حاجةُ المجتمعات إلى الفقراءِ و البسطاء
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته
يرتبِطُ هذا بموضوعِ (( التواضعَ )) و هو موضوعٌ واسعُ الأطرافِ ، موضوعٌ آخرُ هو منزلَةُ الفقراءِ ، و مدى حاجةِ المُجتمعات إليهِم ، و دَورُهُم التاريخيُّ الكبيرُ في دعمِ الرسالاتِ الإلهيَّةِ و الوقوف إلى جانبِ الأنبياء و المرسلينَ. و التَّاريخُ يُثبتُ أن الفُقَراء كانوا أَذرُع الأنبياء و سواعدَهم القويةَ في نشرِ الدعوةِ إلى اللّٰه تعالى ، و هِدَايةٍ الناس إلى الحقِّ و الخير والجمالِ ؛ كما يُثبتُ أن الترفُّعَ عليهم و الأنفةَ منهم كثيرًا ما مثَّل عقبةً كأْداءَ صدَّتْ المستكبربن ، و أَعمَت أبصارَهم و بصائِرَهُم حتى استحبُّوا الكفرَ على الإيمانِ .
انظر عزيزي القارئ إلى الوجهاءِ مِن قوم نوح _ عليه السلام _ و ما أبدَوهُ مِن عُذرٍ في رَفضِهم و تمرُّدِهم على دَعوته قالوا له : كيف نُصَدِّقُك في دَعوتِك و قد اتَّبعكَ سِفْلَةُ النَّاسِ ، و أراذِلُهُم و خِساسُهم من المساكينِ الذين ليسَ لهم مالُ و لا عِزُّ و لا جاهٌ ، و إنَّا إذا اتَّبعناك صِرنا مثلَهم ، و حُسِبنا عليهم ، ثم كيف نتَّبِعُك و مِنهم من يعملُ في المِهَن المتواضعَةِ في مَنطِق الاعراف و التَّقاليدِ ، و كان ردُّهُ عليه السَّلام : إني لا أعلَم حِرفَتَهم و لا أعمالَهُم ، و لم أُكَلَّف بذلك ، و إنَّما كلَّفني ربِّي أن أدعوَهم إليه و قد أجابوني ، و ما حِسابهُم و حِسابي إلَّا على الذي خلقني و خلقَهم ، و إنكم لو عَلِمتُم ما قلتُه لكم حقَّ العلم ما عبتُم عليهم حِرَفَهم و صنائعَهم ، ثم يَحسِمُ نوحٌ عليه السلامُ حِوارَه مع هؤلاءِ المتكبِّرين بإعلانِ أنه لا يستطيعُ طَرْدَ هؤلاءِ الذين تأنفون من مخالطتِهم فما أنا إلا نذيرٌ يحذِّرُ من معصية اللَّه و يدعُو إلى طاعتِه ، و انتهى حوارُهم معه بتوعدِه بالرجمِ إن هو أصرَّ على موقفِه هذا ولم يتراجع عنه : { كَذَّبَتۡ قَوۡمُ نُوحٍ ٱلۡمُرۡسَلِينَ (١٠٥) إِذۡ قَالَ لَهُمۡ أَخُوهُمۡ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمۡ رَسُولٌ أَمِينٞ (١٠٧) فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَمَآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (١٠٩) فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) ۞قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلۡأَرۡذَلُونَ (١١١) قَالَ وَمَا عِلۡمِي بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (١١٢) إِنۡ حِسَابُهُمۡ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّيۖ لَوۡ تَشۡعُرُونَ (١١٣) وَمَآ أَنَا۠ بِطَارِدِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ( ١١٤) إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ مُّبِينٞ (١١٥) قَالُواْ لَئِن لَّمۡ تَنتَهِ يَٰنُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمَرۡجُومِينَ (١١٦) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوۡمِي كَذَّبُونِ ( ١١٧) }{ الشعراء : ١٠٥ _ ١١٧ }.
و قد واجَه نبي الإسلام _ صلواتُ اللَّهِ و سلامُه عليه _ نفسَ الموقفِ مع كفَّار قريش ، و تعاملوا معه بالمعاملةِ ذاتِها ؛ فكانوا يتأفَّفون من الجلوس مع صحابةِ رسولِ اللَّهِ ﷺ ، و كان أكثرُ صحابتِه _ كما نعلمُ _ من الفقراءِ و الفقيراتِ ، و قد سألَه أعيانُ قريش أن يطُردَ من مجلسِه هؤلاءِ العبيدَ و البائسينَ ؛ و منهم : سلمانُ و خبَّابٌ و بلالٌ و عمَّارٌ و غيرهم من ضعفاء المسلمين ، و كان بعض هؤلاءِ يلبسونَ جِبابَ الصوفِ ، و تفوحُ من أثوابِهم رائحةُ العَرَقِ ، فقالُوا له عليه الصَّلاةُ و السَّلامُ : (( لو طرَدْتَ عنَّا هؤلاءِ الأعبُدَ ، أي : العبيدَ و أرحْتَنا من روائحِ جِبابِهم لجلسنا إليكَ و حادثناكَ ))__ أخرجه الطَّبريُّ في جامع البيان ٢٤٠/١٥ ، من حديث سلمان الفارسيِّ رضي اللّٰه عنه.
و قال آخرون : (( لو نَحَّيْتَ هؤلاء عنك حتَّى نَخْلُوَ بك ، فإنَّ و فودَ العرب تأتيك فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد ، ثم إذا انصرفنا فإن شئت فأعدهم إلى مجلسك )) و همَّ النبي ﷺ أن يجيبهم لطلبهم طمعََا في إسلامهم ، فنزلَ قوله تعالى : { وَلَا تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ }{ الأنعام : ٥٢ } و هذه الآية نهيٌ صريحٌ للنبي ﷺ عن إجابة المشركين لطلبِهم ، و فيها تحذير منَ الوقوع في الظلم إن هو فعلَ ذلك ، و فيها تذكير بأن هؤلاء العبيد يدعون ربهم صباحًا و مساءًا و يعبدونه طلبًا لوجهه الكريم ، و ليس لشيء آخر من أغراض الدنيا ؛ و أنت - أيها النبي - لست مسؤولًا عنهم و لا هم مسؤولون عنك .
و في السياق نفسه نقرأ توجيهًا مشابهًا تمام المشابهة من توجيهات اللَّه تعالى لنبيه في الموضوع ذاته و هو قوله سبحانه { وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُۥ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمْرُهُۥ فُرُطًا }{ الـكـهــف : ٢٨ } .
و في هذه الآية _ أيضًا _ أمرٌ صريحٌ للنبي ﷺ بأن يَحبِسَ نفسَه مع هؤلاء الذين يعبدونَ ربَّهم بالغداةِ و العشي ، يريدونَ بعبادتِهم و جهَه تعالى لا شيئًا آخر من متاعِ الدنيا ، و أن يَصبِرَ على هذا ، و ألَّا تتحوَّلَ عيناه عنهم إلى غيرِهم ، و يترك مجالسَهم إلى مجالسِ أصحاب الجاهِ و المالِ من أبناءِ الدنيا الذاهلين عن الآخرةِ ، و ألا يتَّبعَ أهواء الغافلين عن ذِكرِ الله ممن اتبعُوا أهواءَهم و أسرفوا في ضلالِهم.
إن الدرسَ الذي ينبغي أن نُفيدَه من هذه الجولةِ السريعةِ مع كتابِ اللّٰه و توجيهاتِه لنبيَّه ﷺ هو أنه لا يصحُّ أن نُقيِّمَ الناسَ على أساسٍ من أشكالهم و مظاهرِهم و إمكاناتِهم الماديةِ ، فكلُّ هذه شكلياتٌ لا دخلَ لها في التعرُّفِ على قدر الإنسانِ لا من قريب و لا من بعيد ، و أن المعيارَ الوحيدَ الذي يُكرم به المرءُ أو يُـهان هو : العملُ الصالح ، و أنَّ قيمةَ الإنسانِ معلَّقةٌ بفائدتِه و أثرِه الطيب في نفسِه و فيمَن حوله ، و هؤلاء الذين يُنظر إليهم و كأنَّهم من الدرجةِ الثانية هم أصحابُ فضلٍ قديمٍ على البشرية جمعاءَ ، و يكفيهم شرفًا أنهم كانوا جنودَ الأنبياء و المرسلين في رسالاتِهم التي أنقدتِ البشريةَ من الضلالِ و أخرجتْها من الظلمات إلى النورِ .
و أختمُ موضوعي بهذه القصةٍ المختصرةٍ ؛ و هي ماترويه كتبُ الحديث و السيرة و التاريخ من أن النبي ﷺ أرسل إلى هرقلَ عظيم الرومِ رسالةً يدعوه فيها إلى الإسلام ، و كان هرقل بالشام حين و صلته الرسالة ، و اتَّفَـق أنْ كان (( أبو سفيان )) على رأس قافلةٍ تجارية بالشَّامِ أيضاً ، فدعاه هرقل و دعا معه مجموعة من كبار قريشٍ و أجلسهُ أمامه ، و أجلس جماعته عند ظهره ثم قال لترجمانه قل لهم إني سائل هذا الرجل عن هذا النبي و قال لهم : فإن كَذَبَنِي ( أي : كذَب عليَّ ) فكَذَّبوه .. وبدأ الملك يسأل أبا سفيانَ عن النبي ﷺ و أبو سفيان يُجيبُ ، و كان من أسئلة الملك لأبي سفيان : فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم !؟ فأجاب أبو سفيان : بل ضعفاؤُهم ، فقال الملك : و هكذا أتباع الرسلِ .
ثم قال لأبي سفيان : (( لئن كان ما تقوله حقًّا فهو نبيٌّ .. و سيملك موضع قدميَّ هاتين )) _ أخرجة البخاريُّ في صحيحه ( ٧ ) ؛ و مسلم في _صحيحه_( ١٧٧٣ ) ؛ من حديث أبي سفيان صخر بن حرب رضي اللّٰه عنه.
و يقصد هنا هرقل أرضَ الشَّام ، و لم تمضِ سنواتٌ قلائلُ حتى دخلَ الإسلامُ الشَّامَ ؛ و صدقَت فراسةُ الملكِ هرقل .
هذا و باللَّه التوفيق
و اللّٰه أعلم 🌺🌺
إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼
هناك 5 تعليقات:
احسنت
احسنت النشر مشكور علي المجهود الكبير
"ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض "
اللهم صل على البشير النذير
ما شاء الله تبارك الله
أحسنت وصدقت
إرسال تعليق