الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته !
عزيزي القارئ أكمل لكم موضوع شيق أعاد لنا أمجاد مدينة تنيس و لمتابعة الموضوع الأول عن مدينة تنيس اضغط هنا على الرابط 👇
https://rovaer55501.blogspot.com/2023/04/tennis-city.html
و لما جاء العصر الفاطمي و هو العصر الذهبي للمنسوجات في مدينة تنيس فقد ازداد اهتمام الفاطميين بثيابهم نتيجة لحياة الترف و الأبهة و العظمة المصاحبة لخلافتهم ، و تم إنتاج كميات ضخمة من أفخر أنواع المنسوجات نقشت عليها أسماء الخلفاء الفاطميين بخيوط الذهب و الفضة.
كما اعتاد الخلفاء منح كميات كبيرة من هذه المنسوجات كهدايا و خلع للأمراء و رجال البلاط و الموظفين في الأعياد و المناسبات السعيدة ، و جعلوا لهذه الصناعة ديوانًا خاصًّا أطلقوا عليه ديوان الكسوة و الطراز حفظ الخلفاء الفاطميون مقتنياتهم الثمينة في عدة خزائن منها خزانة الكسوة التي تحتوي على القباطي المطرزة و الحرير الموشى بالذهب و الحرير و المخمل ، و كان يخصص لخزانة الكسوة وحدها مبلغ ( 600,000 ) ألف دينار من الذهب سنويًّا .
و يروي لنا المقريزي أن الخلفية المعز لدين اللّٰه الفاطمي عندما وصل إلى القاهرة ورأى المنشآت التي بناها له قائد جيوشة جوهر الصقلي قرر مكافأته فخلع عليه عباءة مذهبة و عمامة حمراء وقلده سيفًا ، و منحه عشرين فرسًا و ( 50000 ) الف دينار من الذهب وثمانين ثوبًا.
اهتم الأثرياء باقتناء أجود أنواع المنسوجات ؛ فكانت خزائن الأمراء و الوزراء ممتلئة بالمنسوجات التنيسية و الدمياطية و الدبيقية ، و كان أقتناء أكبر عدد ممكن من هذه المنسوجات دليلاً على الثراء و المكانة العالية ، و عند غضب الخلفاء على رجال دولتهم كان أشد عقاب هو مصادرة خزائن الكسوات.
و يقول المؤرخون العرب و المقريزي وغيره عن عظمة مدينة تنيس و ما كان بها من أطلال ( فقد ذكروا أنه كان بها 72 كنيسة خربها الحاكم بأمر اللّٰه الفاطمي ليشيد المساجد في أمكنتها ).
و أنها كانت مستقرا للاساقفة الذين ناهضوا بطريك الأسكندرية .
و يروي لنا المقريزي مرة آخرى أنه بعد وفاة برجوان وزير الخليفة الفاطمي العزيز باللّٰه وجدوا عنده مائتين و واحدًا و ستين ثوبًا من القماش و ألف قميص حرير و ألف منديل و مائة عمامة من الشروب الملون.
كما ساعد تنيس على التفرد في صناعة النسيج موقعها المتوسط بين حقول الكتان المنتشرة في الوجه البحري و في شمال الدلتا ، بالإضافة إلى مهارة عمالها .
كان نسيج القباطي يتم عن طريق زخرفة الكتان بلونين أو أكثر على طريقة السداة و اللحمة ، ( السداة ) هي خيوط النسيج الطولية التي تتقاطع مع الخيوط العريضية التي يطلق عليها ( اللحمة ) بانتظام على أنوال يدوية ، و كانت التفاصيل الزخرفية و الخيوط الملونه و الكتابات تنسج بخيوط اللحمة العرضية ، و يتم الاحتفاظ بلون خيوط الكتان الطبيعي مع قدر بسيط من التبييض.
و قد تم إطلاق كلمة قباطي على المنسوجات كطريقة فنية اشتهرت بها مصر تعكس دقة الصناعة اليدوية و الانسجام بين الألوان و الرسومات ببراعة تعجز الآلات الحديثة عن مجاراتها.
كان هناك خمسة طرزات من أنواع المنسوجات فهناك طراز البهنسا و طراز قيس و طراز الدلتا الذي تنتمي له جزيرة تنيس .
كما ساهمت صناعة المنسوجات بدور مهم في الاقتصاد المصري و التجارة الخارجية في ذلك الوقت ؛ كإحد السلع التي يتم تصديرها فكانت تنيس تصدر سنويًّا إلى العراق منسوجات تساوي ثلاثين ألف دينار من الذهب ، كما كان يرد إلى مدينة تنيس كل عام خمسمائة مركب من موانئ الشام لشراء منسوجاتها المميزة.
و بالرغم من الإضرابات السياسية التي كانت قائمة بين الدولة الإسلامية و الإمبراطورية البيزنطية فإن العلاقات التجارية لم تتأثر ، و كانت الإمبراطورية البيزنطية تستورد الكثير من المصنوعات المصرية و خصوصًا منسوجات تنيس و دمياط التي حرص الأباطرة البيزنطيون على اقتنائها لتزيين قصروهم .
و صارت تنيس من أشهر مراكز صناعة النسيج في مصر الإسلامية على الإطلاق ، لم تحظ مدينة إسلامية بما كتبه المؤرخون عنها مثلما حظيت تنيس ، قال عنها ( اليعقوبي ) :( تعمل بتنيس الثياب الرفيعة الصفاق أي المبطنة و الرقاق أي غير المبطنة من القصب و الفضة ، و البرد ، و المخمل و الوشي و أصناف الثياب).
و قال عنها ( ابن حوقل ) ( يعمل بتنيس رفيع الكتان و ثياب الشرب و المصبغات من الحلل التي ليس في جميع الأرض ما يدانيها في القيمة و الحسن و النعمة و الترف و الرقة و الدقة ، وربما بلغت الحلة من ثيابها مائتي دينار إذا كان فيها ذهب ، و قد بلغ ما لا ذهب فيه منها مائة دينار ) .
و قال عنها ( الإدريسي) ( بمدينة تنيس و دمياط يتخذ رفيع الثياب من الدبيقي و الشروب و المصبغات من الحلل التنيسية التي في جميع الأرض ما يدانيها من الحسن و القيمة ، و ربما بلغ الثوب من ثيابها إذا كان مذهبًا ألف دينار و نحو ذلك و ما لم يكن فيه ذهب المائة و المائتين و نحوه و أصولها من الكتان ).
و عاش بمدينة تنيس رجل يدعى ابن بسام و كان محتسبًا للمدينة ( 1226 ) من الميلاد و قد ترك كتابًا قيمًا أطلق عليه ( أنيس الجليس في أخبار تنيس ) يصف فيه أحوال الحياة في تنيس فيه الكثير من التفاصيل عن هذه المدينة.
و يقال إن قصة الجنتين التي ورد ذكرها في القرآن الكريم :
{ ۞ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا}{ الكهف : 32 } ؛
حدثت في تنيس قبل الإسلام بثلاثمائة وخمسين عامًا .
و يحتفظ اليوم متحف الفن الإسلامي لمصر و متحف النسيج و بعض متاحف العالم بقطع نادرة من نسيج مدينة تنيس الفاخر.
كانت تنيس كالدرة المتألقة بين جزر و مدن بحيرة المنزلة التي اشتهر أهلها أيضًا بصناعة النسيج ، و لكن لم يبلغوا مكانتها الرفيعة شطا ، دبيق ، بورة ، تونه و دمياط كان البحر هو و سيلة الانتقال بينهم .
كما نالت مدينة شطا شهرة واسعة في الثياب الشروب الشطوية ، كما كانت تصنع بها كسوة الكعبة المشرفة.
و اشتهرت مدينة دبيق بصناعة الثياب الدبيقية الحريرية و بلغت قيمة الثوب الواحد منها مائة دينار من الذهب ، كما اشتهرت بصناعة العمائم الشرب المذهبة التي تنسج بالذهب و الحرير و الكتان و كان يترواح سعرها من مائة إلى خمسمائة دينار من الذهب ، و تميزت بنوع من النسيج يسمى الثياب المثقلة كانت تستخدم في رسم الخرائط بالأصباغ المشمعة.
كما تفوقت مدينة دميرة بصناعة الثياب الشروب الكتانية ، و احتكرت مدينة بورة صناعة العمائم البورية و أنواعًا من الثياب للبلاط الملكي و لعامة الناس من الشعب ، و هناك قطعة نسيج تحمل طرازها باسم الخلفية الفاطمي الحاكم بأمر اللّٰه.
أما مدينة تونة فقد ازدهرت بها صناعة الثياب الكتانية بالإضافة إلى شرف صناعة كسوة الكعبة المشرفة على أرضها ، و كان يوجد بها طراز للعامة و للخاصة.
كما انفردت مدينة دمياط بصناعة الكتان الأبيض ، أما الكتان الملون فكان يصنع بتنيس ، و لكن كان لمدينة تنيس التفوق و الصدارة في صناعة المنسوجات على جميع جزر ومدن بحيرة المنزلة.
و يمر الزمان و يشهد التاريخ على مراحل الصعود و الانهيار و النهضة و الانكسار و العظمة فجاءت نهاية هذه المدينة العظيمة في العصر الأيوبي بعد أن أزداد وطأة غارات الصليبيين ( 1192 )من الميلاد فأمر القائد الناصر صلاح الدين الايوبي بإخلاء تنيس من السكان لكي لا يقعوا أسري في أيدي الصليبيين و نقلهم إلى مدينة دمياط ، و لم يبق بالمدينة سوي المقاتلين ، و بعد انتهاء الحرب عاد أهل تنيس إلى مدينتهم مرة أخرى آمنين.
و في حكم ابن أخيه الملك الكامل محمد بن العادل اشتدت وطأة غارات الصليبيين مرة أخري فأمر بهدم مدينة تنيس ( 1226 ) من الميلاد و إخلائها من أهلها لكي لا تقع فريسة سهلة في أيديهم ، فهدم جنوده أسوارها و قضوا جدارن بيوتها و مصانعها ، فهجرها أهلها واندثرت مدينة تنيس لؤلؤة بحيرة المنزله من الوجود منذ هذا التاريخ وخبا نجمها وحل العدم مكان العمران و الوحشة مكان الأُنس ، و فقدت مصر مدينة من أهم مدنها الصناعية و لم يتبق بها إلا القلعة التي تقيم بها حامية من الجنود للدفاع عن المدينةِ.
و بسبب الغارات الصليبية اندثرت صناعة النسيج في باقي جزر بحيرة المنزله الواحدة تلو الأخرى.
و لا تزال تنيس اليوم شامخة في سكينة ووقار و هدو على ضفاف بحيرة المنزلة بين كثبانها الرملية الحمراء ، و هي متحف مفتوح يضم بقايا بيوتها و صهاريجها و مصانعها ، تروي تنيس تاريخها لزائريها و هم يتجولون فوق تربتها الممزوجة بقطع الزجاج الملون و الفخار و الحجارة التي شكلت في يوم من الأيام جزءًا من حضارتها العريقة.
أنعم اللّٰه عز وجل على تنيس بآيات الفن و الجمال في هذا المكان النائي الخلاب ، فهي اليوم جزء من محمية طبيعية. ( محمية أشتوم الجميل و جزيرة تنيس ) يعيش بها أنواع عديدة من الحيوانات و الطيور البرية النادرة يتجولون و سط الخلاء الفسيح بعيدًا عن ضجيج الحياة الحديثة
و لأن دوام الحال من المحال ، و هذه سنة اللّٰه عز وجل في خلقه تغيرت أسماء باقي جزر المنزلة ، ف تونه صارت تسمى بتل ابن سلام على اسم أحد الأولياء الصالحين المدفونين بأرضها و يسمي عبداللّٰه بن سلام ، و دبيق صار اسمها تل دبقو ، أما بورة فصارت كفر البطيخ .
و لا يوجد اليوم بهذا المدن العريقة ما يدل على عظمة صناعة النسيج التي ازدهرت في الماضي القديم على أرضها و أثرت العالم قرونًا طويلة .
و لا يزال هذا الفن الراقي باقيًا في مصر من ضمن أهم الفنون اليدوية التي تميز الحرف المصرية، و يعرف اليوم باسم النسجيات المرسومة .
و هذا و باللَّه التوفيق و اللَّه أعلم 🌼🌺
و كل عام و أنتُم بخير 🌼
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
الرجاء دعمكم لمدونتى الشخصيه بزيارة و متابعة و تعليق
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼
هناك 8 تعليقات:
تسلم ايدك يا ريس. .. كمل تنيس وتاريخها
جزاك الله خيرًا لقد استمتعت جدا بهذا التاريخ العظيم لبلادنا أعاد الله لنا مجدنا وعزنا وفخرنا كما كنا يومًا ما 💔
رائع
رائع
سبحان ربي العظيم..كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام..لايدوم إلا وجه الله العلي العظيم..!
ما شاء الله عليك أخي..أنت تاريخ ومدونة زادكم الله علماً وثقافة ومعارف..حفظكم الله وأتم عليكم نعمه.
راضية بديني.
قصة رائعه
ماشاءالله اكثر من رائع ، سرد جميل يزخر بكم كبير من المعلومات التاريخيه القيمه واجمل ما أعجبني دعمه بالتواريخ الميلاديه ما تيسر شكرا جزيلا
تمام تسلم
إرسال تعليق