الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.
بيَّنَّا في مقالات سابقةِ أن الابتلاءَ بالنسبةِ للمؤمنِ باللَّه تعالى خيرٌ كلُّه ؛ لأنه يُعرِّضُه لثوابٍ عظيمٍ ينالُه جزاءَ ما قدَّمَ من شكرٍ أو صبرٍ ، وبيَّنَّا أن الابتلاءَ بالمصائبِ كالفقرِ و المجاعةِ و الأمراضِ و فَقْدِ الأحبَّةِ ليس أمارةً على سَوءِ حالِ المبتلَى ، فصفوةُ البشريةِ هي التي يُصيبُها البلاءُ ، كما بيَّنا أنَّ البلاءَ كثيرًا ما يكون طريقًا معبَّدًا الى جنةِ الرضوانِ و النعيمِ المقيمِ .... بل إن العبدَ قد تكونُ له منزلةٌ في الجنهِ لا يَصِلُ إليها بعملِه الذي اعتادَ عليه لعلوِّ هذه المنزلةِ و سُموِّها عن درجةِ عمله ، فيُبتلَى من اللَّهِ ، فيبلغ هذه الدرجة بثواب الصبرِ على قضاء اللَّه ، و قد مرَّ بنا قول النبي ﷺ : (( عَجبًا لأمرِ المؤمنِ ، إنَّ أمْرَه كلَّه له خيرٌ ، و ليسَ ذلك لأحدٍ إلا للمؤمنِ ؛ إن أصابَتْه سراءُ شَكرَ فكان خيرًا له ، و إن أصابَتْه ضراءُ صبرَ فكان خيرًا له )) …*(١).
و سببُ الخير في عموم البلاءِ هو :
التَّحقُّقُ بمقامِ الصبرِ أو مقامِ الشكرِ ، و هما مَنزلانِ لا يَنزلُهما إلا مؤمنٌ باللَّه و باليومِ الآخرِ ، و بالجزاءِ ثوابًا و عقابًا .
و قد وردَ ذِكرُ الصبرِ و مُشتقاته في القرآنِ الكريمِ أكثر من مئة مرةٍ ، و هو يدورُ على(( حبس النَّفسِ على ما تَكرَه ابتغاءَ مرضاةِ اللَّه )) ، و قد أشارَ النبي ﷺ الى مناطِ الثوابِ في الصبرِ ، و هو :
الصبرُ على المكارِه ، و ذلك في الحديثِ الشريفِ : (( و اعْلَمَ أنَّ في الصبرِ على ما تَكرَه خيرًا كثيرًا )) …*(٢).
و قد ربطَ القرآنُ الكريمُ ، و كذلك السنةُ المشرفةُ ، بين الصبرِ و بين أعظمِ الدرجاتِ في الدنيا و أجلِّها ثوابًا في الآخرةِ ، فالصابرونَ هم أئمةُ المتقينَ ، و ينالون أجرهم مرتينِ بما صبروا ، و اللَّهُ مع الصابرينَ ، كما ربطَ القرآن بين الصَّبر و النَّصر ، و جعَل الصَّبر الأنفعَ في النوازلِ و الملماتِ : { وَأَن تَصْبِرُوا۟ خَيْرٌ لَّكُمْ }{ النساء : ٢٥ } ،
{ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } { النحل : ١٢٦}.
و قد رُوي عن النبي ﷺ أنَّه وصفَ الصَّبرَ بأنَّه نصفُ الإيمانِ …*(٣).
و علينا أن نعلمَ أن الصبرَ المقبولَ هو ما كانَ في و قتِه الصحيحِ : (( إنَّما الصَّبرُ عند الصَّدمةِ الأُولَى ))…*(٤).
فإذا فَترَ المبتلَى بتأثيرِ مرورِ الزَّمنِ أو مواساةِ الآخرينَ فإنه لا يُسمَّى صابرًا محتسبًا .
و قد بلغت فضيلةُ الصبرِ هذه المنزلةَ لضرورتِها القُصوَى في تحقيقِ الآمالِ في الدنيا و الآخرةِ ، فهو ضرورةٌ دينيَّةٌ و ضرورةٌ دنيويةٌ سواءً بسواءٍ ، و إذا كان اللَّهُ تعالى قد أجرَى العادةَ في الدنيا على نظامِ التَّدرُّجِ ، درجةً بعدَ درجةٍ و خطوةً إثرَ أُخرَى ، فلا جرمَ أن كان الصبرُ هو الوسيلةَ الوحيدةَ التي يتمكن بها العبد من تحقيق آماله و بلوغ غاياته ، فالزارعُ و الصانعُ و التَّاجِرُ و العالمُ و المتعلِّمُ و المفكِّرُ و غيرهم لا يُمكنُ لهم أن يُنجِزُوا عملًا أو يحقِّقوا غايةً أو هدفًا إلا باصطحابِ الصبرِ و الانتظارِ لقَطعِ كل مرحلةٍ من المراحلِ التي تَسبِقُ مرحلةَ الإنجازِ.
و يطولُ الكلام كثيرًا في ذِكرِ الحِكَمِ في الشعرِ و النثرِ التي تدعو لفضيلةِ الصبرِ ، و أن الإنسانَ لا يبلُغُ مجدًا و لا نجاحًا و إلَّا إذا اتخذَ الصبرَ مطيةً في السعي لبلوغ المقاصِدِ و تحقيقِ الآمالِ .
و من أبلغِ ما قيلَ في ذلك ؛ قولُه ﷺ (( حُفَّتِ الجَنَّةّ بالمَكارِه ، و حُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ ))…*(٥).
و قولُ المسيحِ عليه السلامُ : (( إنَّكم لا تُدركُون ما تحبُّونَ إلا بصبرِكم على ما تَكرهُون ))...*(٦).
و ما من زمنٍ نحن فيه أحوجُ إلى الصبرِ على نزلَ بنا مثلُ زمنِ هذا الوباء الذي يَجثُمُ على الصدورِ ، و يخنُقُ الأنفاسَ ، و يَقُضُّ المضاجعَ ، و يَحدُّ من الحرياتِ العامةِ و الخاصةِ .
و إنه لَبَلاءٌ عظيمٌ لا يعالجُه إلا الصبرُ و الدعاءُ الدائم عَقِبَ الصلواتِ أن يَكشِفَ اللَّهُ عن عبادِه ما نَزَلَ بهم .
و هذا باللَّهِ التَّوفيق🌺🌺 و اللّٰه أعلم 🌼🌼
إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼
_________________________________________
(١)*أخرجه مسلم في صحيحه (٢٩٩٩) من حديث صُهيب الرُّوميِّ رضي اللّٰه عنه.
_________________________________________
(٢)*جزء من حديث أخرجه أحمد في مسنده (٢٨٠٣) من حديث عبداللَّه بن عبَّاس رضي اللّٰه عنهما.
________________________________________
(٣)*أخرجه ابن الأعرابيِّ في معجمه (٥٩٢) و ابن شاهين في التَّرغيب في فضائل الأعمال (٢٧٠) من حديث عبداللَّه بن مسعود رضي اللّٰه عنه.
_________________________________
(٤)*جزء من حديث أخرجه البخاريُّ في صحيحه (١٢٨٣) و مسلم في صحيحه (٩٢٦) من حديث أَنَس بن مالك رضي اللّٰه عنه.
________________________________________
(٥)* أخرجه مسلم في صحيحه (٢٨٢٢) من حديث أَنَس بن مالك رضي اللّٰه عنه.
_______________________________________
(٦)* رواه ابن أبي الدُّنيا في(( ذمِّ الدُّنيا )) (٢٨٦) عن فُضيل بن عِياض ، قال : قال عيسى ابن مريم عليه السلام : ((إنَّكم لن تُدرِكُوا ما تُرِيدُون إلَّا بتَركِكُم ما تَشتَهُون ، و لا تَنالُونَ ما تَأمَلُونَ إلَّا بصَبرِكُم على ما تَكرَهُونَ ...)).____________