الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.
حبُّ الجاهِ و السَّيطرةٍِ
من الأمراضِ الاجتماعيَّةِ التي لا يتوقَّفُ العلماءُ و الحُكماءُ منذُ أقدَمِ العصورِ عن التَّحذيرِ منها _مرضُ (( حبِّ الجاهِ و السَّيطرةِ و استغلالهما في تحقيقِ المنافعِ الخاصَّةِ )).
و للإسلام موقفٌ دقيقٌ في بيانِ هذا المرضِ الوخيمِ ؛ الذي لا تتوقَّفُ آثارُه الضارَّةُ على صاحبِها ، و إنَّما تتعدَّاه إلى طبقاتٍ مختلفةٍ من الناسِ ، و موقفُ الإسلامِ في هذه القضيَّةِ هو التشدُّدُ في مراقبةِ صاحبِ الجاهِ و محاسبتِه و كفِّ أذاه عن الناسِ.
و المقصودُ بالجاهِ هنا : هو القوَّةُ المستنِدةُ إلى قُوَّةِ المالِ و السُّلطانِ و تملِكُ التأثيرَ _ إيجابًا و سلبًا _ على سَيرِ المجتمعِ .
و لا يَحتاجُ الإنسانُ إلى عناءٍ في البحثِ عن هَدْي الإسلام في هذا الأمرِ ليعلَمَ أنَّ الإسلامَ لا يُشَجِّعُ على السعي لطلبِ الجاهِ و البحثِ عن سلطانِه ، و لكن يقرِّرُ مع ذلك أنَّ الجاهَ إن سعى إليك فسوفَ يُعينك اللَّهُ عليه ، و إن سعَيت له فسوفَ يَكِلُك اللُّهُ إليه ؛ كما في قوله ﷺ : لعبد الرحمن بن سَمُرة : (( يـا عـبـدَالـرَّحـمـن ، لَا تَـسْـأَلِ الإِمـَارَةَ ؛ فَـإنَّـكَ إِن أُعْـطِـيـتَـهـا عَـنْ مَـسْـألَـةٍ وُكِـلْـتَ إِلَـيْـهَـا ، وإنْ أُعْـطِـيـتَـهَـا عَـنْ غَـيْـرِ مَـسْـألَـةٍ أُعِـنْـتَ عَـلَـيْـهَـا ))…*(١).
و القُرآنُ ينْحو مَحنى تزهيدِ عامَّةِ المؤمنينَ من الجَري وراءَ الجاهِ أو امتلاكِ الإمارةِ ؛ لما يُلازِمُها عادةً من علوٍّ في الأرضِ و فسادٍ في النَّاسِ إلَّا مَن عَصَمه اللَّهُ و حَفِظَه من هذا الوبالِ.
و قد جعلَ اللَّهُ الدارَ الآخرةَ للذين { لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } { القصص :٨٣ } ؛ و انظر كيفَ اقترنَ العُلوُّ في الأرضِ بالفسادِ فيها ؛ و هو ما تتكشَّفُ عنه خلائِقُ الأممِ و الدُّولِ الحديثةِ يومًا بعد يوم ، و تُعاني منه اممٌ و شعوبٌ أخرى أيَّما مُعاناة.
و أروعُ ما تتكشَّفُ عنه الآيةُ الكريمةُ من دروسٍ أخلاقيَّةٍ و اجتماعيَّةٍ هو تحديدُ (( مقياسٍ)) دقيقٍ تُوزَنُ به أقدارُ الناسِ ، و تُقيَّمُ به استقامةُ حياتِهم أو اعوجاجُها ، ذلكم هو ميزانُ : (( التَّقوى )) الذي ذُيِّلَت به الآية و هو قوله تعالى : {وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }.
و من الأخطاءِ التي يقَعُ فيها كثيرونَ ، قَصْرُ معنى (( التَّقوى )) على بابِ العباداتِ فقط دونَ بقيَّةِ الحوانبِ الأخرى : السلوكيةِ و الأخلاقيةِ ، و كأنَّ التَّقِيَّ ، عند كثيرٍ من الناسِ ، هو ذلك الرجلُ - أو المرأةُ - المنكفئُ على عبادتِه ، و المتردِّدُ على المساجدِ ، و المنسحِبُ من المجتمعِ و المستقيلُ من الحياةِ العامَّةِ ؛ و هذا فَهْمٌ خاطئٌ أُصيبَت به الأُمَّةُ مؤخَّرًا و ترسَّخ في عقلِها و وجدانِها حتى باتَت ظِلالُ هذه الكلمةِ تشعُرُ بالاغتراب عن المجتمعِ و العُزْلَةِ بعيدًا عن حركتِه وسَيرِه و ضوضائه.
مع أنَّ كلمةَ (( التقوى )) في تراثِنا مرتبطةٌ أشدَّ الارتباطِ و أوثَقَه بالجانبِ العمليِّ في الحياةِ ، مِن فعلِ الخيرِ و تجنُّبِ الشُّرورِ و الآثامِ و اتِّقائِها ؛ و التَّقِيُّ بهذا المعنى _ لا ريب _ هو رَجُلُ مجتمعٍ صالحٍ قادرٍ على الدَّفعِ بالتَّنمية بكلِّ توجُّهاتِها الاقتصاديَّةِ و الإنسانيةِ ، و يبدو أنَّ الذي حملَ بعضَ المعاصرينَ على استبعادِ كلمةِ (( التقوى )) من قاموسِ المصطلحاتِ الاجتماعيةِ هو مضمونُها الدِّينيُّ الذي تعرَّض منذُ بدايةِ القرنِ الماضي إلى شيءٍ من التشكيكِ في قيمتِه العمليةِ و التداوليةِ ؛ أدَّى إلى زَحزحتِه و إحلالِ مصطلحاتٍ أخرى محلَّه ، مثل اشتراكي و قومي ورأسمالى و شُيوعي و نَهضوي و محافظ و اصلاحي وما إليها من مصطلحاتٍ أخرى وافدةٍ لا تُعيرُ التفاتًا لخطَرِ العُلوِّ في الأرضِ و لا للفسادِ فيها من قريبٍ أو بعيدٍ .
و كيف (( و العُلوُّ في الأرض )) هو الذي جاءَ بهؤلاءِ المتزعِّمينَ للثَّقافة المغشوشة التي تعادي كلَّ أصيلٍ في هذه الأمَّة ، و أيضا الدُّعاةِ الجدُدِ بدعواتِهم التي انتهَت بنا إلى ما نحنُ فيه الآن.
إنَّ الإسلامَ - و الأديانَ الإلهيةَ كلّها - لا يُقيم وَزْنًا ، في تقييمِ الإنسانِ لوجاهةِ الشكل و لا وسامةِ الصورةِ ، و لا طول الأجسامِ أو عرضِها ، و ما كان لهذا الدِّينِ ، و لا للأديانِ السابقةِ عليه ، أن يُفاضِلَ بين الناسِ بأعراضٍ لا يملكونها ، و أوصافٍ لا يستطيعونَ صنعَها و لا تغييرَها ، أو يعلِّقَ نُظمَ الحياةِ الاجتماعيةِ و المعيشيةِ على الوجاهةِ أو الثراءِ أو القوةِ الغاشمةِ ، فكلُّ هذه العناصرِ لا وزنَ لها في تقييمِ قدراتِ الإنسانِ العلميةِ و العمليةِ ، و لا هي بشيءٍ في التعرفِ على هذه القدراتِ ، و العمل النافعِ وحدَه هو فَرقُ ما بين الإنسانِ العظيمِ و الإنسانِ الآخرِ ؛ (( إِنَّ الـلَّـهَ لَا يـنـظـرُ إلـى صُـوَرِكُـمْ وَأمْـوالِـكُـمْ ، ولـكـنْ يـنـظـرُ إلـى قـلـوبِـكـم وأعـمـالِـكـم )) …*(٢).
و من بداهةِ القولِ أنَّ الأديانَ السماويةَ وقفت إلى جوارِ الشرفاءِ ، سواءٌ كانوا من طبقة الأغنياءِ ، أو من طبقةِ الفقراءِ ، و أنَّ هذا الموقفَ أثمرَ ثمرتَه الكريمةَ في إنصافِ الفقيرِ الملتزمِ بمنظومةِ القِيَم الإنسانيةِ و مكارمِ أخلاقِها.
و لعلك أخي العزيز القارئ/ ة ؛ تتفقونَ معي في أن موازينَ تقييمِ الإنسان و الإنسانيةِ في مجتمعاتِنا اليومَ قدِ اختلَّت واضطربت اضطرابًا شديدًا ، إن لم تكن قد تراجَعَت أمامَ سطوةِ قيمٍ أخرى ماديَّةٍ ، قوامُها الشهرةُ و المالُ و الأضواءُ ، حتي أصبحَ من المشروعِ و المعتادِ أن تتعامِلَ مجتمعاتنا بالدرهمِ و الدينارِ في مجالِ التعاملِ بالقيم والأخلاقِ ، و لا علاجَ لهذه الظاهرةِ الغريبةِ علينا إلَّا بتكاتفِ العلماءِ و المفكرينَ و السياسيينَ من أجل وضعِ تصوُّرٍ لصياغةِ مجتمعاتِنا الحديثةِ صياغةً جديدةً تجمعُ بين ضرورةِ التقيُّدِ بقيم التراثِ الأصيلةِ ، و الجديةِ في اقتباسِ العلومِ الحديثةِ و امتلاكِ مناهجِها و تطبيقِها.
و إذا كنَّا نؤمن إيمانًا عميقًا بالقول الشريفِ : (( اسْـتَـعِـنْ بـالـلَّـهِ وَلَا تَـعْـجِـزْ )) …*(٣) ؛ و بالحكمةِ القائلة : (( لا يـأسَ مـع الـحـيـاة و لا حـيـاةَ مـع الـيـأس )) فإنَّا نقول : آن الأوانُ أن تبدأ أمتنا العربيَّةُ و الإسلاميةُ في البحث عن خطةٍ تجتمعُ عليها القلوبُ قبل الأبدان ، تلتقي و تتصارَح و تتكاشفُ ، و تبحثُ عن العلاجِ الحاسم لعِلَلِنا و أمراضنا اللامعقولة و اللامقبولة أيضًا.
هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼 باللَّهِ التَّوفيق🌺🌺 .
إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين.
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼
_______________________________________
*(١) أخرجه البخاريُّ في (( صحيحه ))(٦٦٢٢) ومسلم في (( صحيحه ))(١٦٥٢) من حديث عبدالرَّحمن بن سَمُرة -رضي اللّٰه عنه-.
______________________________________
*(٢) أخرجه مسلم في (( صحيحه ))(٢٥٦٤) من حديث أبي هريرة -رضي اللّٰه عنه-
______________________________________
*(٣) جزء من حديث أخرجه مسلم في (( صحيحه ))(٢٦٦٤) من حديث أبي هريرة -رضي اللّٰه عنه-.
________________________________
هناك 7 تعليقات:
بارك الله فيكم أخي على هذه المواضيع القيمة والشيِّقة والمفيدة والمميزة.
زادكم الله علما وفقها وثقافة أخي الكريم.
*راضية بديني*
ممتاز ما شاء الله عليك بجد ربنا يجعله في ميزان حسناتك🌹🌹
احسنت
رائع
الديمقراطية هي الحل
احسنت
أحسنت وجعل الله جهدك فى ميزان حسناتك.
إرسال تعليق