعترفونَ على الآخرينَ بينما يَعجِزونَ عنِ الاعترافِ على أنفسِهم ، و هم حين يخطئونَ يُجهدونَ أنفسَهم في اختلاقِ المعاذيرِ و العِلَلِ التي تُسوِّغ لهم أخطاءَهم و جرائمَهم ، و ظلمَتهم للعباد : كِبرًا و غطرسةً و هروبًا من وَخزِ الضمير و تأنيبِه.

إن الفائدةَ التي تعودُ على المجتمعِ من التعاملِ بمبدأ الإنصافِ هي اعترافُ المخطئِ بخطئِه فيها بينَه و بين نفسِه أولًا ، ثم ما يتداعَى بعد ذلك منِ استعاذته باللَّهِ من الشَّيطانِ الرجيمِ ، و من طَلبِ المغفرةِ من اللَّه تعالَى و الاعتذارِ للمتضرِّرِ من هذا الخطأ ، مع قضائِه حقَّه إن ترتبَ على هذا الخطأ مظالمُ للعباد .

و مرةً أخرى إنَّه (( المسلمُ القويُّ )) الذي يُحاسِبُ نفسَه على خطئِها قبلَ أن يحاسِبَ الآخرينَ على أخطائِهم.

و هنا سؤالٌ يفرِضُ نفسَه : هل (( الإنصافُ )) في شريعةِ الإسلامِ هو أمرٌ مندوبٌ أو أمرٌ مفروضٌ !؟ 

و الإجابة هي أن (( الإنصافَ )) أمر مفروضٌ على كلِّ مسلمٍ ؛ و القرآن و الحديث مملوءانِ نهيًا و وعيدًا للظالمِ و الظُّلمُ _ كما عرفنـَا هو نقيضُ  العدلِ و العدلُ هو الإنصافِ .

و المسلمُ مأمورٌ بالأنصافِ و العدلِ مع المسلمِ و مع غيرِ المسلم ، و مع صديقه و عدوِّه سواءً بسواءٍ ، يدلنا على ذلك قانونُ القرآن في قتال الأعداءِ المحاربينَ ، و فيه أمر صريح بالتقيِّدِ بمبدأ العدالة في قتال الأعداء ، و عدم تجاوزِها إلى العدوانِ { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }{ البقرة : ١٩٠}.

و لا يتَّسع المقامُ لسردِ النصوصِ في هذا الشَّأنِ ، و لا شهاداتِ التاريخِ التي يَعلمهُا أعداءُ الإسلامِ قبلَ أنصارِه ، و كلُّها تصُبُّ في جملة واحدة مكوَّنةٍ من مبتدأ و خبرٍ ، هي : ( الإسلامُ دينُ الإنسانيِة ) هذه الجملةُ التي اختارها أستاذٌ غربيٌّ مُنصِفٌ  شغلَ مناصبَ هامةً في الأمم المتحدةِ في جنيف : الأستاذ / مارسيل بوازار ، و وضعَها عنوانًا لمؤلَّفِه القيِّمِ ( الإسلامُ دينُ الإنسانيةِ ) و صدرت ترجمتُه إلى اللغةٌ العربية عام ١٩٨٠.

و هذا و بالله التوفيق ، و سوف أكمل لكم موضوع الإنصاف بقصة اليهودى الذي انصفه النبي ﷺ وكيف أن تِسعَ آيات نزلت لإنصاف هذا اليهودي المظلوم.

و هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼

إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 

 #بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼


الاثنين، 29 مايو 2023

Societies need for the poor and the simple

 

حاجةُ المجتمعات إلى الفقراءِ و البسطاء


الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته

يرتبِطُ هذا بموضوعِ (( التواضعَ )) و هو موضوعٌ واسعُ الأطرافِ ، موضوعٌ آخرُ هو منزلَةُ الفقراءِ ، و مدى حاجةِ المُجتمعات إليهِم ، و دَورُهُم التاريخيُّ الكبيرُ في دعمِ الرسالاتِ الإلهيَّةِ و الوقوف إلى جانبِ الأنبياء و المرسلينَ. و التَّاريخُ يُثبتُ أن الفُقَراء كانوا أَذرُع الأنبياء و سواعدَهم القويةَ في نشرِ الدعوةِ إلى اللّٰه تعالى ، و هِدَايةٍ الناس إلى الحقِّ و الخير والجمالِ ؛ كما يُثبتُ أن الترفُّعَ عليهم و الأنفةَ منهم كثيرًا ما مثَّل عقبةً كأْداءَ صدَّتْ المستكبربن ، و أَعمَت أبصارَهم و بصائِرَهُم حتى استحبُّوا الكفرَ على الإيمانِ .
انظر عزيزي القارئ إلى الوجهاءِ مِن قوم نوح _ عليه السلام _ و ما أبدَوهُ مِن عُذرٍ في رَفضِهم و تمرُّدِهم على دَعوته قالوا له : كيف نُصَدِّقُك في دَعوتِك و قد اتَّبعكَ سِفْلَةُ النَّاسِ ، و أراذِلُهُم و خِساسُهم من المساكينِ الذين ليسَ لهم مالُ و لا عِزُّ و لا جاهٌ ، و إنَّا إذا اتَّبعناك صِرنا مثلَهم ، و حُسِبنا عليهم ، ثم كيف نتَّبِعُك و مِنهم من يعملُ في المِهَن المتواضعَةِ في مَنطِق الاعراف و التَّقاليدِ ، و كان ردُّهُ عليه السَّلام : إني لا أعلَم حِرفَتَهم و لا أعمالَهُم ، و لم أُكَلَّف بذلك ، و إنَّما كلَّفني ربِّي أن أدعوَهم إليه و قد أجابوني ، و ما حِسابهُم و حِسابي إلَّا على الذي خلقني و خلقَهم ، و إنكم لو عَلِمتُم ما قلتُه لكم حقَّ العلم ما عبتُم عليهم حِرَفَهم و صنائعَهم ، ثم يَحسِمُ نوحٌ عليه السلامُ حِوارَه مع هؤلاءِ المتكبِّرين بإعلانِ أنه لا يستطيعُ طَرْدَ هؤلاءِ الذين تأنفون من مخالطتِهم فما أنا إلا نذيرٌ يحذِّرُ من معصية اللَّه و يدعُو إلى طاعتِه ، و انتهى حوارُهم معه بتوعدِه بالرجمِ إن هو أصرَّ على موقفِه هذا ولم يتراجع عنه : { كَذَّبَتۡ قَوۡمُ نُوحٍ ٱلۡمُرۡسَلِينَ (١٠٥) إِذۡ قَالَ لَهُمۡ أَخُوهُمۡ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِينٞ (١٠٧) فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَمَآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (١٠٩) فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) ۞قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلۡأَرۡذَلُونَ (١١١) قَالَ وَمَا عِلۡمِي بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (١١٢) إِنۡ حِسَابُهُمۡ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّيۖ لَوۡ تَشۡعُرُونَ (١١٣) وَمَآ أَنَا۠ بِطَارِدِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ( ١١٤) إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٞ (١١٥) قَالُواْ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ يَٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمَرۡجُومِينَ (١١٦) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوۡمِي كَذَّبُونِ ( ١١٧) }{ الشعراء : ١٠٥ _ ١١٧ }.
و قد واجَه نبي الإسلام _ صلواتُ اللَّهِ و سلامُه عليه _ نفسَ الموقفِ مع كفَّار قريش ، و تعاملوا معه بالمعاملةِ ذاتِها ؛ فكانوا يتأفَّفون من الجلوس مع صحابةِ رسولِ اللَّهِ ﷺ ، و كان أكثرُ صحابتِه _ كما نعلمُ _ من الفقراءِ و الفقيراتِ ، و قد سألَه أعيانُ قريش أن يطُردَ من مجلسِه هؤلاءِ العبيدَ و البائسينَ ؛ و منهم : سلمانُ و خبَّابٌ و بلالٌ و عمَّارٌ و غيرهم من ضعفاء المسلمين ، و كان بعض هؤلاءِ يلبسونَ جِبابَ الصوفِ ، و تفوحُ من أثوابِهم رائحةُ العَرَقِ ، فقالُوا له عليه الصَّلاةُ و السَّلامُ : (( لو طرَدْتَ عنَّا هؤلاءِ الأعبُدَ ، أي : العبيدَ و أرحْتَنا من روائحِ جِبابِهم لجلسنا إليكَ و حادثناكَ ))__ أخرجه الطَّبريُّ في جامع البيان ٢٤٠/١٥ ، من حديث سلمان الفارسيِّ رضي اللّٰه عنه.
و قال آخرون : (( لو نَحَّيْتَ هؤلاء عنك حتَّى نَخْلُوَ بك ، فإنَّ و فودَ العرب تأتيك فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد ، ثم إذا انصرفنا فإن شئت فأعدهم إلى مجلسك )) و همَّ النبي ﷺ أن يجيبهم لطلبهم طمعََا في إسلامهم ، فنزلَ قوله تعالى : { وَلَا تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ }{ الأنعام : ٥٢ } و هذه الآية نهيٌ صريحٌ للنبي ﷺ عن إجابة المشركين لطلبِهم ، و فيها تحذير منَ الوقوع في الظلم إن هو فعلَ ذلك ، و فيها تذكير بأن هؤلاء العبيد يدعون ربهم صباحًا و مساءًا و يعبدونه طلبًا لوجهه الكريم ، و ليس لشيء آخر من أغراض الدنيا ؛ و أنت - أيها النبي - لست مسؤولًا عنهم و لا هم مسؤولون عنك .
و في السياق نفسه نقرأ توجيهًا مشابهًا تمام المشابهة من توجيهات اللَّه تعالى لنبيه في الموضوع ذاته و هو قوله سبحانه { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُۥ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمْرُهُۥ فُرُطًا }{ الـكـهــف : ٢٨ } .
و في هذه الآية _ أيضًا _ أمرٌ صريحٌ للنبي ﷺ بأن يَحبِسَ نفسَه مع هؤلاء الذين يعبدونَ ربَّهم بالغداةِ و العشي ، يريدونَ بعبادتِهم و جهَه تعالى لا شيئًا آخر من متاعِ الدنيا ، و أن يَصبِرَ على هذا ، و ألَّا تتحوَّلَ عيناه عنهم إلى غيرِهم ، و يترك مجالسَهم إلى مجالسِ أصحاب الجاهِ و المالِ من أبناءِ الدنيا الذاهلين عن الآخرةِ ، و ألا يتَّبعَ أهواء الغافلين عن ذِكرِ الله ممن اتبعُوا أهواءَهم و أسرفوا في ضلالِهم.
إن الدرسَ الذي ينبغي أن نُفيدَه من هذه الجولةِ السريعةِ مع كتابِ اللّٰه و توجيهاتِه لنبيَّه ﷺ هو أنه لا يصحُّ أن نُقيِّمَ الناسَ على أساسٍ من أشكالهم و مظاهرِهم و إمكاناتِهم الماديةِ ، فكلُّ هذه شكلياتٌ لا دخلَ لها في التعرُّفِ على قدر الإنسانِ لا من قريب و لا من بعيد ، و أن المعيارَ الوحيدَ الذي يُكرم به المرءُ أو يُـهان هو : العملُ الصالح ، و أنَّ قيمةَ الإنسانِ معلَّقةٌ بفائدتِه و أثرِه الطيب في نفسِه و فيمَن حوله ، و هؤلاء الذين يُنظر إليهم و كأنَّهم من الدرجةِ الثانية هم أصحابُ فضلٍ قديمٍ على البشرية جمعاءَ ، و يكفيهم شرفًا أنهم كانوا جنودَ الأنبياء و المرسلين في رسالاتِهم التي أنقدتِ البشريةَ من الضلالِ و أخرجتْها من الظلمات إلى النورِ .
و أختمُ موضوعي بهذه القصةٍ المختصرةٍ ؛ و هي ماترويه كتبُ الحديث و السيرة و التاريخ من أن النبي ﷺ أرسل إلى هرقلَ عظيم الرومِ رسالةً يدعوه فيها إلى الإسلام ، و كان هرقل بالشام حين و صلته الرسالة ، و اتَّفَـق أنْ كان (( أبو سفيان )) على رأس قافلةٍ تجارية بالشَّامِ أيضاً ، فدعاه هرقل و دعا معه مجموعة من كبار قريشٍ و أجلسهُ أمامه ، و أجلس جماعته عند ظهره ثم قال لترجمانه قل لهم إني سائل هذا الرجل عن هذا النبي و قال لهم : فإن كَذَبَنِي ( أي : كذَب عليَّ ) فكَذَّبوه .. وبدأ الملك يسأل أبا سفيانَ عن النبي ﷺ و أبو سفيان يُجيبُ ، و كان من أسئلة الملك لأبي سفيان : فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم !؟ فأجاب أبو سفيان : بل ضعفاؤُهم ، فقال الملك : و هكذا أتباع الرسلِ .
ثم قال لأبي سفيان : (( لئن كان ما تقوله حقًّا فهو نبيٌّ .. و سيملك موضع قدميَّ هاتين )) _ أخرجة البخاريُّ في صحيحه ( ٧ ) ؛ و مسلم في _صحيحه_( ١٧٧٣ ) ؛ من حديث أبي سفيان صخر بن حرب رضي اللّٰه عنه.
و يقصد هنا هرقل أرضَ الشَّام ، و لم تمضِ سنواتٌ قلائلُ حتى دخلَ الإسلامُ الشَّامَ ؛ و صدقَت فراسةُ الملكِ هرقل .
هذا و باللَّه التوفيق
و اللّٰه أعلم 🌺🌺
إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 
  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان
  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼
  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼



الجمعة، 19 مايو 2023

Prince Rudolph's Journey رحلة الأمير ردُولف


 الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته

رحلة الأمير ردُولف

أبهرت و بهرت مصر الكثير من الرحالة و المؤرخين منذ أقدم العصور فلم يستطيعوا مقاومة سحر طبيعتها الخلابة التي تمتزج مع أصالة الماضي ، و إبداع النقوش المحفورة على الجدارن ، و إلهام الأزمنة القديمة و غموض الصحراء ، و تدفق النهر الخصب ، فوفدوا بأعداد كبيرة و توغلوا في جوهر الحياة المصرية ليسبروا أغوارها ، و دونوا مشاهداتهم التي ساهمت في ازدياد الوعي العام للغرب بالواقع الشرقي ، و من أجمل العبارات ما قاله الرحالة الفرنسي _جوستاف فلوبير_ ( إن الشرق يبدأ من مصر ).

و في عهد الخديوي إسماعيل في عام ( 1875 ) من الميلاد زار مصر صاحب السمو الإمبراطوري و الملكي الأمير رودولف من آل هبسبرج بالنمسا ، و بدأ رحلته المثيرة بجولة ما بين ربوع مصر بدءًا من الإسكندرية و مرورًا بالقاهرة و الفيوم و الصعيد و بورسعيد ، ثم قطع قناة السويس و تجول في البحر الأحمر قبل أن يذهب إلى فلسطين.

و بصفته أميرًا فكانت رحلته رسمية ، و كان محاطًا بالمرافقين و الحراس و لم يختلط اختلاطًا مباشرًا بعامة الشعب كسائر أبناء الطبقة الراقية ، و قضى معظم رحلته يشبع هوايته في رياضة الصيد الترفيهية التي كان يمارسها النبلاء و الأثرياء في ذلك الزمان و استخدموا الكلاب لمطاردة ما تجود به الطبيعة من فرائس.

و خلال جولته في مصر استغرقته التفاصيل المفعمة بالحياة و الطبيعة البكر فكتب و صفًا مفصلاً لعوالم الشرق السحرية التي تجسد الجمال الحيَّ ، كما سجل أهم المعالم الجغرافية و الأثرية التي أبهرته روعتها ، و ذكر العديد من أنواع الطيور التي ظفر بها مثل البلشون و أبو قردان و الكركي و الوروار و الحدأة و الصقور ، و دون أسماء الحيوانات البرية التي طاردها و كانت منتشرة في القري و الصحارى و الحدائق مثل الذئاب و ثعالب الصحراء و السحالي و ابن آوى و الوشق و الضباع ، فأظهرت كتاباته مدى ثراء مصر في الحياة الحيوانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر .

و يقول الأمير رودولف في رحلته قائلاً إنه يقاسي من برد أوروبا الشديد و يأمل بأن يستمتع عما قريب بدفء بلاد الشرق المتوهج و يرتوي من جمالها الأخاذ ، و بعد و صوله يصف لنا مشاعره الفياضة ، فيقول : ( و تجاوزنا الحديقة الغناء و رأينا أشجار الجميز الضخمة و الروائح العطرية تنبعث من بساتين البرتقال ؛ إنها عطور الشرق المسكرة و امتلأت السماء بنجوم لا حصر لها و أنعش الهواء الدافئ الناعم و جوه الأوروبيين البائسين ، لقد كانت ليلة إفريقية حقيقية غاية من الروعة ؛ إذ ينبغي على المرء أن يدرك السحر اللذيذ لهذه البلاد السعيدة ، ليفهم جاذبيتها التي تفوق الوصف و فتنتها التي لا حدود لها و الشوق الشديد لكل من عاش فيها ليعود إليها ، ففي هذه البلاد ، فقط لا سواها ، يمكن أن يكون مهد البشرية حيث الشرق المزهر الباسم و الصيف الواضح غير الكئيب لا في بلاد الشمال الجرداء العابسة ).

و استقل الأمير رودولف القطار من مدينة الإسكندرية إلى القاهرة شاقًّا طريقه و سط القرى و الحقول ، فشاهد روعة الريف المصري و بساطة الحياة و سط الطبيعة و سجل ملاحظاته : (( تتبع طيور النورس و الفلاحين الذين يحرثون الغيطان و طائر أبو طيط الرشيق ، و بين أشجار الحقول على شاطئ النهر يهدل الحمام وزمج الماء ( طير النورس ) الطائر المصري الأصيل ذو المنقار الطويل ينقض صائدًا السمك، و يرى المرء من القطار الذئاب و هي تعدو في الحقول ، و تحوم الصقور و النسور فوق القرى ، إنه عرض متباين مفعم بالحياة و مشوق للنشاط البشري و الحياة الحيوانية)).

و بعد و صوله إلى القاهرة قام الأمير رودولف بجولات بين الأحياء القديمة و الحديثة ، فأعجب بالملابس الشرقية المزركشة و ببساطة أولاد البلد ، و قد سجل لنا مشاهداته للأعداد الضخمة من الحدآت التي تحلق في سماء القاهرة ، و الحدآت هي طيور جارحة داكنة اللون آكلة للحوم تعيش في جماعات و كانت منتشرة بكثرة و لم يكن مسموحًا بصيدها أو بقتلها لأنها تنظف القاهرة من النفايات و تنقي نهر النيل من أي مخلفات يجرفها النهر في طريقة ، تنقض أعداد الطيور الهائلة على بقايا الطعام و الجيف فتلتهمها في الحال و تترك الشوارع نظيفة .

و يبدأ الأمير رودولف وصفه قائلاً : (( و لا أستطيع أن أصف أسواق القاهرة و صفًا مفعمًا بالحياة زاخرًا بالألوان ؛ إنها مناظر جديدة تصافح عيون الغرباء في كل منحنى ، و قد اشتريت بعض الحلى العربية و درعًا قديمة و بعض المشغولات الذهبية و الفضية ، و في سوق السجاد ذهبت إلى حوش منزل تاجر ثري ، و بسط هذا الرجل العجوز باعتزاز يفوق الوصف سجاجيده الراقية الثمينة ؛ ثم انطلقنا في شارع شبرا ذي الخضرة و الظلال ، و تتابعت الصور صورة في إثر صورة و كأننا في حلم ، زحام بشري و جِمال محملة و حمير صغيرة و شرقيون في ملابس زاهية ملونه و محلات فتحت جوانب من أبوابها و مقاهِِ يجلس زبائنها أمامها ، و أطفال يتشقلبون فوق التراب و هم يصيحون و يتدافعون بشدة و لم يتنح واحد منهم ، و فلاحات أصابهن الرعب يحملن جرار الماء فوق رءوسهن ، يهربن صارخات بمجرد اقتراب الحافلات بقوة ؛ لقد أبهجتني البساتين الناضرة بأزهارها الفواحة و شجيراتها و نخيلها التي تداعب النسائم أغصانها و جريدها ، و رأيت و وسط مدينة القاهرة عددًا من الطيور الجارحة ، آلاف الحدآت تحلق في الجو أو تقف على الأسطح ، و سمعت أغاني الطيور ، و غمرت نفسي في النسائم الشافية لمصر المقدسة )) كما وصف الأمير.


و أثناء زيارة الأمير إلى الجامع الأزهر الشريف جذب انتباهه منظر لم يعتاد عليه ؛ و هو منظر الحلاقين و هم منهمكون بعملية الحلاقة في الشوارع ، و كانوا يقومون بحلق الرءوس بطريقة فريدة ، و علق عليها في كتابتة قائلاً : (( و قد أمتعت نفسي بملاحظة أساليب الحلاقين الشرقيين العريقين إلى جانب بوابة جامع الأزهر الرئيسية و هم يجلسون متربعين على الأرض ممسكين برءوس زبائنهم بين ركبهم و بعد أن يفرشوا رءوسهم بالصابون اللاذع يحكون بأمواسهم رءوس الزبائن حتى تغدو ناعمة كالزجاج ؛ فلا أحد من المصريين يحتفظ بشعر رأسة سوي أفقر الفلاحين أو البدو غير المتحضرين ، و في المدن يعتبر الرأس الأصلع علامة من علامات الجمال ، و يقوم الحلاقون بحركات رشيقة أثناء تزيين زبائنهم و قص شعورهم و غسل رءوسهم و تعطيرهم بعطر زيت الورد و غيره من الدهانات العطرية مما يروج لنشاطهم )).

ذهب الأمير رودولف لمشاهدة الأهرام و أبو الهول ، فانبهر بروعة الحضارة المصرية القديمة و الأهرام إحدى عجائب العالم القديم التى تقف صامدة تتحدى الزمن ، فوقف يتأملها و يتغزل في إبداعات المصريين و دون و قال : (( و عند قصر النيل عبرنا النهر المقدس و جزيرة بولاق و تجاوزنا بعض الفيلات و الحدائق البهية و سرعان ما و صلنا إلى طريق مرتفع تحفه الأشجار و يمر ببعض القرى حتى حافة الصحراء ؛ لقد سارت بنا المركبة و توقفت عند قاعدة تكوينات عملاقة تطل علينا من عمق آلاف السنين من تاريخ العالم ؛ إن كل رحالة يحملق للمرة الأولى في الأهرمات الباقية من أزمنة سحيقة تغشاه رهبة من نوع خاص ، أيمكن أن يلمس بيديه أحجارًا ظلت باقية من قبل إبراهيم الخليل عليه السلام! إنها ما زالت باقية بسبب جهد الإنسان و مهارته ، لقد رأينا أهرامات خوفو و خفرع ومنقرع كما رأينا أبوالهول و قد غطت الرمال نصف جسده ، و شرع بعض العرب في تسلق الهرم الثاني لطرد حيوانات ابن آوى الكامنة بين صخوره ، و غربت الشمس و سبحت المرئيات في بحر من الضياء البهية و تألقت أحجار الأهرام الرمادية كالذهب )).

جال الأمير رودولف طوال رحلته بين مدن و أقاليم مصر و ذهب إلى مدينة الفيوم جنة الصحراء التي كانت تلقب قديمًا بحديقة مصر و تقع في الصحراء الغربية على بعد حوالي تسعين كيلومترًا جنوب غرب القاهرة ، و تعتبر الفيوم مستقرًّا لكثير من أنواع الطيور المهاجرة ، و كانت قديمًا من أهم مناطق صيد البط ؛ قضي الأمير رودولف عدة أيام في الفيوم لإشباع هوايته في الصيد ، يبدأ يومه مع بزوغ أول أضواء الصباح الباكر ، فيخرج لرحلة نائية يتبع أسراب الطيور التي تحلق في جماعات ، و يطارد الفرائس التي تعدو هاربة دون كلل و لا ملل ، و يعود قبل أن تأوي الشمس إلى مخدعها متباهيًا بغنيمته الثمينة ، يبدأ رودولف سرده قائلا : (( يجيد الشرقيون إعداد الوجبات في الخلاء كما يجيدون نصب الخيام بسرعة و بشكل مريح و لا أحد يباريهم في ذلك ، فسعيد هو من يسافر معهم ، و في الصباح الباكر رحنا نلاحظ أسراب طيور الماء أثناء تجوالنا على شاطئ الجزيرة لاختيار البقع المناسبة لتمركزنا ، و ما كدنا نغادر الخيام حتى رأينا أسرابًا من الغاق و أنواعًا من البط البري و البلشون و البجع الذي يبعث منظره على السرور ، و قد ذهبت أنا و الدوق الكبير و اختبأنا بين شجيرات الصفصاف و مر علينا كل أنواع الطيور ، فأطلقنا و كانت النتائج مثمرة فلم نكن نمكث إلا قليلا انطلق طلقات أخرى ، و كان حصادنا غير عادي ، ستة ذئاب أحدثنا بها جروحًا في يوم واحد و وشقين ( حيوان أصغر من النمر ) و سبعة ثعالب و نمسين و أرنبين بريين و أربع بجعات و نسرين من نسور النهر وأحد صقور الجيف و نسرًا إفريقيًّا جارحًا و مائة و سبعين طائرًا ، صغيرًا كان من بينها أنواع غربية )) .

و حصيلة الصيد الضخمة توضح مدى غنى مصر في الحياة الطبيعية في ذلك الزمان ، تتنوع في مصر الأقاليم البيئية ما بين واحات و صحارى و جبال و سواحل و هضاب ، و تبعًا لكل إقليم تتعدد أنواع الحياة النباتية و الحيوانية الكائنة به ، فتزخر أرض مصر بالكثير من الحيوانات و الطيور النادرة .

كما تمتلك أكبر ثروة سمكية في العالم لوجود البحر الأحمر و البحر المتوسط و نهر النيل على أرضها، كما تعد مصر من أهم طرق هجرة الطيور في العالم ، تعبرها ملايين الطيور كل ربيع و خريف ، و بعضها يقضي فصل الشتاء لدفء الجو ، و للأسف الشديد تضاءلت أعداد الطيور و الحيوانات بسبب التغيرات البيئية المطردة في العالم نتيجة للتقدم العلمي و التكنولوجي ، و نتيجة لسلوك الإنسان الذي ساهم بنصيب كبير في هذه التغيرات فأخل بتوازن النظم البيئية.

كما أدي الصيد غير المنتظم إلى تعرض أعداد كبيرة من النباتات و الحيوانات البرية إلى الانقراض فأعلنت مصر العديد من المناطق محميات طبيعية لتحافظ على الحياة الطبيعية و تحمي العديد من الحيوانات و الطيور و النباتات من الانقراض.

هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼

إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼


 

الإثارة والتشويق بطرح الأسئلة Content creators

  الإثارة والتشويق بطرح الأسئلة في السيرة النبوية الحمد اللّٰه رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، و بعد . فإن الإثا...