الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.
مِمَّا أُصيبَت به مجتمعاتُنا في العَقْدِ الأخير صناعةُ الجدال ، وادِّعاء المعرفة بلا سقف ، و القُدرةُ على التحدُّث في موضوعاتٍ بالغة التعقيد متنوعةِ المجالِ ؛ حديثَ الخبيرِ الذي يعرف الأكَمَةَ و ما وراءَها ، ويُدلي بأعاجيبَ من القولِ و أفانينَ من التَّحليلات لا يستندُ معظمُها إلى أيِّ أساسٍ ممنهجٍ من عِلمٍ أو دراسةٍ مُتخصِّصَةٍ ، و قد تولَّدتِ عن هذه الجائحةِ جائحةٌ أكبر تمثَّلت في الجرأة على حُرْمَةِ التخصُّص العلمي ، ومكانةِ العلماء المتخصِّصين مِمَّن أفنوا زَهرات أعمارِهم و سَكبوا ماء عيونهم في الدِّراسَةِ و التعلُّم و البَحْث.
و أصبحَ الجميعُ يعرِفُ كلَّ شئ عن أي شيءٍ ، و قد أصابَ التخصُّصَ في العلم الإسلامي : عقيدةً و شريعةً و أدبًا و لغةً و ثقافةً ، شيءٌ غير قليل مِمَّا تموج به السَّاحةُ من هذا الجدَل المنفَلِت من ضوابطِ المعرفةِ و الحوارِ العلميِّ و الثَّقافي.
و يُسَوِّغُ هؤلاء المجادلون هجومَهم هذا ، بأباطيلَ زعمُوا فيها أنَّ الإسلام ليسَت عِلْمًا بالمعني الذي تتمتِّعُ به العُلومُ المعاصِرةُ من تخصُّصٍ دقيقٍ و دراسةٍ ممنهجةٍ ، و من ثمَّ يجب أن تُفتحَ الأبوابُ على مصاريعِها لكلِّ مَن هبِّ ودبَّ مِمَّن زعموا لنا أن مهمةَ إصلاحِ الإسلام و المسلمين تقعُ على عواتقِهم وحدَهم دونَ غيرِهم ، من المتخصِّصينَ في العِلم الإسلامىِّ.
و لقَد أشارَ القُرآنُ الكريمُ _ أعزائي_ إلى أشباهٍ لهؤلاءِ المجادلينَ في أوئِلِ سورةِ الحَجِّ ، و ذكَّرهم أوَّلًا في الآيتَينِ الثالثةِ و الرابعةِ ، ثم أعادَ ذكرَهم في الآيتين السَّابعة والثَّامنة .
وفي الآيتينِ الأولَيينِ ترتسِمُ معالمُ هؤلاءِ المجادِلين في صورة طائفة من جُهلاءِ النَّاس يُجادلون في (( اللَّه )) دون سابقِ علمٍ ، تَدمَغُهمُ الآيةُ الكريمةُ بالجهلِ و اتِّباعِ أخبثِ فصائلِ الشَّياطينِ و هم المردَةُ ، و أنَّ اللَّهَ كتبَ على مَن يتَّبِعهم من الناس سوءَ المصير : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ (٤)}{ الحج : ٣_٤} ، ثم تكتمِلُ الصورةُ في الآيتَين : الثَّامنة و التَّاسعة فيظَهرُ هؤلاءِ في صورةِ جُهلاء يجادلونَ في اللَّهِ دونَ رجوعٍ إلى علمٍ ولا استدلالٍ و لا كتابٍ يضيءُ لهم بدلالاتِ العَقلِ و النقَّلِ طريقَ ما يجادلونَ فيه ، وذكرَ في وصفِهم أنَّهم أهلُ كِبرٍ ، يُميلون أعطافَهم إعْرَاضًا و تكَبُّرًا ، و أهلُ ضلالٍ و إضلالٍ للنَّاس عن طريقِ الحَقِّ ، و نصيبُهم في الدنيا خِزْيٌ و هَوَانٌ من كثرة ما يذمهم النَّاس و يتأفَّفُون من ضلالهم ، إمَّا في الآخِرة فنصيبهم عذاب الحريق قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٨) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۖ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (٩) }{ الحج : ٨_٩}.
و الجَدلُ
هو : حوارٌ بين اثنين حولَ مسألةٍ واحدةٍ قابلةٍ للبَحثِ ، يُحاولُ كلٌّ منهما أن يصِلَ إلى حقيقةِ الأمرِ فيها عبر استخدامِ الحُجَجِ و البراهين ، و هو منهجٌ من مناهج البَحثِ العِلميّ التي تُفيد اليقينَ المسلمين ، وهو عِلمٌ إسلاميٌّ ، ابتكره المسلمون ولم يُعرف لغيرهم ، و له قواعِدُ و مسائلُ و قضايا وشروط و آداب إذا التُزمت كان جدلًا حسنًا مطلوبًا ، و إن أُهمِلت كان جدلًا مذمومًا.
ومن هنا انقسم الجدل في القرآن الكريم إلى جدل حسن ، كما في قوله تعالى : { ۞وَلَا تُجَٰدِلُوٓا۟ أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ }{ الـعـنـكـبـوت : ٤٦ } ،و قولـه : { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ }{ الـنحـل : ١٢٥ } ، و جدل مذموم كما في الآيات السابقة من سورة الحج و غيرها كثير.
و يُستعمَل الجِدالُ كثيرًا بمعنى الجدلِ المَذموم ، و يرادِفُه المراءُ ، و قد وردَت في ذمِّه أحاديثُ كثيرةٌ منها قوله ﷺ : (( مـا ضَـلَّ قـومٌ بـعـدَ هُـدًى كـانـوا عليهِ إلَّا أُوتُـوا الــجَـدَلَ ))…*(١) ؛ ثم تلا قوله تعالى : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًۢا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ }{ الـزخـرف }.
و منها : ما ورد في الحثِّ عن الابتعادِ عن الجَدل بغيرِ عِلمٍ ، مثل ما روي عنه ﷺ من قوله : (( أنـا زعـيـمٌ بـبــيـتٍ ربَـضِ الـجـنَّـةِ لِـمَـن تَـرَكَ الـمِـراءَ و إن كـان مُـحِـقًّـا ))…*(٢) ؛ و ذلك العواقبِ الوخيمةِ التي تترتبُ على هذا النوع من الحِوارِ ، و التي تتمثَّل في صورة الغَضبِ أو اللُّجوءِ إلى الكذبِ حتي يغلِبَ صاحبَه ، أو ادعاءِ العِلم وذمِّ الخَصمِ ، و كلُّها عاهاتٌ خُلقُيَّةٌ مُهْلِكَة لكل من المتجادَليْن أو المتجادِليْن حول موضوع واحد.
عزيزي /تى القارئ !
مِما يتصل بموضوع انتشارِ الجدَل بغير علمٍ و لا ضوابطَ ، هذه الثِّقةُ في المعلوماتِ التي تُنْشر على الشَّبكاتِ العنكبوتيةِ ، و التعامُلُ معها كأخبارٍ و معلوماتٍ تتمتَّعُ بالصِّدقِ و يُعتمد عليها في الحوارِ الجادِّ ، بل وفي بناء مواقفَ علميَّة و خصومات شخصية.
و قد أصبحَ من السَّهل المعتادِ أن يُخبِرَك شخصٌ بنقدٍ لاذِعٍ لبعض الناس ، وحين تُنكر عليه يبادرُك بحجَّتِه التي لا يرتابُ في صدقها و يقول لك : _ مكتوبٌ على النَّت أو الفيس أو غيرهما.
و ذكر نبيَّ الإسلامِ صلواتُ اللَّه و سلامه عليه نبَّه قبل خمسة عشر قرنًا من الزمان إلى كذب مَن يتحدَّث اعتمادًا على ما يسمعه دونَ تدقيقٍ أو تمحيصٍ ، و أن ذلكَ يكفي في أن يُوصم برذيلةِ الكَذبِ ، و يُسمَّى كذابًا ، ويكون عندَ اللَّهِ آثمًا .
هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼 باللَّهِ التَّوفيق🌺🌺 .
إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين.
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼
_____________________________________
يقول ﷺ : (( كَـفَـى بـالـمَـرْءِ كَـذِبًـا _ و في رواية : كـفـى بـالـمَـرْءِ إِثْـمًـا _ أنْ يُـحَـدِّثَ بـكُـلِّ مـا سَـمِـعَ ))…*(٣) و احذر أن تتحدث بكل ما تسمع حتي لا تُكتب عنداللَّه كذابًا آثمًا .
*(١) أخرجه التِّرمذيُّ في (جامعه)(٣٢٥٣) و ابن ماجه في (سننه)(٤٨) من حديث أبي أمامة الباهِليِّ رضي اللّٰه عنه ؛ و قال التَّرمذيُّ ( حديث حسن صحيح).
_________________________________________*(٢) جزء من حديث أخرجه أبو داود في (سننه)(٤٨٠٠) من حديث أبي أُمامة الباهِليِّ رضي اللّٰه عنه ؛ و معني رَبَضِ الجَنَّةِ : ما حَولَها خارِجًا عنها ، تَشْبيهًا بالأبْنِيَة التِي تَكُونُ حولَ المُدُنِ و تحت القِلاع ؛ انظر : (النهاية في غريب الحديث والأثر ) ١٨٥/٢.
________________________________
*(٣) أخرجه مسلم في(صحيحه)(المقدمة) : ٨/١ ، من حديث أبي هريرة رضي اللّٰه عنه.
_________
هناك 6 تعليقات:
فعلا .. موضوع مناسب لزمن السوشيال ميديا
جزاكم الله خير عن الإسلام أخي فارس..فعلاً عاهة أصيب بها أهل زمننا ألا وهي الجدال بلا علم ولاثقافة..أصبح الكثير يدّعي المعرفة والعلم وهم أجهل الجهال..هذه بادرة رائعة منكم للتصدي لهذه المصيبة.
نشكركم جزيل الشكر،وكثَّر الله من أمثالكم اخي الكريم.
"راضية بديني"
موضوع جميل فعلا وياريت الناس اللي بتجادل على الفاضي تقرأه وتفهمه
ما شاء الله عليك احسنت 🌹وجزاك الله كل الخير 🌹🌹🌹
احسنت
احسنت
إرسال تعليق