الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.
قبل أن نكمل ما شرعنا فيه عن رفاعة بك رافع الطهطاوي للمتابعة أضغط هنا 👈رفاعة بك رافع الطهطاوي 👉
نفيه إلى الخرطوم
لنظارته لمدرسة الخرطوم بالسودان قصةٌ تهوى النفوس معرفتها :
تولى عرش مصر عباس باشا الأول ، بعد وفاة إبراهيم ، و كان محمد على لا يزال ينوء بمرضه ، ولعباس نفس تلح عليه أن ينسخ ما فعله محمد على ، و ينتهز فرصة موته لتنفيذ خطته الرجعية.
و يقول الأستاذ أحمد عزت عبد الكريم في كتابه ( تاريخ التعليم ) : إن عباسًا أظهر منذ تولي الحكم في مصر أنه لن يكون الحاكم الذي يتابع سياسة جده ، و يحنو على مؤسساته ، ويؤيد نظمه ... وأن سياسة عباس في الإصلاح الداخليّ كانت فشلًا متصلًا ، و لايشفع له في ذلك أن حكمه كان قصيرًا ، و هو أيضًا يرجع السبب في ذلك إلى أن سياسة عباس قامت على تسفيه الجهود التي بذلها محمد علي و إبراهيم في ميدان الإصلاح الداخليّ ، و السياسة التي اعتقد أنهما كانا يتمسكان بها ، و يدعوان إليها *(1).
فإذا ارتسمت لنا سياسة عباس على هذه الصورة ، فقد هان علينا أن نفهم السر في إغلاقه معظم المدارس الخصوصية في أول عهدة ، وقد كان مدرسة الألسن أول مدرسة ألغيت في عهد عباس ، فمؤسسها و ناظرها رفاعة بك ، أحد الأدنين من جده وعمه ، الناعم بعطفهما و ثقتهما ، ورسالة هذه المدرسة هي نقل الحضارة الغربية و الثقافة الأوروبية ، و الذي رسم هذه الخطة الرشيدة هما : محمد على ، و إبراهيم ، و الذي اضلطلع بتنفيذ هذه السياسة ، وبذل فيها أعظم الجهود إنما هو رفاعة بك ، و عباس _ كما يقول المؤرخ الإيطاليّ ( ساماركو ) : ( يتجلى عداؤه للحضارة الغربية ، و كرهه لجميع الأعمال التي كونت مجده ، و يبذل كل الجهد لتحطيمها شيئًا فشيئًا ) ، فلا عجب إذًا أن يجافي رفاعة بطل هذه الحضارة ، و حامل لواء تلك النهضة ، وأن يحصل له من البغض والشنآن ما ينتهي به إلى نفيه إلى السودان.
و يرى الأستاذ عبدالرحمن الرافعي بك :
أن لكتاب ( تلخيص الإبريز ) سببًا يتصل بنفيه ؛ إذ لا يخفى أنه طُبع للمرة التانية سنة ١٢٦٥ هـ ؛ أي: في أوائل عهد عباس ، و الكتاب يحوي آراء و مبادئ لا يرغب فيها الحاكم المستبد ، و عباس كان بطبعة مستبدًّا ، فلا بد أن الوشاة قد لفتوا نظره إلى ما في كتاب رفاعة ، مما لا يروق عباسًا ، فرأى أن يبعده إلى الخرطوم ؛ ليكون السودان منفًى له *(2) ؛ وليبعده ، ويبعد من يشاكله في آرائه و أفكاره عن مصر ، ويتخذ لإبعاده و إبعادهم علةً منتحلةً و سببًا مخادعًا.
و الأستاذ عزت عبدالكريم في كتابة ( تاريخ التعليم في عهد محمد علي) يرى أن هناك احتمالين لإبعاد رفاعة إلى السودان :
أحدهما
سعي علي مبارك الذي عاد من أوروبا ممتلئًا بالأطماع ، و الذي كان يحقد على رفاعة لما أصابه من مكانة و بلوغ شهرة.
والثاني
: ما يحتمل أن يكون رفاعة قد لقيه من معارضة بعض المشايخ المتعصبين الذين ربما عدوه متطفلًا على مبادئهم في دارسة الشريعة و الفقة *(3).
و هذا تكهنات يضرب فيها المؤرخون و الباحثون ، إلّا أنها لم تتكئ على وقائع ملموسة تكون أقرب إلى الجزم و اليقين ، وأنه وإن كانت هذه مجتمعةً ، أو منفردةً ، تصلح أسبابًا لنفي رفاعة وتغير عباس عليه ، إلا أن رفاعة نفسه جَلَّى السبب وأزال إبهامه ؛ فقد ذكر أنه سافر إلى السودان بسعي بعض الأمراء بضمير مستتر ، بوسيلة نظارة مدرسة الخرطوم *(4).
وأنه ، وإن لم يذكر أسماء السعاة ، ولم يشرح السعاية التي قاموا بها ، أشار إلى الوشاة و الوشاية في قصيدته التي نظمها بالخرطوم ، مستنجدًا بحسن باشا كتخدا مصر _ و مما قاله في هذه القصيدة :
وما خلت العزيز يريد ذلي .... ولا يصغي لأخصام لداد
لديه سعوا بألسنة حداد .... فيكف صغى لألسنة حداد ؟
مهازيل الفضائل خادعوني.... وهل في حربهم يكبو جوادي؟
وزخرف قولهم إذا زخرفوه .....على تزييفه نادى المنادي
فهل من صير في المعنى بصير ...صحيح الانتقاء والانتقاد؟
قياس مدارسي قالوا عقيم ....بمصر فما النتيجة في بعادي ؟
وهو يعجب كيف يؤدي لوطنه هذه الخدمة الجليلة ، ثم يُجْزَى هذا الجزاء ، ويبدي جزعه على أطفاله الصغار الذين ملكوا عليه فكره فيقول :
على عدد التواتر معرباتي تفي بفنون سلم أو جهاد
و( ملطبرون ) يشهد وهو عدٌل ( ومنتسكو ) يقر بلا تماد
ولاح لسان ( باريس ) كشمسٍ بقاهرة المعزِّ على عمادي
رحلت بصفقة المغبون عنها وفضلي في سواها في المزاد
وما السودان قط مقام مثلي ولا سلماي فيه ولا سعادي
وقد فارقت أطفالًا صغارًا بطهطا دون عودي واعتيادي
أفكر فيهمُ سرًّا و جهرًا ولا سمري يطيب ولا رقادي
أريد وصالهم و الدهر يأبى مواصلتي ويطمع في عنادي .
وقد كان الشيخ ماكرا ، فقد وضع القصيدة على وزن وقافية
لقد أسمعت إذا ناديت حيًا .... ولكن لا حياة لمن تنادي .
قياس رفاعة
من المصادافات الغربية والتنبؤ الطريف ، ما نرويه في هذه القصة التي وقعت بين رفاعة و كبار المصريين في السودان ؛ ففي غضون شهر شوال سنة ١٢٧٠ هـ ، أعدَّ جزايرلي سليم _ حكمدار السودان _ وليمة بإحد السفن الراسية بمياة النيل تجاه الخرطوم ، ودعا إليها سفراء الدول ، و رفاعة الطهطاوي ، وقد شرعت السفينة تتهادى في الماء وتختال قبل الموعد بقليل ، و المدعوون يسمرون و يمرحون ، وبينما هم كذلك فاجأهم رفاعة بقولة : (( إن الوالي عباسًا قتل ، فاضطرب الجمع ، واضطر الحكمدار المُوَلَّى من قبل عباس أن يلغي الوليمة ، و تفرق الجميع ، ولما عاد رفاعة إلى مدرسة الخرطوم سأله المدرسون عن عودته ، فأخبرهم بأن عباسًا قتل ، فقالوا له : من أين علمت ؟ فقال لهم : انتهيت في ترجمة _تلماك إلى اجتماع الملوك المتعاهدة ، وانضمام تلماك معهم على محاربة الملك _أدرسته _ ملك الدونية ، وإعدامه بيد تلماك ؛ لارتكابه كل الأمور التي أرى أن عباسًا ارتكبها تمامًا )) وحيث كانت عاقبة ( أدرسته ) القتل ، فقياسًا على هذا قلت لا بد أن يكون عباس قُتِل مثله ، فقالوا :_ ألم يكفيك اغترابنا في الخرطوم حتى رحت تجترئ على هذا القياس الخرافي الذي يترتب عليه إبعادنا إلى ما بعد الخرطوم .
وفي اليوم التالي للحادث اسْتُدْعِىَ رفاعة بك من الحكمدار ، وزفَّ إليه بشرى أن سعيد باشا أمر بإعادته ومن معه إلى القاهرة ، و سلمه الحكمدار جانبًا من التبر هدية لوالي مصر الجديد .
هذه رواية عن قياس رفاعة ، وما من شك في أن رفاعة كان حزينا لنفيه ، موجعًا لبعده ، آسفًا لما بقية من والٍ أغفل فضله العريض في نهضة البلاد ، ولم يجازه إلا بالنفي و الاغتراب .
كان ذلك الألم يحزُّ في نفس رفاعة ، ويبلغ من شعوره كل مبلغ ، ويتغلغل في نفسه كل تغلغل ، وربما صقل الحزن نفسه ، و تجسم الأمل في نفسه ، وتملكه الخيال الذي تمثل له قصة تلماك ، فراح يقرن بين حال الملكين و يتكهن بأن يكون أحدهما كالآخر في مصرعه ، و لم يدع له الغيظ قوةً يكتم بها إحساسه ، فأرسل حدسه في صورة الخبر ، وأبرز
خياله في معرض اليقين ، و كم في الأمور من مصادفات .
أثر رفاعة في السودان
قضى رفاعة في السودان زهاء أربعة أعوام ، شعر فيها بمرارة الخزن و الألم ، و كانت صابًا وعلقمًا لمعني الظلم والجور الذي يتمثل له ، ولاغترابه عن أطفال صغار لا يدري مافعل بهم الزمان ، ولجزعه في منفاه على علم من أعلام النهضة ، و هو محمد بيومي ، أستاذ الرياضيات ، ورئيس أحد أقسام الترجمة ، فقد صحب رفاعة فى رحلته إلى باريس ، وعاونه في نشر العلم بالسودان ، وكان مصرعه بها ، وقد أشار إلى الجزع على فقده نصف صحبه الذي كان معه بقوله :
وحسبي فتكها بنصف صحبي .. كأن وظيفتي لبس الحداد
أما شعوره نحو السودان ، فقد كان شعور حبٍّ وعاطفةٍ ، وهو الذي قال على لسان مصر و السودان :
نحن غصنان ضمَّنَا عاطف الوجد
..جميعًا في الحب ضم النطاق
في جبين الزمان منك ومني
غــرة كـوكـبـية الانـغـلاق.
وأيَّا ما كان ، فقد نشر رفاعة في السودان ثقافةً و عامًا ، وقام على إدارة هذه المدرسة بإرشاده وجهوده ، ونظم في محنته شعرًا أودعه مكنون نفسه وخوالج حسه ، وشغل كثيرًا من وقته بالترجمة ، فكان مما ترجمه _قصة تلماك_ الرائعة.
بعد عودته من السودان
وبعد عودته من السودان جُعِلَ عضوًا ومترجمًا في مجلس المحافظة ، تحت رئاسة _ أدهم باشا _ ثم جُعِلَ ناظرًا لمدرسة الحربية بالحوض المرصود ، وبعد شهور تجدد المدرسة الحربية بالقلعة ، فأحيلت إليه نظارتها مع نظارة قلم الترجمة ، و مدرسة المحاسبة ، و الهندسة الملكية ، و التفتيش ، و العمارة ، وفي سنة ١٢٧٧هـ ، ألغيت المدرسة الحربية المذكورة وقلم الترجمة ، وما معهما فظَلَّ خاليًا من الوظيفة حتى سنة ١٢٨٠هـ ، و فيها أحليت إليه نظارة قلم الترجمة ، وجعل من أعضاء قومسيون المدارس ، مع الأشراف على صحيفة ( روضة المدارس ) .
وقد ظل كذلك في جهدٍ وعمل دائبين حتى كانت غرة ربيع الآخر سنة تسعين و مئتين و ألف ، فخبت بالموت شعلته ، و انطفأت بالمنية حياته و عبقريته .
أثره في النهضة
كان رفاعة بك شعلةً متقدةً لا يخبو نورها ، و حركة يقظة لا يفتر نشاطها ، اضللع بهذه الجهود الجبارة التي تعجز الجهد وتعيي الطاقة ، فكان مجموعة من الرجال ، وجمهرةً من النابهين ، و طائفة من المواهب ؛ ألَّفَ وترجَمَ ووجَّه وعَلَّمَ وشَرَّعَ ونَظَمَ ونقل إلى مصر ما كانت تنشده من علم أوروبا وآدابها و فنونها و مختلف ثقافتها ، ودرج على نظمها وأسباب مجدها ، وصنع على عينه تلامذة أذكياء أفذاذًا ، كانوا أقباسًا من ضوئه ، و مشاعل من هداه ، فنهجوا نهجه ، وسلكوا طريقه ، وكانوا الغاية البعيدة التي تنشدها البلاد ، و الحقّ أن رفاعة كان في الناهضين و المصلحين ورجال العلم أمة وحده ، وهو الأديب البارع ، و الشاعر المقبول ، والعالمُ الفَذُّ المتمكن في غير ما ناحيٍة من نواحي العلم ، و المترجم الذي فتح العيون على أطايب آداب الغرب و علومه ، و لعمري إنه فخرة هذا الجيل ، و الآية الناطقة بفضل الأزهر و جلائل آثاره .
كان رفاعة أول مترجم مصري في النهضة الحاضرة وقد استطاع أن يشرف على قلم الترجمة الذي ضم خمسين مترجمًا ، كان له شرف توجيههم و إرشادهم ، و ما منهم إلّا له اليد البارعة في ترجمة آداب الغرب و علومه و فنونه.
وقد كان رئيس الترجمة قبله بمدرسة الطبِّ رجل شامي ، يُدعى ( عنحوري ) فلما ألحق رفاعة بهذه المدرسة كتب المترجم الشامى باختباره في الترجمة ، و أعطاه فصلًا من كتاب ، وقال له : ترجمه في مجلسنا هذا ، فترجمه رفاعة من فوره ؛ فإذا قرأه الممتحن ملكه العجب ، وحمل ترجمة رفاعة إلى الديوان ، وقال للرؤساء في ذلك الحين : هذا أستاذي ، هو أحق بالرياسة مني ؛ لأنه أدرى من بالتعريب و التنقيح و التهذيب ، وهذه شهادة الحق تقضي له بالسبق*(5).
هو أول منشئ لصحيفة أخبار بالقطر المصريّ ، فقد تكفَّل إثر عودته من باريس بنشر صحيفة خبرية هي ( روضة المدارس ) مع تعذر الحصول على موادها إذ ذاك ، وقد مكثت هذه الصحيفة مدةً ، ثم انتكست قليلًا إلى نهوض و نشاط .
ومما امتاز به وقوفه على التواريخ القديمة و الحديثة و الأنساب ، مما لم يكد يلحقه فيه غيره *(6) ؛ كما كان له أكبر الفضل في نشر العلوم و المعارف بِحَثَّهِ الحكومة على طبع طائفةٍ من أمهات الكتب العربية على نفقتها ؛ كتفسير الفخر الرازي و معاهد التنصيص ، و خزانة الأدب ، و المقامات الحريرية ، وغير ذلك *(7). وسوف نكمل ما ألفة وترجمة ؛ وأسلوبه فى الشعر ؛ نثرة ، وكلامه فى حب الوطن ، وبعض نماذج من شعره.
واكتفي بهذا القدر ......... حتى لا أطيل عليك عزيزي/ت ...
و هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺
إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼
* الـمـراجـع .___________________________
*(1)_ تاريخ التعليم ، لأحمد عزت عبدالكريم الجزء الأول ، صـ ٦، ٧._________
*(2)_ تاريخ الحركة القومية وتطوير نظام الحكم في مصر ، صـ ٤٨٩_______________
*(3)_ تاريخ التعليم ، لأحمد عزت عبدالكريم ، ٦/١و ما بعدها.
*(4)_ مناهج الألباب المصرية ، صـ ١٦٧.________
*(5) _ حلية الزمن بمناقب خادم الوطن ، للسيد صالح مجدي ، صـ١١._________
*(6)_ حلية الزمن ، صـ١١______
*(7)_تاريخ الحركة القومية ، عبدالرحمن الرافعي ، ج٣ ، صـ ٤٩٣._____