الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته
هيا بنا نستكمل حديثنا عن فضيلة التواضعَ ولمتابعة الجزء الاول من الموضوع إضغط هنا👈التواضُع
هناك في شريعتِنا الإسلامية _ كما في شرائع الأديانِ كلها ، و بخاصَّةٍ في موعظة سيدنا عيسى على الجبلٍ _ أحاديثُ كثيرةٌ تدور كلُّها حولَ معنى قولة تعالى { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } ، و الدعوة إلى وجوب احترامِ الناس ، و هو قولُه ﷺ: (( أَلاَ أُخْبرُكُمْ بأَهل الجَنَّةِ ؟ قالو: بَلَى ، قالَ : كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ ، لو أقْسَمَ علَى اللًَهِ لَأَبَرَّه ، ألا أُخْبِرُكُمْ بأهلِ النارِ ؟ قالوا : بلي، قالَ : كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبرٍ )) _ متفق عليه ؛ أخرجه البخاريُّ في صحيحة( ٤٩١٨ ) و مسلم في صحيحه ( ٢٨٥٣ ) من حديث_ حارثة بن وهب الخُزاعيِّ رضي اللّٰه عنه _.
و الضعيف المتضعِّفُ هو ما يَستضعِفُه الناس ، أو هو رقيقُ القلبِ لَيِّنُ العريكةِ ، و لكنَّه لو حَلَفَ يمينًا طمعًا في كرم الله بإبرارِه لأَبَرَّه ، و هو كنايةٌ عن أنَّه مُستجابُ الدعوةِ ، أما العُتلُّ : فهو الغليظُ الجافي، الشديدُ الخصومةِ ، و الجوَّاظُ : فيما يقول شُرَّاحُ الحديث هو : الجَموعُ المنوعُ ، أي : الذي يَجمعُ المالَ ، و يمنعُه عن مُستحقِّيه ، ثم يَمشي مُختالًا بين الناسِ ؛ و المرادٌ بأهل الجنةِ في الحديثِ أنَّ أغلبَهم من القسم الأول ، كما أنَّ المرادَ بأهل النارِ أغلبهم منَ القِسمِ الثاني.
و يَرِد في هذا المعني دعاؤه ﷺ : (( اللَّهمَّ أحْيِني مِسكينًا و أَمِتْني مِسكينًا ، و احْشُرْني في زُمرةِ المساكينِ )) أخرجه الترمذي في جامعه ( ٢٣٥٢ ) من حديث أنس بن مالك رضي اللّٰه عنه ، و قال ( حديث غريب ) و أخرجه ابن ماجه في سننه ( ٤١٢٦ ) من حديث_ أبي سعيد الخدري_ رضي اللّٰه عنه.
و قولة ﷺ (( إنَّ اللَّه أوحى إلَيَّ أنْ تواضَعُوا حتَّى لا يَبغِيَ أحَدٌ على أحَدً ، و لا يفخَرَ أحَدٌ على أحَدٍ )) _ أخرجه مسلم في صحيحه ( ٢٨٦٥ ) من حديث _مطرِّف بن عبداللّٰه بن الشِّخِّير_ رضي اللّٰه عنه.
و أيضًا : (( مَا تواضَع أَحَدٌ للَّهِ إلَّا رَفَعه )) _ أخرجه مسلم في صحيحه ( ٢٥٨٨ ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
و قد خيِّر اللَّه تعالى نبيه بين أن يكون نبيًّا ملكًا ، أو نبيَّا عبدًا فقال : (( نبيَّا عَبْدًا )) إلى آخِر ما ورد في شأن هذا الخُلُق الرفيع الذي يخلُقُ من المجتمع شعبًا قويًّا متماسكًا .
و التأسيس الفلسفي لخُلُق التواضعِ في الإسلام هو أنهُ يأتي نتيجةً حتميِّةً لمبدأُ (( المساواةِ )) الذي أصَّلَه اللّٰه و رسولُه في القرآنِ الكريمِ و السُّنَّةِ المشرَّفةِ ، و كذا مبدأُ رجوعِ الناسِ جميعًا في أصلِهم إلى أبٍ و أمٍّ واحدةٍ ، فلماذا الاستكبارُ إذن بين المتساوينِ !
و هذا ما عَناه عمرُ رضي اللّٰه عنه _ في صرختِة التاريخيِّة : (( مَتَى اسْتَعبَدْتُمُ النَّاسَ وَقَدْ و لَدَتْهُم أُمَّهاتُهُم أَحْرَارًا )) _ أخرجة ابن عبد الحَكَم في ( فتوح مصر وأخبارها ) : ١٨٣.
من المؤلم أن نقول : إن فضيلة التواضعِ _ و كذلك فضيلة المساواةِ _ في غير بلادِ غير المسلمينَ أظهرُ و أكثرُ انتشارًا منها في بلادِ المسلمينَ ، و تحليلُ هذه الظاهرةِ و ما تتَضمَّنُه من مُفارقات لا تحتملُه هذه الكتابات.
ففي هذه البلادِ غيرِ الإسلاميِة - مثلًا - لا تجدُ هذا الحرصَ الشَّديدَ على ذِكرِ الألقاب في كل مرةٍ يُخاطب فيها صاحبُ اللقب ، و لا أتحدثُ عن دوائرَ خاصةٍ تقتضي طبيعةُ عملها الالتزامَ بتراتبيَّةِ الألقابِ المحدَّدةِ بلوائح و قوانين خاصة ، و لكن أتحدث عن مخاطباتنا العامة في الدواوين و الوزارات و الجامعات و المكاتب و غيرها ، و ما تعودنا عليه من ضرورةِ اقترانِ الاسم باللقب مثل : ( باشا ، أو بيه ، أو صاحب السعادة ، أو صاحب المعالي ، أو صاحب الفضيلةِ ) أو غيرها من الألقاب التي خَيَّلتْ لأصحابها من فَرْطِ تكرارها على مسامِعِهم أنَّهم مُتميزون فعلًا على غيرهم ، و أنهم ينتمونَ لطَبَقةٍ أعلى و أسمى منزلة من طبقات الآخَرين ، و كثيرًا ما خُيِّلَ لأصحابِ هذه الألقابِ أنَّهم نُخبةٌ مُتميِّزةٌ ، و أن أبناءَهم ليسوا كبقية أبناء الناس ، و من حقِّهم أن يَتميِّزوا باستثناءاتٍ في الوظائفِ و المناصبِ يسبقونَ بها أصحاب الكفاءات العليا من أبناء و بنات الطبقات المغمورة في المجتمع ، و أن من حقهم أن يُورِّثُوا أبناءهم و ظائفهم و كراسيَّهم التى يجلسون عليها.
و هذا السلوكُ الذي تشقى به شريحةٌ عريضةٌ منَ الناس أساسُه التنكُّرُ لخُلُقِ (( التواضعِ )) و مبدأِ المساواةِ ، و الانزلاقُ_ اللا شعوري المتدرِّجُ _ في هاويةِ ( الكِبْرِ و الاستعلاء ) و التصنيفُ الزَّائفُ للناس على أساسِ المالِ و الجاهِ ، و ليسَ على أساس العملِ الصالحِ و الخُلُق الحسَنِ الطيب.
و ليس من الإسلام و لا من مكارم الاخلاق - الترفُّعُ- على الفقراءِ ، و التأفُّفُ من البسطاءِ ، أو النظرةُ الدونيَّةُ لمن يعملُ في أعمالٍ أو حِرَفٍ متواضعةٍ ، و ليس من الإسلام و لا من التحضُّر و لا من مكارم الأخلاق تصنيفُ العائلات إلى طبقات ، بعضُها فوق بعضٍ ، و امتناعُ عائلاتٍ من تزويج بناتِها من عائلاتٍ أخرى كِبرًا و تعاليًا ، و المسلمُ الحقيقيُّ هو من يقولُ : سمعًا و طاعةً لأمر النبي ﷺ في قولة : (( إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَه و خُلُقَه فَزَوِّجُوه ، إلَّا تَفْعَلُوا تكُنْ فِتْنَةٌ في الأَرضِ و فَسَادٌ كَبيرٌ )) ، صدق رسولُ اللّٰه ﷺ.
_ أخرجة الترمذي في جامعه ( ١٠٨٤ ) و ابن ماجه في سننه ( ١٩٦٧ ) من حديث أبي هريرة رضي اللّٰه عنه.
و هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼
إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان
صلوا على رسول اللّٰه 🌼🌼🌼
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

هناك 9 تعليقات:
مجهود كبير ومميز بالتوفيق دائما
ما شاء الله
الله ينور يا مبدع
ابداع ولا أروع
احسنت
جزاك الله خيرا وبارك الله فيك
ما شاء الله ربنا يزيدك يا ابن الشيخ 😍
ما شاء الله تبارك الله كالعاده سرد متميز
جميل بجد ما شاء الله عليك 🌹🌹
ربط فضيلة التواضع بالدين موفق هنا .. ويوضح أن الإيمان يساعد المؤمن على التحلي بصفات حميدة
ماشاء الله ربنا يحفظك
إرسال تعليق