السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.
هو السيد :
رفاعة بك ابن بدوي بن علي بن محمد بن علي رافع ، و يلحقون نسبهم بمحمد الباقر بن على زين العابدين ابن الحسين ابن فاطمة الزهراء.
المتوفي سنة ١٢٩٠ هـ = ١٨٧٣ مـ .
ولد في طهطا بمديرية جرجا في صعيد مصر ، و يؤخذ مما كتبه عن نفسه في رحلته أن أجداده كانوا من ذوي اليسار .
و لكن الدهر أخنى عليهم ، و الأيام تنكرت لهم ، فلما وُلِدَ تفتحت عيناه على الضيق و العسرة ، و سار به و الده إلى منشأة - النيدة - بالقرب من مديرية جرجا ، فألقى عصاة تسياره بين قوم كرام النفوس ، ذوي يسار و مجد ، يقال لهم ( بيت أبي قطنة ) فأقاما هناك مدةً ، ثم نزحا إلى - قنا -و لبثا بها حتى شَبَّ الغلام ، و شرع يقرأ كتاب الله ، ثم نقل إلى فرشوط التي عاد منها إلى طَهْطَا و طنه الأول ، بعد أن أتمَّ القرآن حفظًا .
الأزهري الصغير
و قد تهيأت له في حداثته ثقافةٌ أزهريةٌ ؛ إذ قرأ كثيرا من المتون الأزهرية المتداولة على أخواله ، و فيهم طائفة من علماء الأزهر الفضلاء ؛ كالشيخ : عبد الصمد الأنصاري ، و الشيخ : أبي الحسن الأنصاري ، و الشيخ فراج الأنصاري ، و غيرهم .
و لما توفي والد رفاعة قدم هو إلى القاهرة ، و انتظم في سلك الطبلة بـ الجامع الأزهر ، في سنة ١٢٢٣ هـ ؛ وجَدَّ في الدرس و المطالعة حتى نال من العلم حظًّا محمودًا ، و لم يمضِ بضع سنين حتى صار من طبقة العلماء في اللغة و الحديث و الفقة ، و سائر علوم _المنقول _ و المعقول ، و كان في جملة مَنْ تلقَّى عنهم العلم العالم اللغويّ الشاعر و الكاتب الشيخ _ حسن العطار ؛ المتوفي في سنة ١٢٥٠ هـ ، و قد تنبه إلى مخايل ذكائة ، وأمارات نجابته ، فميزه من أقرانه ، و خصه ببالغ عطفه ، و كان يتردد على منزله لينهل من علمه ، و ينشد توجيهه ، و يشترك معه في الاطلاع على الكتب الغريبة التي لم تتداولها أيدي علماء الأزهر*(1).
نبوغـه المبكر
أشرق نبوغُ رفاعةَ وذكاؤُه وهو لدن العود ، غَض الصبا ، وبدت لذلك علائم ودلائل ، فقد أُثِرَ عنه أن أحد الفضلاء المدرسين سأله زمن حضوره بالأزهر ، تأليف خاتمة لكتاب _ قطر الندى وبل الصدى _ فأجابه لذلك و أنشأها في صحن الأزهر ، في جلسة خفيفة ، فختم القطر بها ذلك المدرس ، وعُدَّ ذلك على فضله مع حداثة سنه من أبلغ الدلائل ، ومن ذلك الوقت اعترف له وهو ابن عشرين سنة جميع أبناء طبقته ؛ بأنه تلقى راية العلم باليمين*(2).
مواهبه وجده
قضى رفاعة في الدراسة في الأزهر زهاء ثماني سنوات ، كان فيها مرموقًا لذكائه وجدِّه ، وسلامة ذوقه ، ودقة فهمه ، لم يكن يلتزم طريقة زملائه الطلاب في مبدأ طلبه ؛ = بل كانت دروسه تتعدد في اليوم الواحد تعدادًا زائدًا عن طاقته و وسعه*(2).*
وقد اشتغل في الأزهر بعد تخرجه بتدريس كتبٍ شتى في المنطق و البيان و البديع و العروض و الأدب وغير ذلك وكان سهل الأداء ، عذب الأسلوب ، فصيح التعبير ، قادرًا على تصوير المعنى بطرق مختلفة ، يجد الذكي و غيره في درسه نفعًا وإرشادًا وهداية.
ولقد يبلغ به الجد والمثابرة أنه لا يقف في ذلك اليوم و الليلة على وقت محدود ، فكان ربما عقد الدرس للتلامذة بعد العشاء ، أو عند ثلث الليل الأخير ، ومكث نحو ثلاث أو أربع ساعات على قدميه في درس اللغة ، أو فنون الإدارة و الشرائع الإسلامية ، و القوانين الاجنبية ، و كذلك كان دأبه معهم في تدريس كتب فنون الأدب العاليه ؛ بحيث أمسى جميعهم في الإنشاء نظمًا ونثرًا أطروفة مصرهم ، وتحفة عصرهم ، ومع ذلك كان هو بشخصه لا يفتر عن الاشتغال بالترجمة أو التأليف ، و كانت مجامع الامتحان لا تزهو إلّا به*(3).
الوظائف التي شغلها
شغل رفاعة بك كثيرًا من الوظائف العلمية و الإدارية ، فكان فيها مثلًا رفيعًا للكفاية و الجد ، ونموذجًا يحتذى في بروز الشخصية و وفرة الإنتاج ، و قد عثر صالح بك مجدي صاحب كتاب ( حلية الزمن بمناقب خادم الوطن ) على ورقة مختومة سرد فيها رفاعة المناصب التي تقلدها ، و الأعمال التي اضطلع بها ، وذلك أنه عُيِّنَ خطيبًا و واعظًا لدى _حسن بك المانسترلي_ ، الذي ارتقى فيما بعد رتبة الباشوية ، وعين في منصب (( الكتخدائية )) في عهد عباس باشا الأول _، وتُوفيَ في زمن محمد سعيد باشا _ ، ثم نقل إلى مثل هذه الوظيفة لدى أحمد بك الشكلي ، الذي مُنح رتبة الباشوية فيما بعد ، و توفي في عهد محمد سعيد باشا.
رفاعة في البعثة
ولما أراد محمد علي أن يرسل طائفةً من الشباب النابهين إلى باريس ؛ لينقلوا علوم الغرب وآدابه وثقافته ، و طلب من الشيخ حسن العطار ، أن ينتخب لهم إمامًا من علماء الأزهر ، فيه الأهلية و اللياقة ، اختار تعيين صاحب الترجمة لتلك الوظيفة .
و كان الشيخ حسن العطار من المعجبين بذكائه ، المقدرين كفايته و علمه ، فزكَّاه لهذا العمل الذي كان باكورة نجاحه و مطلع شهرته وانبلاج صبحه.
اتجه مع البعثة إلى باريس موصًّى من شيخه العطار بأن يجدي على بلاده بعمل رحلة ، يسجل فيها ما يشاهده في فرنسا من أحوال و أخلاق و عادات فألف رحلته المشهروة التي سماها : ( تلخيص الإبريز ، و الديوان النفيس ) ، وقد شرع يتعلم الفرنسية منذ غادر مصر ، وبذل همه وعزمه ، واتخذ له بعد وصوله إلى باريس معلمًا خاصًّا على نفقته ، و ما لبث في هذه البلاد أن عرفه العلماء و الأدباء و قدروه حق قدره و كان للمسيو ( جومار ) فضل سابغ عليه بإرشاده وتعليمه و وفائه له في وده ، كما فعل ذلك معه العالم الشهير ( البارون دساسي ) .
و في المدة التي أقامها بباريس بين _ ١٢٤١ و ١٢٤٦ هجرية ؛ نبغ في العلوم و المعارف الأجنبية ، و لاسيما في الترجمة في سائر العلوم على اختلاف مصطحاتها ، ولم تكن هذه المدينة البراقة الفاتنة لتصرفه عن التوفر على المثابرة والتضلع في ثقافة هذه البلاد ، أو تجرح خلقه وحصانته ، بل أكبَّ على عمله غير مدخر وسعًا ، حتى ترجم خلال إقامته بباريس جمهرةً من الرسائل و الكتب ، منها : ( قلائد المفاخر ) و الذي سنذكره في آثاره.
عودة رفاعة من بعثته
ولما رجع من بعثته عُيِّنَ في سنة ١٢٤٩هـ ؛ بمدرسة الطب بأبي زعبل في وظيفة مترجم و مدرس للغة الفرنسية ، ورئيسًا لقسم الجغرافيا بالمدرسة ، ثم انتقل في السنة نفسها إلى مدرسة الطوبجية ، وأقام بها إلى سنة ١٢٥١ هـ ؛ شغل وظيفة مترجم ، و كانت هذه المدرسة قائمة على تحصيل الفنون العربية ، مؤسسة لترجمة العلوم الهندسية و الفنون العسكرية ، ويقول صاحب (( حلية الزمن )) صـفحة رقم -١٢؛ وقد عثرت له مدة إقامته بها على رسالةٍ مترجمةٍ في الهندسة العادية ، مطبوعة بمطبعة بولاق البهية ، و هذه الرسالة من جملة الرسائل الفرنسية التي يقرؤها التلامذه بمدرسة سانسيرا بفرنسا ، و قد انتفع بها أبناء هذه المدارس .
ثم وكلت إليه نظارة ( قلم أفرنجي ) في عهد محمد سعيد باشا ، و نيطت به نظارة دار كتب قصر العيني ، و كانت ضخمة حافلة بالأسفار ؛ إذ تضم أثني عشر ألف ، أو خمسة عشر ألف مجلد ، ومعظمها بالفرنسية و الإيطالية*(4).
كما وُكِّلَت إليه رئاسة فرقة تلامذة الجغرافيا بهذا القصر.
رفاعة ومدرسة الألسن
و كانت هذه المدرسة من وحي رأيه ، وثمرات فكره ، فقد عرض على الجناب العالي أن تنشأ هذه المدرسة لتجدي على الوطن أبلغ جدوى ، و ليستغني بها عن الأجانب الدخلاء ، وقد عهد إليه اختيار التلامذة لهذه المدرسة فطاف بهم ، وانتخب مَن وجد فيه صلاحية وكفاية .
أسس رفاعة مدرسة الألسن، وانتهت إليه إدارتها والإشراف على تلاميذها والترجمة بها ، وعلاوة على قيامه بإدارة المدرسة من الوجهة الفنية ، كان ناظرًا لها من الوجهة الإدارية ، كما كان يشرف على مراجعة و إصلاح الكتب التي كان يمر بها تلامذته *(5).
ولما كان مرهقًا بكثرة العمل ، و الاضطلاع بمختلف الشئون ، خصص له ديوان المدارس مدرسًا فرنسيًّا ليعاونه في إدارة المدرسة ، و التفتيش على الدروس وأمانة المكتبة ، وليخفف بمعاونته من هذه الأعمال التي يضيق الزمن بها ، فإنه كان يطوف كل عام بمكاتب المبتديان في الأقاليم ؛ ليشرف على امتحان التلاميذ الذين يتقدمون إلى المدرسة التجهيزية ؛ ليلحق المتفوقين منهم بها .
و من العجيب أن يضطلع إلى جانب هذا كله بنظارة مدرسة التجهيزبة ، و الوقائع المصرية ، و الكتبخانة الأفرنجية ، و مخزن عموم المدارس ، و الإشراف على قلم الترجمة الذي أُسِّس بمدرسة الألسن ، و الإشراف على مدرسة المحاسبة و الفقه الشرعيّ ، و الإدارة ، و الأحكام الإفرنجية ، وملاحظة المكتب العالي ( بالخانقاه ) ، وقد ظل رفاعة بك مديرًا لمدرسة الألسن ، و المدارس الملحقة بها ، حتى أوائل عصر عباس الأول ؛ حيث نُقلت من الأزبكية إلى الناصرية و لما ألغيت مدرسة الألسن ، عُيِّنَ ناظرًا للمدرسة الابتدائية التي أنشئت في الخرطوم .
تلك هى الوظائف التي شغلها رفاعة بك ، الذي كان حركة دائبةً و عملًا موصولًا ، و إنها لجهود جبارة تتقاصر دونها جهود الرجال وتعيا عن حملها قوي متضافرة و عزائم متعاونة ، عدا ما اضطلع به من أعمال جسام عقب عودته من الخرطوم .
و لنظارته لمدرسة الخرطوم بالسودان قصةٌ تهوى النفوس معرفتها : سوف نكلمها في موضوع اخر وكيف كان نفيه إلى الخرطوم ، وأثر رفاعة في الحركة العلمية فى السودان واكتفي بهذا القدر ......... حتى لا أطيل عليك عزيزي/ت ...
و هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺
إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼
*الـمـراجـع .___________________________
*(1) الخطط التوفيقيه ، جـ ١٣ ، صـ ٥٤._________
*(2) حلية الزمن بمناقب خادم الوطن ، للسيد صالح مجدي صـ٥______________
*(2) نفس المرجع صــ٥_________
*(3) الخطط التوفيقيه ، جـ١٣ ، صـ٥٤______
*(4) تقويم النـيل ، لأمين باشا سامي جـ٢ ، صـ ٤٤٨.___
*(5) دفتر رقم ٢٠٢١ ( مدارس تركي ) ، جلسة شورى
المدارس ، في ٢١ من ذي القعدة ، سنة ١٢٥٢ هـ.