الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته !
إن الأضدادَ تستدعي أضدادَها ، و أن ما بينها من علاقاتٍ تُشبهُ علاقةَ المتضايفَيْنِ ، مثل : خالقٍ و مخلوقٍ ، فإن العقلَ لا يَتصوَّر معنى (( خالق )) إلَّا إذا تصوَّرَ معه معنى (( مخلوق )) ، و كذلك مخلوقٌ لا يُتصوَّر إلَّا بالإضافةِ إلى خالق ، و شيءٌ من هذا المعنى ينطبقُ على علاقةِ التضادِّ بين العدلِ و الظلمِ.
فهذان المفهومانِ و إن كانا غيرَ مُتضايفيْنِ إلَّا أنهما متضادانِ ، و أنَّ أحدَ المفهومينِ يرتبطُ بالآخرِ ، فالعدلُ هو نفيُ الظلم ، و الظلمُ نفيُ العدلِ ، و شرحُ مفهوم العدلِ و إن كفى في الدَّلالةِ على نفي الظلم _ فإنَّه لا يكفي في شرحِ مفهومِ الظلم و تحديدِ معناه و أنواعِه ؛ لذا تظلُّ الحاجةُ ماثلة للحديثِ عن مفهوم الظلمِ.
و الظلمُ هو الخروجُ عن حدِّ العدلِ و الاعتدالِ في جميعِ الأمورِ ، و مجاوزةُ الحقَّ إلى الباطلِ و يُسمَّى بالجَورِ ، و الظلمُ يكون بأكلِ أموالِ الناسِ بالباطلِ ، و أخذِها ظلمًا ، كما يكونُ بالتَّعدي على الناسِ بالإساءةِ بالقولِ ، و الإهانةِ بالضربِ أو الاستقواءِ على الضُّعفاءِ ، و من الظلمِ الفادحِ أكلُ مال اليتيمِ ، و ظلمُ الزوجِ لزوجتِه بالتقصيرِ المتعمَّدِ في تلبيةِ حاجاتها التي تُقرُّها الأعرافُ و العاداتُ ، و من أظلم الظلمِ التسلطُ على البُرآءِ بتخويفِهم و مضايقاتِهم و ترويعِ أُسَرهم و أطفالِهم ، و كذلك مَطلُ الغنيِّ في أداءِ ما عليه من حقوقٍ أو ديونٍ للآخرينَ ، و تأخيرِه حقَّ الأجيرِ و العاملِ ، و الجورُ في قسمةِ الحقوقِ ظلمٌ ، و محاباةُ الخاملِ و مساواتُه بالنَّابه ظلمٌ ، و التفرقةٌ في تكافُؤ الفرصِ ظلمٌ أيضا ، و منحُ الوظائف لمَن لا يستحقونَ و منعُها عن المستحقينَ ظلمٌ .
و يطول بنا الوقت لو رُحنا نعدِّدُ الأمثلةَ التي تدلُّ على تغلغلِ الظلمِ في حياتِنا الاجتماعيَّةِ و ما يُعانيه غِمارُ الناسِ من مآسٍ لا يحتملونَها ، و لا يملكونَ لها دفعًا و لا يجِدُون مِن بأسِها مَهْرَبًا ؛ و لهذا بلغَ اهتمام القرآن الكريم شأوًا بعيدًا في التحذيرِ من هذه الرذيلةِ القاتلةِ و المربكةِ لسير الحياةِ الاجتماعيةِ.
و قد تعجَبُ حين تعلمُ أنَّ مفردةَ الظلم و مشتقاتِها تناوَلها القرآنُ الكريمُ في مئةٍ و تسعينَ آيةً من آياته الكريمةِ ، و ما ذاك إلَّا لتنبيهِ المؤمنِ على خطر هذه الآفةِ التي طالما كانَت وراءَ دمارِ الأممِ و الشعوبِ و الحضاراتِ في القديمِ و الحديث ؛ و هذه حقيقةٌ قرآنيةٌ قبل أن تكون حقيقةً تاريخية اجتماعيةً ذكرها اللَّهُ تعالى في سورةِ النملِ في معرِض العذابِ الذي أصابَ (( ثمود )) نتيجةَ الظلم : { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٠ ) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ( ٥١ ) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةًۢ بِمَا ظَلَمُوٓا۟ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَأَيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ٥٢ ) وَأَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَكَانُوا۟ يَتَّقُونَ } { النمل ٥٠_٥٣ } ، و الآيةُ كلُّها تدورُ حول عاقبةِ الظلمِ و الظَّلَمةِ ، و النَّصُّ على أن الظلمَ يُعقِبُ خرابَ البيوت و البلادَّ ، حتي قال ترجمانُ القرآن : ابنُ عباس_رضى الله عنه_(( أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّ الظُّلْمَ يُخَرَّبُ الْبُيُوتَ )) .
و ممَّا يجبُ التذكيرُ به من آياتِ الذِّكرِ الحكيمِ و الاتِّعاظِ بالوعيدِ المُرعِبِ و العاقبةِ الأليمةِ لمَن استمرأَ هذه الآفةَ البَشِعةَ ، و ما ينتظِرُه مِن هلاكٍ في الدنيا و عذابٍ في الآخرةِ و ممَّا يجِبُ التَّذكيرُ به هنا قولُه تعالى :
{ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ }{ إبراهيم : ٤٢ }.
__{ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا }{ الكهف : ٢٩ }.
__ { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ۖ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا }{ طه : ١١١ }.
__ { وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }{ الأنبياء : ٤٦ }.
_ { وَأَعْتَدْنَا لِلظَّٰلِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا } { الفرقان : ٣٧}.
و كذلك الترهيبُ من الدَّمار كنتيجة حتميَّةٍ تَعقُبُ الظُّلمَ و الظالمَ :
{ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ }{ العنكبوت : ١٤ }.
{ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى ٱلْقُرَىٰٓ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَٰلِمُونَ }{ القصص : ٥٩ }.
و كذلك التَّحذيرُ منَ الاقترابِ من الظالمِ و مصاحبتِه و الرُّكونِ إليه: { وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ }{ هود : ١١٣}.
و التَّنبيهُ على أنَّ الظَّالمَ خاسرٌ دائمًا و لا يُفلحُ أبدًا ؛ لأنَّ هدايةَ اللَّهِ بعيدةٌ عنه { إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } ، { وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ، و هذه الآيةُ تكرَّرت ثلاثَ مراتٍ باختلافٍ طفيفٍ في ألفاظِها.
أن جرمية الظلمِ كما تكونُ بين الأفرادِ تكونُ بينَ الأممِ و الدولِ التي يَظلِمُ بعضُها بعضًا ، و ينطبِقُ عليها ما يَنطبِقُ على الدولِ التي بادَت و تلاشت بسببِ الظلمِ ، و الأخطرُ من ذلك أن عقوبةَ الظلمِ إذا نزلت على بلَدٍ أو قُطرٍ مِن الأقطارِ عمَّت و أخذتِ الصَّالحَ و الطَّالحَ :
{ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }{ الأنفال : ٢٥ } ،
و ذنبُ الصالحينَ هنا أنهم لم يقوموا بواجبِ النُّصح كما ينبغي لكفِّ الظَّلَمةِ عن ظُلمِهم.
و هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼🌼🌼
و كل عام و أنتُم بخير 🌼
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
الرجاء دعمكم لمدونتى الشخصيه بزيارة و متابعة و تعليق
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼