الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته
موضوعنا اليوم عن -الكبر- و المتكبرين - ، و هو ليس بالطبع من بابِ الفضيلةِ و لا مكارمِ الأخلاقِ ؛ إن تصورَ فضيلة
(( التواضعِ )) يستدعي _ ذِهنًا _ تصور رذيلة (( الكبرِ )) ، و يستدعيه استدعاء الضَّدَّ للضَّدَّ.
و طلبة العلم يعرفون من عِلم المعاني أن التضاد و أشباهَه يُعَدُّ من الجوامع الحقيقية ؛ لأن (( الوَهم )) يُنزِِلُ المتضادَّيْنِ منزلة المتضايفين ، حتى قالوا : (( إنَّ الضِّدَّ أقربُ خطورًا بالبالِ مع الضِّدِّ من الأمثالِ ))
و مِن ثَمَّ فمِن المشروع أن يعقُب الحديث عن التواضع حديثٌ عن الكبرِ ؛ إذ هما نقيضانِ أو في قوةِ النقيضين كما يقولُ علماء المنطِقِ ..
و قد سمِعتُم و سمعنا معكم الكثير مما يقال في (( الكبرِ )) و عن (( المتكبِّرين )) .
و ما يُمكِن تلخيصُة ؛ هو المبادرةُ بإدراك الفَرقِ بين الكِبرِ كرذيلةٍ من أشدِّ الرذائل ضَررًا على الفردِ و المجتمع ، و بين ما يَشتبهُ به شَكلًا من المطالب التي لا حَرجَ و لا بأسَ في فعلها او تركها.
ف الكِبرُ هو _ كما قالَ النبي ﷺ _ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ )) ، و معنى هذه العبارةِ : أنَّ المتكبر هو مَن لا يَقبل الحق ، و إنما يَرفُضُه و يتعالَى عليه ، (( غَمط النَّاسِ )) : احتقارُهم و ازدِراؤهم و النَّظرُ إليهم من أعلى ، و هو أيضًا : استعظامُ النفسِ ، والاحساسُ بأنَّ قَدْرَها فوقَ أقدارِ الآخرين.. و هذا كُلُّه شيءٌ ، و ميل الإنسانِ إلى الهيئةِ الحَسنةِ و الملبَسِ الجميل و المنزل النَّظيفِ ، و كلِّ مطالب الجمالِ الوَقورِ في الرَّجُل و المرأةِ شيءٌ آخرُ.
و قد التبَسَ الفرق بين هذين الأمرينِ عندَ أحدِ الصحابة ، و داخَلَه من ذلك شيءٌ في نفسِه حينَ سمِعَ النبي ﷺ _ يقول : (( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ )) ، فقال للنبي ﷺ إنَّ الرَّجُلَ يُجِبُّ أن يكون ثَوبُه حَسَنًا و نَعْلُه حَسَنًا ؟ فقال _ عليه الصلاة و السلام _ (( إنَّ اللّٰه جَمِيلٌ يِجِبُّ الجَمالَ ، الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ ، و غَمْطُ النَّاسِ )) - أخرجة مسلم في صحيحه ( ٩١ )من حديث عبداللّٰه بن مسعود رضي اللّٰه عنه.
نَعم ( الكِبْر ) خَصلتانِ : التَّرفُّع عن قبولِ الحَقِّ و احتقارُ الناس .
و ( المتكبِّرُ ) لا يَقبَلُ الحَقَّ ؛ لأن قبوله يَستلزمُ خضوعَ نفسه للحق ، و هذا أمرٌ يصعُبُ على نَفْسِ المتكبِّرِ ، التي تأبَى الخُضوعَ و الانقيادَ ، و اعتادَت الاستعلاءَ و الغَطرسَةَ .
و إذن فخليقةُ الكِبرِ بكلِّ قبائحها من وادٍ ، و ما يُظنُّ أنه كِبرٌ من حِرصٍ على الهيئَةِ الحسنةِ و الثوبِ الحَسَنِ و ما إليها من وادٍ آخَرَ مختلِفٍ أشدَّ الاختلافِ
و يَلفِتُ أنظارَنا أن التحذير من الكبر و المتكبرين و المتغطرسينَ و مِن أستاذِهم الأكبر إبليس _ وَرَد فيما يُناهِزُ سِتِّينَ مَوضِعًا في القرآن الكريم ، و كلها مواضِعُ ذَمٍّ و تقريع ؛ و لومٍ و توعُّدٍ بالعذابِ الأليم في جهنم ؛ و ليسَ ببعيدٍ ما يُقالُ مِن انٍّ أوَّلَ معصيةٍ للهِ تعالى ارتُكِبَت كانت بسببِ الكِبرِ ، و أن كل ما تلاها من مَعاصي البشر و آثامهم سبَبُه هذه الرَّذيلةُ .
يقص علينا القرآن الكريم أن اللّٰه تعالى أَمَرَ الملائكةَ و معهم (( إبليس)) بأن يَسجُدوا لآدمَ بعدَ أنَ يُسوِّيَه و يَنفُخَ فيه مِن رُوحِه ، و قد نفَّذ الملائكةُ كلُّهم ما أََمَرَهمُ اللّٰه به ، إلَّا إبيلس الذي أَبي عليه (( الـكـبـرُ )) و التَّرفُّع أن يُنَفِّذَ الأمرَ بالسُّجودِ ، محتجًّا بأنَّه أرفعُ من آدام ، و لا يَصِحُّ في عُرفِ أهلِ الكِبرِ أن يسجُدوا لمَن هو أقلُّ شأنًا في نَظرهم .
و كانت حجة إبليس أنه مخلوقٌ من نارٍ ، و آدمُ من طِين ، و جهل أن الكل جماد لا تفاضُل فيه في باب الحاجة و الضرورة ؛ و بقيِّةُ القِصَّةِ معلومةٌ ، و الدرس الذي يُستنبَطُ من هذه القصة في القرآن : أنَّ الكِبرَ منعَ صاحِبَه من تنفيذِ أمرِ اللّٰه ، فاستوجَبَ بسببِه اللعنةَ ، و استحقَّ الطَّردَ من الجِنَّةِ .
و الذي لا يَنتبهُ له كثيرونَ هو أن إبليسَ لم يستشعِرِ النَّدمَ مع هذا العقابِ الإلهيِّ ، و لم يخطِّئْ نفسَه ، و لم يسألِ اللَّهَ العفوَ و المغفرةَ كما فعلَ أبو البشرِ ، و إنَّما حمَلَه كبرُه و غرورُه على الإصرارِ على موقفِه ، فطلبَ من اللّٰه تعالى أن يُمهِلَه ليتفرَّغَ لإضلالِ العبادِ و إغوائِهم بتزيينِ المعاصِي و الآثامِ و الذنوبِ و تشجيعهم على اقترافها .
و معني ذلك أن معاصيَ البشرِ قاطبةً - و جميعُها من وحيِ الشَّيطانِ - إنِّما هي نِتاجُ رذيلةِ الكِبرِ ، و أنَّ قوةَ الشَّرِّ في العالم أساسُها التكبر و الاستعلاء على اللّٰه في الأزلِ ، و أنَّ أصحابَ المعاصي و الآثامِ و السَّيِّئـات ، و الظلـمةَ و المستكبرينَ هم أنصارُ إبليسَ و أعوانُه ومشجِّعوه على متابعةِ مسيرتِه التي انطلقَت مِن تكَبُّرِه و استعلائِه و قال تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰٓئِكَةِ ٱسْجُدُوا۟ لِأَدَمَ فَسَجَدُوٓا۟ إِلَّآ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ }{ البقرة : ٣٤ }.
و قال أيضا في سورة ( ص ) :
{ إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ (٧١) فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ كُلُّهُمۡ أَجۡمَعُونَ (٧٣) إِلَّآ إِبۡلِيسَ ٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ (٧٤) قَالَ يَٰٓإِبۡلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسۡجُدَ لِمَا خَلَقۡتُ بِيَدَيَّۖ أَسۡتَكۡبَرۡتَ أَمۡ كُنتَ مِنَ ٱلۡعَالِينَ (٧٥) قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ (٧٦) قَالَ فَٱخۡرُجۡ مِنۡهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٞ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيۡكَ لَعۡنَتِيٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلدِّينِ (٧٨) }{ ص : ٧١. _٧٨ }.
و قال اللّٰه تعالى أيضًا في سورة ( الأعراف ) :
{ وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّٰجِدِينَ (١١) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ (١٢) قَالَ فَٱهۡبِطۡ مِنۡهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَٱخۡرُجۡ إِنَّكَ مِنَ ٱلصَّٰغِرِينَ (١٣)}
{ الأعراف : ١١ _ ١٣ }.
و لا يذهبنَّ بنا الظنُّ إلى أن الأثرَ التَّدميريَّ لرَذيلةِ الكِبرِ قاصِرٌ على ما يَقعُ بين الأفرادِ ، فهذا ظنٌّ غيرُ صحيحٍ ، و الصَّحيحُ أن هذا المرضَ الخُلُقيَّ التدميريَّ كما يُصيبُ الأفرادَ يُصيبُ الدولَ و الشُّعوبَ سواءً بسواءٍ ، و حالتئذٍ تكونُ الدماءُ و الأشلاءُ و خرابُ الديارِ و التشريدُ من أشنعِ ما تمارسُه الدولُ المستكبرةُ على الدولِ الناميةِ ، دع عنك الفقرَ و الجهلَ و ما إليهما مما يَلحقُ الشعوبَ الفقيرةَ من استبدادِ السياساتِ الجائرةِ و تسلُّطِها على مقدَّراتِ البلادِ و العبادِ.
و هذا و اللّٰه أعلم 🌼
و أعدكم أن نكمل باقي الموضوع بإذن الله تعالى ان نال إعجابكم.
إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼