قصة أشبه بالأساطير تمتزج فيها المشاعر الإنسانية مع المغالاة في الترف ، تصور لنا واقعَا أقرب للخيال يماثل رويات ألف ليلة و ليلة ، و تطلعنا على مدى الثراء العظيم الذي نعمت به مصر في العصر الطولوني .
كان أحمد بن طولون حاكمًا مستنيرًا عاقلاً ، سياسيًّا محنكًا بارعًا جمع بين الكفاءة الحربية و الإدارية ، أصلح أحوال الرعية و أنشأ عاصمة جديدة أطلق عليها القطائع ، بذل أموالاً كثيرة لتجميلها و شيد فيها دارًا للإمارة و أقام مسجده الضخم الذي خلَّد اسمه ، اشتهر ابن طولون بعدله وبره وفيض عطائه وكان شعاره {{ من مد يده إليك فأعطه }} ، و عند و فاته ترك مصر غنية عامرة بالخيرات المتدفقة و بالأموال الطائلة و خلف في خزائنه عشرة ملايين دينار من الذهب و سبعة آلاف مملوك و مائة سفينة حربية و أوصى لابنه خمارويه بالإمارة من بعده .
لكن لم ينتهج خمارويه نهج أسلافه و كان صورة مغايرة لأبيه رجلاً مسرفًا غاص في الملذات و أطلق لنزواته العنان ، و اعتاد على البذخ الفاحش الذي لا يتصوره عقل وأحاط نفسه بمظاهر العظمة فكان يرفل في النعيم و يتدثر بالترف.
ورث خمارويه عن أبيه ميله إلى تشييد المباني الفخمة و أضاف الكثير للحاضرة الجديدة فشيَّد بستانًا ضخمًا استقدم فيه الحيوانات النادرة مثل الأفيال و الزرافات و الطيور العجيبة و أقام دارًا مخصصةً للسباع و كسا أجساد النخيل بالنحاس المذهب و مد بين أجساد النخيل و النحاس مواسير من الرصاص يمر فيها الماء فيكون عيونًا تحت النخيل يجري ماؤها إلى فسقيات متعددة تبهر الأبصار.
وطعم له العمال الزراعيين الأشجار فخلطوا بذور الفواكه المختلفة مثل المشمش و اللوز و الليمون و أنتجوا ثمارًا جديدة و نقشوا على أرض البستان الكثير من الحكم و الأمثال بالرياحين فصار البستان متعة الناظرين .
و لم يكتف خمارويه فبنى بيتًا صغيرًا بداخل البستان اتخذه مجلسًا و أطلق عليه بيت الذهب و كان يعد من أعجب مباني الدنيا على الإطلاق فقد طليت جدرانه بالذهب و اللازورد و حفر الفنانون على حوائطه رسومات خشبية بارزة تصور خمارويه محاطًا بالجواري و على رءوسهن أكاليل من الذهب الخالص المرصع بالجواهر و في آذانهن الأقراط على هيئة أجراس متقنة الصنع و لونت ثيابهن بالأصباغ العجبية التى تبدو كالملابس الحقيقية و صارت دار الذهب مجلس خمارويه المفضل يجلس بها صباحًا و مساء.
أما أجمل ما زين بستان خمارويه الأسطوري الذي لا يضاهيه بستان في العالم جمالاً و غرابة فهي بحيرة الزئبق ، و يقال إن خمارويه اشتكى إلى طبيبه من كثرة السهر و طول الأرق ؛ فأشار عليه بالتدليك فلم يأته بالنتيجة المطلوبة فنصحه الطبيب أن يحفر بركة من الزئبق ليتأرجح بداخلها ، و أمر خمارويه بحفر هذه البركة العجبية أمام دار الذهب ولم يضن عليها بجهد و بمال ، كانت مربعة الشكل طولها خمسون ذراعًا و عرضها خمسون ذراعًا ملأها بالزئبق و وضع في وسطها فرشا من أدم مملوءًا بالهواء مشدودًا بسلاسل حديدية ملفوف حولها خيوط من الحرير في أعمدة من الفضة ، فإذا أسدل الليل ستاره كان خمارويه يتوسد فرشه بوسط البحيره متأرجحًا ، تداعبه نسمات الليل الحالمه ، ينصت لهمس الطبيعة و يهتم بمشاهدة القمر و النجوم في السماء حتى يغلبه النوم ، و كان بريق النجوم في الليالى القمرية لا يدانيه شيء في جماله و روعته على سطح هذه البحيرة التى لا مثيل لها.
و قد شيد خمارويه قبة عالية تشرف على البستان و على نهر النيل سماها الدكة و كساها بستائر فاخرة وأثاث نادر و كان يجلس بداخلها و يتطلع ببصره فيشاهد لوحة طبيعية بألوان حية لسائر معالم المدينة تمتد حوله ، الصحراء اللامتناهية ، نهر النيل الذي يتدفق بانسياب ، و جبل المقطم الشامخ الأزلي فتبعث هذه المناظر سرورًا و بهجة في نفسه ، و من المحزن حقًّا أن كل هذه المباني قد زالت اليوم و لم يبقَ منها شيء يذكرنا بالعظمة التي اتسم بها العصر الطولوني في مصر سوى مسجد أحمد بن طولون.
وكان لخمارويه سبع مستأنس أزرق العينين سمَّاه _ زريق _ و كان يضع في رقبته طوقًا من الذهب و يسير طليقًا في سائر أنحاء القصر يطعمه على مائدته فيلقي له بالدجاج و اللحوم ، وإذا نام خمارويه رقد زريق بجواره ليحرسه في غفلته فلا يجرؤ أحد على الاقتراب منه.
و عجز اللسان عن وصف موكب خمارويه المحاط بكل مظاهر العظمة تتقدمه الحاشية و يسير وراءه ألف جندي من الجنود السودانيين الأشداء مرتدين ملابسهم السوداء ، متقلدين سيوفهم اللامعة البراقة فيبعث مظهرهم الرهبة في النفوس.
شيَّد خمارويه لزوجاته وأولاده دارًا أطلق عليها دار الحرم و يقال إن كميات الطعام المتبقية يوميًّا من هذه الدار كانت ضخمة جدًّا ، فاعتاد الخدم المقيمون في الدار أن يبيعوا بقايا الطعام للناس في الأسواق ، و كان مصروف مطبخ خمارويه
( ٢٣.٠٠٠ ) الف دينار في الشهر و هو مبلغ كبير جدًّا.
و يروى أن خمارويه خرج للنزهة في الصحراء ذات يوم فلقيه أعرابي فأنشد أبياتًا تمدحه :
إن السنان وهزَّ السيف لو حدث
عنك في الهيجاءِ بالعجبِ
أفنيت مالك تعطيه و تبذله
يا أمة الفضة البيضاء والذهب.
فأعطاه خمارويه خمسمائة درهم فقال الأعرابي : (( زدني فمثلك من يزيد )) فطلب خمارويه من مماليكه أن يعطوه سيوفهم و مناطقهم و كانت مطعمة بالذهب فقال الأعرابي
(( و من يحمل لي ذلك )) فأعطاه بغلا ومضي.
و كان لخمارويه جارية اسمها ( بوران ) حظيت عنده بمكانة عالية فصار أسيرًا لهواها مولعًا بحبها و ترعرعت قصة الحب في أحضان السلطة و قصور الملك ، و أمر خمارويه الرسامين بنقش صورتها على جدران بيت الذهب بجوار صورته و كان يرى أن الدنيا لا تطيب له إلا بقربها ، و لكن عصفت بهما الأقدار و تعكر صفو الحياة وأطل شبح الموت على بوران وهي في ريعان شبابها فانخلغ قلب خمارويه حزنًا عليها و تبددت سعادته في بحر من الدموع ورفض تشييع جثمانها وظل يبكي بجوارها لمدة ثلاثة أيام حتى فطر قلبه وجفَّ دمعه وانتزعها رجال حاشيته انتزاعًا لترقد في مثواها الأخير .
انتبه عزيزى القارئ قطر الندي تزينت ، خرجت من خدرها ، طلعت عليها الشمس تسير تحت السحاب تتساقط الورود من بين يديها و تحيط بها النجوم .
و هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼
سوف أكمل لكم زفاف قطر الندى ابنته خمارويه الحسناء على الخلفية العباسي المعتضد باللّٰه و كيف ، ابتهج خمارويه بهذه الزيجة التى ستوطد علاقته بالخلافة العباسية...
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
الرجاء دعمكم لمدونتى الشخصيه بزيارة و متابعة و تعليق
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼