الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته
رحلة الأمير ردُولف
أبهرت و بهرت مصر الكثير من الرحالة و المؤرخين منذ أقدم العصور فلم يستطيعوا مقاومة سحر طبيعتها الخلابة التي تمتزج مع أصالة الماضي ، و إبداع النقوش المحفورة على الجدارن ، و إلهام الأزمنة القديمة و غموض الصحراء ، و تدفق النهر الخصب ، فوفدوا بأعداد كبيرة و توغلوا في جوهر الحياة المصرية ليسبروا أغوارها ، و دونوا مشاهداتهم التي ساهمت في ازدياد الوعي العام للغرب بالواقع الشرقي ، و من أجمل العبارات ما قاله الرحالة الفرنسي _جوستاف فلوبير_ ( إن الشرق يبدأ من مصر ).
و في عهد الخديوي إسماعيل في عام ( 1875 ) من الميلاد زار مصر صاحب السمو الإمبراطوري و الملكي الأمير رودولف من آل هبسبرج بالنمسا ، و بدأ رحلته المثيرة بجولة ما بين ربوع مصر بدءًا من الإسكندرية و مرورًا بالقاهرة و الفيوم و الصعيد و بورسعيد ، ثم قطع قناة السويس و تجول في البحر الأحمر قبل أن يذهب إلى فلسطين.
و بصفته أميرًا فكانت رحلته رسمية ، و كان محاطًا بالمرافقين و الحراس و لم يختلط اختلاطًا مباشرًا بعامة الشعب كسائر أبناء الطبقة الراقية ، و قضى معظم رحلته يشبع هوايته في رياضة الصيد الترفيهية التي كان يمارسها النبلاء و الأثرياء في ذلك الزمان و استخدموا الكلاب لمطاردة ما تجود به الطبيعة من فرائس.
و خلال جولته في مصر استغرقته التفاصيل المفعمة بالحياة و الطبيعة البكر فكتب و صفًا مفصلاً لعوالم الشرق السحرية التي تجسد الجمال الحيَّ ، كما سجل أهم المعالم الجغرافية و الأثرية التي أبهرته روعتها ، و ذكر العديد من أنواع الطيور التي ظفر بها مثل البلشون و أبو قردان و الكركي و الوروار و الحدأة و الصقور ، و دون أسماء الحيوانات البرية التي طاردها و كانت منتشرة في القري و الصحارى و الحدائق مثل الذئاب و ثعالب الصحراء و السحالي و ابن آوى و الوشق و الضباع ، فأظهرت كتاباته مدى ثراء مصر في الحياة الحيوانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر .
و يقول الأمير رودولف في رحلته قائلاً إنه يقاسي من برد أوروبا الشديد و يأمل بأن يستمتع عما قريب بدفء بلاد الشرق المتوهج و يرتوي من جمالها الأخاذ ، و بعد و صوله يصف لنا مشاعره الفياضة ، فيقول : ( و تجاوزنا الحديقة الغناء و رأينا أشجار الجميز الضخمة و الروائح العطرية تنبعث من بساتين البرتقال ؛ إنها عطور الشرق المسكرة و امتلأت السماء بنجوم لا حصر لها و أنعش الهواء الدافئ الناعم و جوه الأوروبيين البائسين ، لقد كانت ليلة إفريقية حقيقية غاية من الروعة ؛ إذ ينبغي على المرء أن يدرك السحر اللذيذ لهذه البلاد السعيدة ، ليفهم جاذبيتها التي تفوق الوصف و فتنتها التي لا حدود لها و الشوق الشديد لكل من عاش فيها ليعود إليها ، ففي هذه البلاد ، فقط لا سواها ، يمكن أن يكون مهد البشرية حيث الشرق المزهر الباسم و الصيف الواضح غير الكئيب لا في بلاد الشمال الجرداء العابسة ).
و استقل الأمير رودولف القطار من مدينة الإسكندرية إلى القاهرة شاقًّا طريقه و سط القرى و الحقول ، فشاهد روعة الريف المصري و بساطة الحياة و سط الطبيعة و سجل ملاحظاته : (( تتبع طيور النورس و الفلاحين الذين يحرثون الغيطان و طائر أبو طيط الرشيق ، و بين أشجار الحقول على شاطئ النهر يهدل الحمام وزمج الماء ( طير النورس ) الطائر المصري الأصيل ذو المنقار الطويل ينقض صائدًا السمك، و يرى المرء من القطار الذئاب و هي تعدو في الحقول ، و تحوم الصقور و النسور فوق القرى ، إنه عرض متباين مفعم بالحياة و مشوق للنشاط البشري و الحياة الحيوانية)).
و بعد و صوله إلى القاهرة قام الأمير رودولف بجولات بين الأحياء القديمة و الحديثة ، فأعجب بالملابس الشرقية المزركشة و ببساطة أولاد البلد ، و قد سجل لنا مشاهداته للأعداد الضخمة من الحدآت التي تحلق في سماء القاهرة ، و الحدآت هي طيور جارحة داكنة اللون آكلة للحوم تعيش في جماعات و كانت منتشرة بكثرة و لم يكن مسموحًا بصيدها أو بقتلها لأنها تنظف القاهرة من النفايات و تنقي نهر النيل من أي مخلفات يجرفها النهر في طريقة ، تنقض أعداد الطيور الهائلة على بقايا الطعام و الجيف فتلتهمها في الحال و تترك الشوارع نظيفة .
و يبدأ الأمير رودولف وصفه قائلاً : (( و لا أستطيع أن أصف أسواق القاهرة و صفًا مفعمًا بالحياة زاخرًا بالألوان ؛ إنها مناظر جديدة تصافح عيون الغرباء في كل منحنى ، و قد اشتريت بعض الحلى العربية و درعًا قديمة و بعض المشغولات الذهبية و الفضية ، و في سوق السجاد ذهبت إلى حوش منزل تاجر ثري ، و بسط هذا الرجل العجوز باعتزاز يفوق الوصف سجاجيده الراقية الثمينة ؛ ثم انطلقنا في شارع شبرا ذي الخضرة و الظلال ، و تتابعت الصور صورة في إثر صورة و كأننا في حلم ، زحام بشري و جِمال محملة و حمير صغيرة و شرقيون في ملابس زاهية ملونه و محلات فتحت جوانب من أبوابها و مقاهِِ يجلس زبائنها أمامها ، و أطفال يتشقلبون فوق التراب و هم يصيحون و يتدافعون بشدة و لم يتنح واحد منهم ، و فلاحات أصابهن الرعب يحملن جرار الماء فوق رءوسهن ، يهربن صارخات بمجرد اقتراب الحافلات بقوة ؛ لقد أبهجتني البساتين الناضرة بأزهارها الفواحة و شجيراتها و نخيلها التي تداعب النسائم أغصانها و جريدها ، و رأيت و وسط مدينة القاهرة عددًا من الطيور الجارحة ، آلاف الحدآت تحلق في الجو أو تقف على الأسطح ، و سمعت أغاني الطيور ، و غمرت نفسي في النسائم الشافية لمصر المقدسة )) كما وصف الأمير.
و أثناء زيارة الأمير إلى الجامع الأزهر الشريف جذب انتباهه منظر لم يعتاد عليه ؛ و هو منظر الحلاقين و هم منهمكون بعملية الحلاقة في الشوارع ، و كانوا يقومون بحلق الرءوس بطريقة فريدة ، و علق عليها في كتابتة قائلاً : (( و قد أمتعت نفسي بملاحظة أساليب الحلاقين الشرقيين العريقين إلى جانب بوابة جامع الأزهر الرئيسية و هم يجلسون متربعين على الأرض ممسكين برءوس زبائنهم بين ركبهم و بعد أن يفرشوا رءوسهم بالصابون اللاذع يحكون بأمواسهم رءوس الزبائن حتى تغدو ناعمة كالزجاج ؛ فلا أحد من المصريين يحتفظ بشعر رأسة سوي أفقر الفلاحين أو البدو غير المتحضرين ، و في المدن يعتبر الرأس الأصلع علامة من علامات الجمال ، و يقوم الحلاقون بحركات رشيقة أثناء تزيين زبائنهم و قص شعورهم و غسل رءوسهم و تعطيرهم بعطر زيت الورد و غيره من الدهانات العطرية مما يروج لنشاطهم )).
ذهب الأمير رودولف لمشاهدة الأهرام و أبو الهول ، فانبهر بروعة الحضارة المصرية القديمة و الأهرام إحدى عجائب العالم القديم التى تقف صامدة تتحدى الزمن ، فوقف يتأملها و يتغزل في إبداعات المصريين و دون و قال : (( و عند قصر النيل عبرنا النهر المقدس و جزيرة بولاق و تجاوزنا بعض الفيلات و الحدائق البهية و سرعان ما و صلنا إلى طريق مرتفع تحفه الأشجار و يمر ببعض القرى حتى حافة الصحراء ؛ لقد سارت بنا المركبة و توقفت عند قاعدة تكوينات عملاقة تطل علينا من عمق آلاف السنين من تاريخ العالم ؛ إن كل رحالة يحملق للمرة الأولى في الأهرمات الباقية من أزمنة سحيقة تغشاه رهبة من نوع خاص ، أيمكن أن يلمس بيديه أحجارًا ظلت باقية من قبل إبراهيم الخليل عليه السلام! إنها ما زالت باقية بسبب جهد الإنسان و مهارته ، لقد رأينا أهرامات خوفو و خفرع ومنقرع كما رأينا أبوالهول و قد غطت الرمال نصف جسده ، و شرع بعض العرب في تسلق الهرم الثاني لطرد حيوانات ابن آوى الكامنة بين صخوره ، و غربت الشمس و سبحت المرئيات في بحر من الضياء البهية و تألقت أحجار الأهرام الرمادية كالذهب )).
جال الأمير رودولف طوال رحلته بين مدن و أقاليم مصر و ذهب إلى مدينة الفيوم جنة الصحراء التي كانت تلقب قديمًا بحديقة مصر و تقع في الصحراء الغربية على بعد حوالي تسعين كيلومترًا جنوب غرب القاهرة ، و تعتبر الفيوم مستقرًّا لكثير من أنواع الطيور المهاجرة ، و كانت قديمًا من أهم مناطق صيد البط ؛ قضي الأمير رودولف عدة أيام في الفيوم لإشباع هوايته في الصيد ، يبدأ يومه مع بزوغ أول أضواء الصباح الباكر ، فيخرج لرحلة نائية يتبع أسراب الطيور التي تحلق في جماعات ، و يطارد الفرائس التي تعدو هاربة دون كلل و لا ملل ، و يعود قبل أن تأوي الشمس إلى مخدعها متباهيًا بغنيمته الثمينة ، يبدأ رودولف سرده قائلا : (( يجيد الشرقيون إعداد الوجبات في الخلاء كما يجيدون نصب الخيام بسرعة و بشكل مريح و لا أحد يباريهم في ذلك ، فسعيد هو من يسافر معهم ، و في الصباح الباكر رحنا نلاحظ أسراب طيور الماء أثناء تجوالنا على شاطئ الجزيرة لاختيار البقع المناسبة لتمركزنا ، و ما كدنا نغادر الخيام حتى رأينا أسرابًا من الغاق و أنواعًا من البط البري و البلشون و البجع الذي يبعث منظره على السرور ، و قد ذهبت أنا و الدوق الكبير و اختبأنا بين شجيرات الصفصاف و مر علينا كل أنواع الطيور ، فأطلقنا و كانت النتائج مثمرة فلم نكن نمكث إلا قليلا انطلق طلقات أخرى ، و كان حصادنا غير عادي ، ستة ذئاب أحدثنا بها جروحًا في يوم واحد و وشقين ( حيوان أصغر من النمر ) و سبعة ثعالب و نمسين و أرنبين بريين و أربع بجعات و نسرين من نسور النهر وأحد صقور الجيف و نسرًا إفريقيًّا جارحًا و مائة و سبعين طائرًا ، صغيرًا كان من بينها أنواع غربية )) .
و حصيلة الصيد الضخمة توضح مدى غنى مصر في الحياة الطبيعية في ذلك الزمان ، تتنوع في مصر الأقاليم البيئية ما بين واحات و صحارى و جبال و سواحل و هضاب ، و تبعًا لكل إقليم تتعدد أنواع الحياة النباتية و الحيوانية الكائنة به ، فتزخر أرض مصر بالكثير من الحيوانات و الطيور النادرة .
كما تمتلك أكبر ثروة سمكية في العالم لوجود البحر الأحمر و البحر المتوسط و نهر النيل على أرضها، كما تعد مصر من أهم طرق هجرة الطيور في العالم ، تعبرها ملايين الطيور كل ربيع و خريف ، و بعضها يقضي فصل الشتاء لدفء الجو ، و للأسف الشديد تضاءلت أعداد الطيور و الحيوانات بسبب التغيرات البيئية المطردة في العالم نتيجة للتقدم العلمي و التكنولوجي ، و نتيجة لسلوك الإنسان الذي ساهم بنصيب كبير في هذه التغيرات فأخل بتوازن النظم البيئية.
كما أدي الصيد غير المنتظم إلى تعرض أعداد كبيرة من النباتات و الحيوانات البرية إلى الانقراض فأعلنت مصر العديد من المناطق محميات طبيعية لتحافظ على الحياة الطبيعية و تحمي العديد من الحيوانات و الطيور و النباتات من الانقراض.
هذا و اللّٰه أعلم 🌼🌼
إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼