المتابعون

الجمعة، 23 يونيو 2023

خُـلُـق الـحـيـاء


 


الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

الـحـيـاء 

من الأخلاق الإسلاميِّةِ التي أجمعت الأديانُ السِّماويَّةُ على أهميِّتِها في استقامةِ المجتمعاتِ ؛ خُلُق : (( الحياء )) ، ذلك الخُلُق الذي يبدو الآنَ و كأنَّه آخِذٌ في التآكُل و التَّراجُعِ أمامَ سلوكيَّاتٍ غريبةٍ لا تعبأُ بالقِيَم الدينيِّةِ و لا تَحفِلُ بما فُـطِـرَ عليه النَّاسُ و ما طُبِعَت عليه النُّفوسُ منذُ الأزلِ من خُلُقِ (( الحياء )) و الأدبِ العامِّ ، و تعملُ جاهدةً على تبديلِ خَلقِ اللَّهِ ، حتى شاهَدنا الجُرأةَ على إتيانِ الفواحشِ و الرَّذائلِ باسم  (( الـحُـرِّيَّـة الـشَّـخـصـيَّـة )) ، و أوشكَت حدودُ الـفِـطـرةِ _ و هي من حدود اللَّه تعالى _ أن تندَثِرَ ، و أوشكَت الفوارقُ بين الفضيلةِ و الرَّذيلةِ أن تتلاشي في أذهانِ الكثيرِ و الكثيراتِ من بعضِ النَّاسِ و بعضِ شبابِ و فتياتِ اليوم.

و قد أصبحَ من المعتادِ أن يسأل البعضُ من الشبابِ و الفتياتُ أسئلةً تُقلق إلى حَدٍّ بعيدٍ ، و تُشير إلى اختلاطِ المفاهيمِ في أذهانِهم ، بل تدلُّ على حالةٍ من التِّيهِ كادوا يَفْقِدُون معها الإحساسَ بقيمةِ (( الحياء )) و الخَجل مِمَّا يجِبُ الخجلُ منه .

  1. و قد ساعدَ على انتشارِ هذا التيَّارِ سهولةُ مُشاهدة المواد الإعلاميَّة ، و سهولةُ استدعائِها و الإخلادِ إليها ، و سرعةُ التأثُّرِ بدعواتِها المسمُومةِ ، مع غيابِ ثقافةٍ دينيَّةٍ تربويَّةٍ تنُبعُ مِن أخلاقِ الأديانِ ، و مع ظهورِ تياراتٍ تدعو إلى اغترابِ الناسِ عن واقعِهم و عصرِِهم ، و تعجِزُ عن التَّكيفِ الشَّرعيِّ لِمَا استجدَّ في مجتمعِهم من قضايا و مشكلاتٍ.

عزيزي القارئ!

إنَّ الثَّقافةَ الإسلاميَّةَ ، أو لِنقُل (( التَّربية الإسلاميَّة )) هي تربيةٌ علميَّةٌ ذاتُ أُسُسٍ أخلاقيَّةٍ و حضاريَّةٍ شهد لها التاريخ .

هذه الثقافةُ كادت تتوارى في أروقةِ التَّعليمِ ، و لم يَعُد جيلُ التَّلاميذِ أو الطُّلابِ اليومِ يتعرَّفون عليها فضلًا عن أن يسترشِدوا بها .

و ذلك باستثناءِ التَّعليمِ في الأزهرِ الشَّريفِ و قلة من دور التعليم و محاضر العلم التي تُمَثَّلُ اليومَ المحميَّةَ الأخيرةَ من محميَّاتِ العِلمِ الإسلاميِّ الصَّحيحِ غيرِ الموجَّهِ و غيرِ المُسيَّسِ ، و غيرِ الموظَّفِ لتحقيقِ أغراضٍ بعيدةٍ عن هَدي الإسلامِ المؤسَّسِ على القُرآنِ و السُّنَّةِ ؛ و إذا كان لي من رجاءٍ _ كقراىٍ عربي مسلمِ _ في هذا الموقف _ فهو إلى حضراتِ السادَةٍ الأفاضلِ : وُزراء و حكماءِ التَّربيةِ و التَّعليمِ ، و التَّعليمِ العالي في العالَمين ؛ العَربيِّ و الإسلامي أن يُولوا اهتمامًا خاصًّا بقضيًّةِ التربيةِ الإسلاميِّةِ التي أوشكَت أن تُصبحَ أثرًا بعد عَيْن ، في مدارسِنا و جامعاتِنا ، و أن يُعادَ النَّظَرُ في استبدادِ المناهجِ الحديثةِ بتربية أبنائنا و تشكيلِ سخصيَّاتهم مع ما فيها من مجافاةٍ صريحةٍ للمبادئ و الأخلاقِ التي دَرَجت عليها مجتمعاتُنا الشَّرقيَّةُ ، و مع ما في التربيةِ الدنيية المتأسِّسةِ على القرآن الكريم و الكُتُبِ المقدَّسةِ من ثراءٍ معرفيٍّ ومِن تهذيبٍ للنَّفسِ و تثقيفٍ للعقولِ و تربيةٍ رياضيَّةٍ للأجسام ، و قد شاهدنا و سمعنا في بلادِ ما وراء النَّهرِ مدارسَ نجحَت في تصميمِ مناهجَ رصينةٍ : علميَّةٍ و تربويَّةٍ تجمعُ بين هذه الأبعادِ في تناسُقٍ سَلِسٍ ، و إعدادٍ متميِّزٍ ؛ بغيةَ استعادةِ هُويَّةِ الأوطانِ التي عَدَت عليها عَوادي الاستلابِ الثَّقافيِّ و الحضاريِّ الشَّرس.

إن الحياءَ خُلُقٌ ركَزهُ اللَّهُ في طبائِعِ البشرِ ، و قد عرَّفه العلماءُ بتعربفاتٍ عِدَّة ، يُمكن إيجازُها في القولِ بأنَّه : (( تـغـيُّـرٌ و انـكـسـارٌ يـعـتـري الإنـسـان مـن خـوفِ مـا يُـعـابُ بـه )) و هو تغيُّر نفسيٌّ و جسميٌّ ، يمنعُ من الإتيانِ بأفعالٍ تأباها الطَّبائِعُ البشريَّةُ بفِطرتِها و تَنفِرُ منها 

و الحياءُ من أقوى الأخلاقِ أصالةً و عُمقًا في مَشاعِرِ الإنسانِ ، وآيةُ ذلك ظهورُه في سلوكِ الطِّفلِ في سَنواتِه الأولى ، و شعورُه به قبلَ شعورِه بغريزةِ التَّديُّنِ ، تأمَّل حالَ الطِّفلِ في سنواتِه الأولى : الثالثة أو الرابعة مثلًا تجِده يَـسـتـحـي أن يكشِفَ عورتَه أمامَ النَّاسِ ، و يَمتنِع عـمَّـن يطلُبُ ذلك منه ، و هو إذ يتصرَّفُ هذا التصرُّفَ التِّلقائيَّ في هذه السِّنِّ المبكرة لا يدري ما الدِّينُ و ما الإيمانُ ، مما يدُلُّ على أن الشُّعورَ _بفطرةِ الحياءِ_ في الطفل يَسبِقُ الشُّعورَ _بفطرةِ الدِّينِ_ ، و إدراكَ معنى الأُلوهيَّةِ و النُّبوَّةِ و الحياةِ الآخِرَةِ.

و (( الحياءُ )) شعبةٌ من شُعبِ الإيمان ، كما أخبرَ النبي ﷺ ، و هو من الصِّفات التي اتَّصف بها المولى عزَّ و جلَّ ، كما في جاء الحديث الشريفٌ : (( إِنَّ رَبَّـكُــمْ حَـيِـيٌّ كَـرِيـمٌ ، يَـسْـتَـحِـي مِـنْ عَـبْـدِهِ إِذَا رَفَــعَ يَـدَيْـهِ إِلَـيْـهِ أَنْ يَـرُدَّهُـمَـا صِـفْـرًا ))__*(١).

و (( الحياءُ )) في المرأةِ أشدُّ حُسنًا و أبهى جمالًا ، و قد امتدحَ اللَّهُ به ابنةَ النَّبيِّ شعيب _عليه السلام_ في قوله تعالى : { فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ }{ الـقـصـص : ٢٥ } .

و قد قَرَنَ النبي ﷺ بينَه و بينَ الإيمانِ و قال : (( الـحـيـاءُ و الإيـمـانُ قُـرنـا جـمـيـعًـا ، فـإذا رُفِـعَ أحـدُهـمـا رُفِـعَ الآخَـر ))*(٢).

عزيزي القارئ الكريمٌ! 

مِمَّا يجِبُ ملاحظتُه في موضوعِ (( الحياء )) إزالةُ الـلَّـبْـسِ بين هذا الخُلق الإنسانيِّ الرَّاقي و بين الخَجَلِ و الانطواءِ و الخَوفِ من مواجهةِ الآخرينَ ، و أمراضِ التَّوحُّدِ المعروفةِ ، ف (( الحياءُ )) خُلُقٌ يقاوِمُ انتشارَ السُّلوكِ القَبيحِ ، و يخلُقُ من صاحِبِه إنسانًا متوازنَ الفِكرِ و الشُّعورِ و التَّصرُّفِ ، و صاحبُ (( الحياء )) لا يهابُ النَّاسِ و لا يتحسَّبُ لمحاوراتِهم ، و لا يمنعُه -حياؤه- من التخلُّقِ بخلق الشَّجاعةِ و الإقدامِ ، و مِن أن يكونَ رجلَ مجتمعٍ ، أو سيَّدةَ مجتمعٍ من الطِّرازِ المتميِّزِ ، و قد كانَ سيَّدُ الناسِ محمدٌ ﷺ نبيًّا ورسولًا و قائدَ دولةٍ و صانِعَ حضارةٍ تغنَّى بها التَّاريخُ ، و مع ذلكَ كانَ أشدَّ حياءً من العَذراء في خِدرِها.

أنَّ (( الحياء )) خيرٌ كلُّه ، و هو خُلُقُ الإسلامِ ؛ و الحياءُ مِن الإيمانِ ، و الإيمانُ في الجنَّة ، و البَذَاءُ مِن الجَفَاءِ ، و الجَفَاءُ في النَّارِ ، قال رسولُ اللَّه ﷺ : (( إِنَّ مِـمَّـا أَدْرَك الـنَّـاسُ مِـنْ كَـلَـامِ الـنُّـبُوُّةِ الْأُولَـى : إِذَا لَـمْ تَـسْـتَـح ، فَـاصْـنَـع مَـا شِـئْـتَ ))..*(٣) صدق رسول اللَّهِ ﷺ.

و هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼

إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 

  ‏ ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼


_______________________________________


(١)*_ أخرجه أبو داود في ( سننه ) ( ١٤٨٨ ) و التِّرمذيُّ في ( جامعه )( ٣٥٥٦ ) و ابن ماجه في ( سننه )( ٣٨٦٥ ) من حديث سلمان الفارسيِّ رضي اللّٰه عنه ، و قال التِّرمذيُّ : « حديث حسن غريب »._________________________________

(٢)*_ أخرجه الحاكم في ( مستدركه ) : ٢٢/١ ، و البيهقيُّ في ( شعب الإيمان )( ٧٣٣١ ) من حديث عبداللَّه بن عمر رضي اللّٰه عنهما ، و قال الحاكم : ( حديث صحيح على شرطهما ) ؛ و قد رُوي موقوفًا من قول عبداللَّه بن عمر رضي اللّٰه عنهما- كما في ( الأدب المفرد )( ١٣١٣ ) و غيره.____________________________________

(٣)*_ أخرجه البخاريُّ في ( صحيحه) ( ٦١٢٠ ) من حديث أبي مسعود البد

ريِّ رضي اللّٰه عنهما.


 

هناك 5 تعليقات:

غير معرف يقول...

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

غير معرف يقول...

تسلم ايدك يا استاذ فارس

غير معرف يقول...

من قلَّ حياؤه قل ورعه ومن قلَّ ورعه مات قلبه..من كان الحياء كساؤه لم يرى الناس عيوبه..!!
موضوع رائع وسمين..كلما تعمقت فيه إزددت عطشاً إليه..نشكرك جزيل الشكر..لقد نسي أغلب الناس الحياء وأصبح الذي يستحيي في نظرهم قديم وبدائي ولايمتّ لحاضرنا بشيء...لاحول ولاقوة الا بالله العلي العظيم.
"راضية بديني"

غير معرف يقول...

اذا لم تستحي فافعل ما شئت..
وكأن الحياء حاجز صد بيننا وبين كل فعل خطأ لا يجوز فعله ..

Sarah يقول...

تسلم أستاذنا 👏👏

تشغيل الأطفال بين الإفراط و التفريط - Children's work

  الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،  السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته. أن الأصل في مرحل...