الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.
جاءنا في الخبر عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ - رضي الله عنه قالَ : قلت : يا رسولَ الله : مَا النّجاةُ قال : « أَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ » ؛ *(1).
الحديث الشريف
من جوامع كَلِمِهِ ﷺ يقف السائلَ عن النجاة الحريصَ على السعي إليها على سُبُلها ، وكلٌّ من هذه الثلاث تستحق إفرادها بالحديث .
ولأن هذه الإطلالة تخص واسطة العِقد منها فحسبُـنا في هذا المقام الإشارةُ المجملةُ إلى هذا العِقْدِ الفريد المنظوم من الجمل الثلاث أنها جاءت في ترتيـبـهـا موافقةً لما تعبر عنه من معانٍ سامية ، ففي الصدارة يأتي اللسان ، فإذا لم يُلْجِمْه صاحبُه إلجامًا حتى يَملِكَه فإنه يَفقِدُ السيطرة عليه ، وحينئذٍ لن يَسَعَه بيتُه ، بل سيضق عليه ، حيث شَهِيَّةَ انِفلاتِ لسانِهِ خارجَ بيتِهِ في مواطن اللهو و الأُنسِ و السمِرِ ، وساعتئذٍ لا مكان لتَذَكُّر خـطيـئةٍ مضت ، فيكون باكيًا على اقتِرافِها ، كيف ولسانُهُ المنفلتُ يُغرقُهُ فيها ، ألا ترى معي أن ترتيب الجمل الثلاث جاء منسجمًا مع المعاني المعبِّرةِ عنها ؟
و انـظـر
إلى ثالث الجُمل من حديثة ﷺ وذلك قوله : « وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ » و قد جاءت بعد سابقتيها ، و كأنها تشير على هذا الوجه من الترتيب إلى أن الممتثل للأمرين الأولَينِ ماضٍ إلى ثالثهما ، وما له لا يبكي على خطيئته وقد استشعر بعد أن ملك زمام لسانه ، و وسعه بيته أنه فرَّط فيما مضى ، لعله يستدرك فيما بقي ، فهو حينئذٍ المشفق على نفسه وعلى أهله ، الخائف من أن يلقى ربه وهو مُقَصِّرٌ في حق أهله وحق نفسه ؛ لذا فهو بين أهله ليس ذلك الآمرَ الناهيَ الزاجرَ المُزَمْجِرَ ، و إنما يجده أهله بينهم خائفًا من ربه وَجِلًا أن يكون مقصرًا في حقهم ؛ تربية و تزكية ورعاية ، ومشفقًا على نفسه أن يكون قصَّر فيهم ، ومشفقًا عليهم بكل وجوه الإشفاق ، وبيتٌ هذا شأنه عرف معنى الخشية من الله ، ويوم يذوق أهل هذا البيت الذي تلمَّس طريقه لمولاه ثمارَ ما امتثلوا و أطاعوا ، هنالك يتذاكرون تلك الأيام الخالية في قوله تعالى:- { وَأَقۡبَلَ بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ يَتَسَآءَلُونَ } ( الطور :- ٢٥) ؛ قائلين :--{ قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا قَبۡلُ فِيٓ أَهۡلِنَا مُشۡفِقِينَ } ( الطور :- ٢٦ ).
لنعد إلى واسطة العِقْدِ في تلكم الجمل الثلاث ( وَلَيَسَعْكَ بيتُك ).
كلمتان عظيمتان
حقًّا إنهما في دلالتهما على المعني ، عظيمتان في توسطهما بين الجملتين المذكورتين توسُّطَ البيت الهادئ الهانئ بمن فيه ولو أحاطت به الأعاصير من كل جانب ، وكأنه سفينة نوحٍ : سفينِة النجاة وهي تجري بالناجين في موج كـ الجبال.
كلمتان لا تنتظران من مثلي أن يبين للعقلاء عظمتهما ، إنما هما اللتان تنبئان عن عظمتهما ، بما تحملان من دقة اللفظ مع وجازته ، بالأضافة إلى عمق المعاني وسَعَتِها مع غزارتها.
وكأني بالكلمتين من جوامع كَلِمِه ﷺ تُلِحّانِ علينا إلحاحًا ؛ كي نعيدَ قراءَتَهما من جديد كلما شعرنا بمزيد حاجتنا إلى العودة إلى بيوتنا.
حاجة بيوتنا لعودتنا إليها
وأول ما يستوقف المتأمل في هذا الهَدْي القويم ذلك الأمر الموجَّه إليك أيها المخاطب العاقل فعل الأمر ( وَلَيَسَعْكَ ) ، فمن أنت حتى يُطلَبَ منك أن تسعى جاهدًا لأن يَتَّسِعَ لك بيتُكَ ؟ ألم يَتَّسع البيتُ الذي تسكن فيه لك ولمن معك من أفراد أسرتك !؟ أبلغتْ ضخامةُ بدنك الحَدَّ الذي يُطلَبُ منك أن يتسع لك بيتك ؟ أم يطلب منك أن تُخرِج من في البيت حتى يخلو البيت لك ويسعك ؟
لا ريب أن هذا النوع من الفهم -- المثير للضحك -- المتبادر إلى الذهن سرعان ما يكشف عن ضحالته وسذاجته عند أدنى تأمل.
لكن الحكمة النبوية أرفعُ وأجلُّ من أن تُفهَمَ على هذا الوجه الساذَجِ أو ذاك ، فلا البيت الذي طُلِبَ منكَ أن يَسَعَكَ هو هذا البيتُ الماديُّ الذي لا يتجاوزُ الأركانَ و الجدرانَ ، ولا أنت أيها المخاطَبُ المطلوبُ منك هذا المطلَبُ هو أنت صاحبَ البدن وكفى ، فبيوتُنا الماديةُ هي على حالها ، وأبدانُنا كذلك على حالها إذا كانت نظرتنا بهذا المنظور السطحيِّ.
من نحن
فمن نحن الموجَّهون بهذا التوجيه الحكيم الرشيد ؟ وما بيوتنا التي يطلب منا أن تكون واسعة لنا ؟
إنّ المخاطب بهذا الخطاب الشريف هو تلك النفس البشرية التي خلقها ربها خلقًا خاصًّا مركبًا مما تفرَّق في المخلوقات من حولنا ، فلئن كان البدن آلة لهذه النفس فهي مزيجٌ مُعَقَّدٌ من نوازع الخير فينا إذا تعهدناها تَعَهُّدَ الزارع النَّبتة الصغيرة فإذا هي شجرة مورقة مزهرة مثمرة ، وإن نحن أهملناها وتركناها ترتعْ بلا ضابطٍ من عقل ودينٍ هلكت وأهلكت ؛ قال تعالى : -- ﴿ وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا (٧) فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا (٨) قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا (٩) وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا (١٠) ﴾ :- { الشمس :- ٧ - ١٠ } .
و أما بيتك الذي أمرت أن يَسَعَكَ فهو أهلُكَ و شئونهم ، و شأنُك بينهم ، ودورُك معهم ، وقِوامتُك عليهم ، إنه أمورٌ كثيرةٌ و متشعبةٌ ، إنه والحالة هذه مملكتُك التي تعتلي عرشَها متحمِّلًا مسئولياتها ، إنه أمانتُك التي ائتُمِنتَ عليها ، وخلافتُك التي استُخلِفتَ فيها .
ألم تسمع إلى رسولنا الكريم ﷺ يقول : (( كَـفَى بالمرءِ إثمًا أن يُضيّعَ مَنْ يَقُوتُ ))*(2).
النجاةَ
إن في سعة بيتك لك النجاةَ كلَّ النجاة ، فبيتك الذي يُؤويك ، فتسلم من أذى الناس ، ويسلم الناس من أذاك ، وفي ذلك نجاة لك من نفسك ، وفي سعة بيتك لك نجاة أهلك ، فهم أولى الناس بك ، وأحوجهم إليك ، و أصحاب الحق عليك ، وهذا كله يضاف إليه نجاةُ الآخرين منك حيث ملكتَ لسانَك ، و وسعكَ بيتُك ، وشُغِلت بنفسك عن غيرك .
وهذه الوجوه من النجاة وإن كانت دنيوية فهي ليست مقطوعة الصلة عن نجاة الآخرة ، و من منا لا يعلم بَدَهِيَّةَ الإسلام القاضية بأن الدنيا مزرعة الآخرة !!
أما من لم يستجيب ـ عافانا الله وإياكم ـ إلى هذا الهدي القويم فانظر إلى حالهم و أوضاع أُسرهم .
انظر إليهم وقد ضاقت عليهم بيوتهم فضاقت عليهم الأرض بما رحُبَت ، وضاقت عليهم أنفسهم ! فتراهم يَتَرَنَّحون هـنـا -- و هناك تـرنُّـحَ الـطـائـر المذبوح وقد سرقته السكين ، فالمسكين --- منهم يخرج من عمله إلى المقهى أو الملهى تاركًا أهل بيته ، فلا يعود إليهم إلا وهم نيام كما تركهم بالغداة و هم على هذا الحال و قد --- صاروا يتامى بلا يُـتْـم ، و حيارى بلا ربان .
ألا إننا نحن الذين نُوَسِّعُ ضيِّقًا ، و نُضَيِّقُ واسعًا ، لو عدنا إلى بيوتنا لوسِعتْنا ، ونجونا ونجت بنا ، فالنجاة النجاة ؛ فإن حاجتنا إلى بيوتنا ، كـحـاجـة بيوتنا إلينا .
هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺
إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان.
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼
*الـمـراجـع .___________________________
*(1) أخرجه الترمذي في الجامع الكبير ، بَابُ مَاجَاءَ فِي حِفْظِ اللِّسَان ، رقم الحديث : ( ٢٤٠٦ ) ، وقال : هذا حديثٌ حسنٌ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*(٢) أخرجه أبو داود في السنن ، عن عبدالله بن عمرو ، باب
في صلة الرحم ، رقم الحديث : ( ١٦٩٢ )ــــــــــــ