المتابعون

الاثنين، 24 يوليو 2023

Scourge and affliction البلاءُ و الابتلاءُِ ١


 

نتابعُ ما بدأَناه من موضوع سابق منذ شهر رمضان المبارك عن البَلاءِ وقد عرفنا فيه إنَّ الثَّرِيَّ أو الغنيَّ مُطالَبٌ بالشُّكرِ. 

 لمتابعة المقال السابق 👈 البلاءُ و الابتلاءُِ 👉

إنَّ شكرَ كلِّ نعمةٍ إنما يكون من جنسِها ، و عليه فلا يَصِحُّ أن يكونَ الشُّكرُ على النِّعمةِ بالكَلامِ ، كأن نكرِّرُ عبارة :( الحمدللَّه ) أو ( نشكرك يارب ) أو ( الشكر للَّه ) ، و ذلك أن الكلام ليس من جنس النعمة ، فلا يكون شكرًا عليها حتى لو تكرَّر الشكر ( الكلامي ) مئات المرات.

أمَّا الشُّكرُ الحقيقيُّ الذي هو واجِبٌ في مجال النعمة ، فهو أن يُخرِجَ الشاكر بعضًا مما يمتلك ، سواء كان المملوك مالًا أو منفعة من المنافع، فمثلًا الأطباء الذين وفقهم اللَّه في مهنتهم ، و جنوا منها أرباحًا طائلة لا يكون الشُّكرُ في حقِّهم باللِّسان أو ببذل المالِ فحَسب ، بل بتقديم الخدمة الطبية ، و العلاج مجانًا للمرضي من الفقراء و المحتاجين.

و لو أنَّ كل إنسانٍ أعطاهُ اللَّهُ نعمةً عاد على غيره بشئ ، ولو يسيرًا ، من هذه النعمة إذن لتحقق التكافل الاجتماعي ، و لتحققت معه كل مقومات الأمن  الاجتماعي و الاقتصادي .

و ها هنا نقطة قد تخفى على كثيرين ، و هي الاعتقاد بأن (( البلاء )) إنما يكون بالمصائب و.الشدائد كالفقر و ضيق الرزق أو المرض أو فَقْدِ عزيز و غير ذلك ، و أن النعمة و التنعم و سعة الرزق و بحبوحة العيش ليست ابتلاءً من اللَّه للعبد ، و الحقيقة غير ذلك .

فالنعمة و البؤس ، و الصحة و المرض ، و كل من هذه الثنائيات هو ابتلاء من اللَّه للعباد ؛ استمع لقوله تعالى :{ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥)}{ الفجر : ١٥} ؛ ثم استمع للآية التي تليها { وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ }{ الفجر : ١٦} ، لنعلم أن اللَّه تعالى كما يَبْتلي بالفقر كذلك يَبْتلي بالغِنَى سواء بسواء ، و أن الإنسان معرَّض الابتلاء بأي منها ؛ و يؤيد ذلك قوله ﷺ : (( عَجَبًا لِأَمْرِ الْمؤمنِ إنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ ، فَكانَ خَيْرًا لَهُ ))…(١).

و هنا ينشأ سؤال عن استحقاق الغنيِّ الشاكر للثواب مثل الفقير الصابر ، فقد نعلم أن الثواب مرتبط بالمشقة ، أو هو على قدر المشقة ، كما يُقال ، و أن من المنطقي و من المعقول أن يعوِّض اللَّه هذا الفقير الصابر بنعيم يوم القيامة يُنسيه ما مرَّ من بؤس و فقر في حياته الدنيا ، فكيف يمكن فَهْمُ ذلك في مثال الغنيِّ الشاكر !؟ ؛ و أين هذه المشقة التي يعانيها هذا الغنيَّ ، و هو يتقلب في كثرة المال وسعة الرزق و بحبوحة العيش ؟! حتى يعوَّض بالثواب يوم القيامة !!

و قبل أن نجيب على هذا التساؤل نودُّ أن نلفت الأنظار إلى خطأ (( شائع)) في تفسير معنى (( الشكر)) و حصره في مفهوم واحد ، هو : ترديد ألفاظ الحمد و الشكر و الثناء على اللَّه باللسان ، و ليس أمرًا آخر وراء ذلك ، و هذا التفسير وأن كام صحيحًا في حالة : الفقير الصابر ، إذ ليس في مقدوره إلا الشكر باللسان ، و غير أن الأمر ليس كذلك في حالة الغنيِّ الشاكر ؛ لأن شكر هذا الغنيِّ لا تغني فيه ألفاظ الحمد و الثناء على اللَّه تعالى ، و إنما يغني فيه الشكر الذي هو من جنس ما أنعم اللَّه به عليه ، و معنى ذلك أن شكر الغني هو : بذل المال و إنفاقه على المحتاجين و الفقراء من ذوي القُربى و اليتامى و المساكين وابن السبيل وغيرهم ممن ذكرهم القرآن الكريم ، وذكِّر بهم مواضع كثيرة ، فضلًا عن أحاديث نبوية يصعب حصرها في هذا المقام .

و إذا أخذنا في الاعتبار أن الإنسان _ غنيًّا أو فقيرًا _ فطره اللَّه تعالى على محبَّة المال ، و إمساكه و الضَّنَّ به على الغير و على النفس أيضًا ، أدركنا أن شكر الغَنِيِّ فيه (( معاناة )) من نوع آخر غير معاناة الفقير ، إنها معاناة التغلب على النوازع النفسية ، والسِّبْح ضد رغبات النفس و شهواتها ، و ما جُبلت عليه من إمساك و تقتير و شح ؛ و قد أشار القرآن الكريم إلى هذا الأمر في أكثر من موضع فقال : { وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ۚ }{ النساء : ١٢٨ } ، أي : خُلِقَت النفوس على الشح ، و الشحُّ هو : شدَّة البخل ، و معني (( أُحْضِرَتِ )) : خُلِق فيها هذا الطبع : خلقه اللَّه تعالى ورَكَزَه في فطرتها ؛ و هنا يتبيَّن بوضوح أن بَدْل الغَنِي ماله لغيره و إنفاقه فيما لا يعود عليه بمنفعة ناجزة و حاضرة فيه معاناة و صبرٌ و مشقَّةٌ قد تفوق مشقَّة الفقير و صَبْرَه على فقره ؛ يدلُّنا على ذلك قوله تعالى : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُو۟لَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }{ الحشر : ٩} ، و قوله تعالى : { وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ ۗ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }{ التغابن : ١٦ } ، و واضح أن مدار (( الفلاح )) في الآيتين الكريمتين إنما هو على فعالية النفس و الانتصار عليها ، وفي ذلك من المشقة ما فيه ، بل نقول : إن معاناة الشكر العملي لدى الغنيِّ الشاكر هي نفسها معاناة الصبر عند الفقير الصابر ، بل نذهب إلى أبعد من ذلك ونقول : إن معاناة الفقير الصابر قد تكون أهون من معاناة الغنيِّ الشاكر ، وليست هذه مبالغة متخيَّلة لتصوير مشقة الشكر عند الغنيِّ و إنما هو واقع عبَّر عنه الصحابيُّ الجليل عبدالرحمن بن عوف _ رضي اللّٰه عنه _ في قوله ((ابتُلِينا مع رَسولِ اللَّهِ ﷺ بالضَّرَّاءِ فَصَبَرْنا ، ثمَّ ابتُلِينا بالسَّرَّاءِ بعده فلم نَصبِر ))…*(٢) ، و معنى الحديث فيما يقول الشُّرَّاح : (( اخْتُبرنا بالفقر و الشدَّة و العذاب فصبرنا عليه ، فلما جاءتنا الدنيا و السعة و الراحةُ بَطَرْنا )) أي كَفَرْنا النعمة و لم نشكرها.

فلا بد من الألم و التَّألم ؛ لأنَّ التَّكاليفِ هي مناطُ الثَّواب ، فلا ثوابَ بدونِ تكليفٍ إلا الذي يُفيضُه اللَّه سبحانه و تعالى كرمًا على الآخرين ، لكن عادةً ارتبطَ الثَّوابُ بالتَّكاليفِ و أيضًا ارتبطَ العِقابُ بالخروج على التَّكاليف و هي المنهيات.

و لكن هناك تساؤل مهم ؛ و هو : هل هناك علاقة بين الابتلاء و حال العبد من طاعة أو معصية

بمعني أن الابتلاء بنوازل المصائب مؤشر أو دليل على أن هذا المُبتلى رجلٌ سيِّءٌ و رجلٌ غيرُ صالحٍ ، و حقيقة الأمر أن هذا التساؤل غير صحيح ، وأنه لا علاقة بين الابتلاء و بين حال العبد ، و إلَّا فنحن نعلمُ أنَّ (( أشدُّ النَّاسِ بلاءً الأنبياءُ )) …*(٣) ؛ و هذا واضحٌ في سيرتِهم و في تواريخِهم ، و أن عباد اللَّه مُبْتلَوْن ، بل يكون (( البلاء )) على قدر القرب من اللَّه تعالى ، فلو أنَّ البلاءَ بالمصائِبِ دليلٌ على أنُّ المبتلَى رجلٌ شريرٌ ، أو رجلٌ فاسدٌ ، أو فاسقٌ ، أو مغضوبٌ عليه من اللَّه _ سبحانه و تعالى _ لكُنَّا نقول _ والعياذ باللَّه_ إن الأنبياء أحق بهذا الوصف ، لأنهم أهل بلاء ؛ مِمَّا يدلنا دلالة واضحة بأنه لا علاقة بين نزول البلاء و بين الشخص المبتلَى ، و أنه كما يبتلى الطالح يبتلى الصالح أيضًا .

هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼 باللَّهِ التَّوفيق🌺🌺 .

إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين.

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

*(١) أخرجه مسلم في (( صحيحه )) (٢٩٩٩) من حديث صهيب رضي اللّٰه عنه.

________________________________________

*(٢) أخرجه الترمذي في جامعه (٢٤٦٤) ، وانظر في شرح الحديث تحفة الأحوذي ١٦٥/٧.

_________________________________________

*(٣) جزء من حديث أخرجه التِّرمذيُّ في جامعه (٢٣٩٨) وابن ماجه في سننه (٤٠٢٣) من حديث سعد بن أبي وقَّاص رضي اللّٰه عنه ، و قال التِّرمذيُّ : ( حديث حسن صحيح ).

_______________________________



هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

الابتلاء هو مدرسة يوسف الصديق

غير معرف يقول...

"ولئن شكرتم لأزيدنكم "
"ولئن صبرتم لهم خير للصابرين"
أن ابتليت فانظر إلى من هو أشد منك بلاءً..كي يهون عليك بلاءك،فالمؤمن دائماً مبتلى..إن الإبتلاء اختبار لنا وذُروة الإيمان أن نصبر على ما ابتُلينا به، فلاتجزع من قضاء الله وقدره..وليكن كل همك هو النجاح في هذا الإختبار لتنال رضا الله. فإذا ابتلينا بالغنى وبرغد العيش..علينا أن لانبخل على الفقراء والمحتاجين والذين لايجدون ما يسدون به رمقهم..ليحشرنا الله في زمرة المساكين.
"راضية بديني"

تشغيل الأطفال بين الإفراط و التفريط - Children's work

  الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،  السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته. أن الأصل في مرحل...