المتابعون

السبت، 3 مايو 2025

تشغيل الأطفال بين الإفراط و التفريط - Children's work

 


الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

أن الأصل في مرحلة الطفولة اللعب و المرح ؛ حتي يشب الطفل وقد أخذ حظه من اللعب و المرح و التسلية التي جُـبِـلَ على حبها ؛ فالطفل في مرحلة الطفولة لا تساعده بنيته الجسدية ولا قدراته العقلية التي لم تكتمل على تحمل أعباء الأعمال التي يقوم بها الشباب و الرجال .

قضية تشغيل الأطفال 

تحظى باهتمام كبير من المنظمات و الهيئات الدولية التي تُعْنَى بالطفولة وحقوق الأطفال ، و الناس في تناولهم غالبًا بين مُفرط و مفرِّط ، فمنهم من يُفرِطون حيث يطالبون بمنع تشغيل الأطفال بشكل كامل ، بينما واقع آخرين أنهم يكلفون الأطفال بأعمال يصعب بعضها على البالغين ، وهنا نجد أنفسنا بين إفراط في المنع و تفريط بفتح مجالات عمل لا تناسب الأطفال ، ولذا فإن المعالجات كافة غالبًا لا تحقق نتائج ملموسة على الأرض ، ويرجع السر من وجهة نظري الشخصية في فشل المعالجات التي تتبناها الهيئات و المنظمات المعنية بالطفولة وحقوقها إلى الاكتفاء بالمطالبة بمنع تشغيل الأطفال و التحذير منها ، وربما المطالبة بعقوبات على الجهات و الأفراد الذين يسمحون بالعمل للأطفال ؛ إلى غياب المعالجة المنطقية ، وذلك بعدم دراسة أسباب الظاهرة ووضع حلول لها ، فالطفل الذي يترك مدرسته ويتخلى عن ممارسة الألعاب المحببة إلى نفسه ؛ لا يفعل ذلك حبَّا في العمل ولا زهدًا فيما تهواه نفسه ، وإنما يفعل ذلك لأسباب اقتصادية بحتة ؛ فظروف كثير من الأُسَرِ الاقتصادية لا تساعد على الوفاء باحتياجات أفرادها ومنهم الأطفال ، كما أن بعض الأسر يموت عائلها ويترك أولاده أطفالًا لا دخل لهم ، وهنا يضطر أكبرهم في الغالب إلى ترك لعبه ومدرسته ويقتحم سوق العمل و الأعمال الدنيا ليجد له فرصة عمل ، وربما لا يجدها إلا في ميدان يفوق قدراته كالمصانع و الورش بأنواعها ، بينما يستسهل بعضهم مهنة التسول في الشوارع وإشارات المرور ونحوها ، وهذه الأعمال بطبيعة الحال لا تناسب الأطفال ، ولكن الاكتفاء بذكر هذا الحكم دون وضع حلول لأسباب المشكلة لا يجدي نفعًا على الإطلاق ، فماذا بعد أن يترك الطفل عمله الذي تنتظر أسرته قبله دخله منه لتواصل حياتها ، وليتمكن بقية إخوته من مواصلة تعليمهم ، و تتمكن أمه من شراء دوائها ويتمكن هو من ستر بـدنـه وسد جـوعـه و عـطـشـه ؟! 

طفولة على المحك

نعم و ألف نعم للمطالبة بعدم تشغيل الأطفال والمطالبة بإعادتهم إلى ميدان طفولتهم ولهوهم وبراءتهم ، ولكن ليتحقق هذا فإن على هذه المنظمات و الهيئات و الحكومات العمل على توفير حياة كريمة للأسر عن طريق الضمان الاجتماعي او غيره ، فإذا تحقق للأسر الحد الأدنى لحياة كريمة فلن توافق أسرة على عمل أطفالها ، ولن يترك طفل لعبه ومدرسته ليذهب إلى ورشة حدادة أو نجارة ، أو العمل في ميدان المعمار أو غير ذلك من الأعمال ، وتحقيق الحد الأدنى للحياة الكريمة واجب على الدول لرعايتها كافة ، وعلى المسئولين بجميع مستوياتهم العمل على تنمية الموارد وحسن استغلالها ؛ لتتمكن من تحقيق ذلك ، وعلى القادرين من مواطني الدول لا سيما الدول الفقيرة مساعدة دولهم على حل هذه المشكلة وليس تعميقها ، فعلى رجال الأعمال وأصحاب الشركات والمصانع وغيرها بدلًا من تشغيل هؤلاء الأطفال في مصانعهم مستغلين تدني أجورهم أن يخصصوا جزءًا من مكاسبهم لكفالة الأسر الفقيرة حتى لا تضطر إلى تشغيل أطفالها ، ويحسن بهم تفقد المدارس الحكوميَّة ودفع المصروفات الدراسية للتلاميذ غير القادرين على دفعها ، و نفقات العلاج لغير القادرين ، وإيجارات المساكن التي يسكن فيها بسطاء الناس ، وساعتها لن نجد طفلًا في ميدان عمل ، أو متسول فى شارع .

وهذا من ناحية حل مشكلة الأعمال غير الملائمة للأطفال ، ولكن في المقابل فإن المطالبة بعدم تشغيل الأطفال على إطلاقها فيها نوع من الإفراط و التضييق الذي يضر بتنشئة الطفل ، و تهيئته لمرحلة الشباب وما بعدها ؛ حيث يصبح صالحًا للقيام بالأعمال التي تناسب قدراته بما فيها الأعمال الشاقة إن كان يقوي عليها ؛ فحين يشب يصبح عمله مطلوبًا شرعًا في مجالات العمل كافة سواء أكان في مجال العبادات أم المعاملات الحياتية بمختلف مجالاتها ، ولذا طـالـبَـنـا رب العالمين بالعمل بصيغة الأمر الدالة على الوجوب و الإلزام فقال تعالى :-﴿ ‏وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ﴾﴿ التوبة -١٠٥﴾ ؛ و مدح العمل فقال تعالى :- ﴿ مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ﴾﴿ النحل - ٩٧ ﴾.

والطفل وإن كان لا يصلح للعمل الذي يقوم به الكبار فإنه من الملائم أن يمارس بعض الأعمال وهو في طفولته ويتدرج فيها شيئًا فشيًا ، حتى إذا شب كان قادرًا على الأعمال التي هي لكسب لقمة العيش وتوفير الاحتياجات التي تحقق له حياة كريمة ؛ ولذا فلا مانع من السماح بل وترغيب الطفل في ممارسة بعض الأعمال كمشاركة الأم في خدمة البيت وتنظيفه ، و تعويده خدمة نفسه كترتيب غرفته و أغراضه ، ولا بأس من مساعدته والدَه إن كان له تجارة ؛ ليتعلم مهارة التجارة شئًا فشيئًا في غير أوقات الدراسة ، وبدرجة لا تؤثر على ممارسته لهواياته الرياضية وغيرها ، وعلى الآباء مراعاة ذلك وعدم حرمان الأطفال من ممارسة هواياتهم و ألعابهم حتى لو كانواومن النافعين لهم في مجال تجاراتهم وأعمالهم ، وعليهم أن يدركوا بأن السماح لأطفالهم بمساعدتهم إنما هو على سبيل الاستثناء ؛ ليتعودوا العمل شيئًا فشيئًا ، وليس كعمال منتجين كالكبار ، وهذا ما يغفل عنه كثير من الآباء الذين يعتمدون على أطفالهم حين يبرعون في الأعمال التي يقومون بها مع آبائهم ، فيعتبرونهم كأنهم من العمال الأساسيين ، فلا يسمحون لهم بممارسة هواياتهم وألعابهم حتى لا يفقدوا جهودهم في مجالاتهم ، بل ربما يطلبون منهم ترك دراستهم و التفرغ للعمل معهم ، وهذا خطأ كبير يخالف تعاليم شرعنا ، فلقد تعلمنا من شرعنا توجيه أطفالنا للعمل الذي يبدأ بالعبادة :- { مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْع سِنِينَ ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِع ، وَإذَا أَنْكَحَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ أَوْأجِيرَهُ ، فَلَا يَنْظُرَنَّ إِلَى شَيْءٍ مِنْ عَوْرَتِهِ ، فَإِنَّ مَا أَسْفَلَ مِنْ سُرَّتِهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ مِـنْ عَـوْرَتِـهِ }*(1) ، ثم السماح لهم بممارسة بعض عمليات البيع والشراء البسيطة للوقوف على مدى حسن تصرفهم ، وهناك في فقهنا الإسلامي الكثير من الأحكام الفقهية الخاصة بتصرفات الصغير ، وأحكام ممارسته عقودَ البيع والشراء وغيرها ، ويلحظ عليها أنها في مرحلة الطفولة المبكرة لا اعتبار لها شرعًا ، كأنها لم تكن ، ثم إذا اقترب من البلوغ تكون صحيحة لكنها موقوفة على إذن وليه ، ولا تكون نافذةً بنفسها ، فإن أجازها الولي جازت ونفذت ، وإن رفضها لكونها ضارة أو خاسرة أُلْغِيَتْ ، و ألغيت الآثار المترتبة على العقد الذي عقده هذا الصغير ، و النظر إلى واقع الطفولة المعاصر و المحدَّد من قبل الهيئات الأممية وهو الثامنة عشرة ، يرى أن التوجيه الشرعي بابتلاء تصرفات الصبي ، ولا يخفى أنها من العمل كممارسة البيع و الشراء يشمل بعض مرحلة الطفولة ؛ فالطفولة شرعًا تنتهي بالبلوغ ، و هو واقعيًّا قد يحدث قبل هذه السن المنهية للطفولة قانونًا ؛ مما يجعل قوله تعالى :- ﴿ وَٱبۡتَلُواْ ٱلۡيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنۡ ءَانَسۡتُم مِّنۡهُمۡ رُشۡدٗا فَٱدۡفَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡۖ وَلَا تَأۡكُلُوهَآ إِسۡرَافٗا وَبِدَارًا أَن يَكۡبَرُواْۚ وَمَن كَانَ غَنِيّٗا فَلۡيَسۡتَعۡفِفۡۖ وَمَن كَانَ فَقِيرٗا فَلۡيَأۡكُلۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِذَا دَفَعۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ أَمۡوَٰلَهُمۡ فَأَشۡهِدُواْ عَلَيۡهِمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبٗا ﴾﴿ النساء -٦ ﴾ ، يشمل بعض الأطفال الذين بلغوا قبل بلوغ الثامنة عشرة ، فهو بالغ راشد شرعًا ، بينما هو طفل في نظر القوانين الوضعية ، والوقوف على الرشد من عدمه لا يكون إلا بالسماح له بممارسة بعض التصرفات ، ومنها البيع و الشراء ، فإن أحسن العمل وكانت تصرفاته أشبه بتصرفات الكبار دفعت إليه أمواله مع أنه ما زال في مرحلة الطفولة قانونًا ، وهذا يعني أن عمل الأطفال ليس ممنوعًا على إطلاقة شرعًا ، وإنما الممنوع إقحام الأطفال في الأعمال التي يمارسها الكبار ويمتهنونها كمهن للكسب المادي ، وإنما العمل المسموح به للأطفال شرعًا هو نوع من السماح بممارسة بعض الأعمال الخفيفة المناسبة لأعمارهم ، التي لا تؤثر بالسلب على طفولتهم وميلهم للعب ، كما لا تأخذهم من دراستهم واستذكار دروسهم وممارسة أنشطتهم الرياضية ونحوها .

فإذا أردنا طفولة سويَّة ينتقل الأطفال منها إلى مرحلة الشباب وما بعدها صالحين للقيام بأعباء مراحلهم العمرية دون عناء كبير ، فعلينا أن نطبق توجيه شرعنا ، بالسماح لهم ببعض الأعمال الخفيفة التي تعوِّدهم و تهيئهم لتحمل مسئولياتهم القادمة في مراحل أعمارهم التالية ، مع الحرص الشديد على عدم إقحامهم في مجال الأعمال التي تناسبهم ، وأخذهم من طفولتهم إلى عالم الكبار ؛ فلا إفراط ولا تفريط .

هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺

إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

*الـمـراجـع .___________________________



*(1)- مسند أحمد ، مسند المكثرين من الصحابة ، ٣٦٩/١١ ، حديث رقم : ( ٦٧٥٦ )

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

رائع كالعادة جزاك الله خيرا

تشغيل الأطفال بين الإفراط و التفريط - Children's work

  الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،  السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته. أن الأصل في مرحل...