الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.
نكمل اليوم ما شرعنا فيه من موضوع سابق عن 👈التوكل👉،
حول موضوع (( السببية )) أو (( العِلِّيَّة )) و طبيعة العلاقة بين طرفيها : السبب أو العلة من ناحية ، و المسبَّب أو ال معلول من ناحية أخرى ، و هذا الموضوع يتعلق بقضية التوكل على اللَّه تعالى ، و يمسُّها مسًّا مباشرًا ، و سوف نتخذ موضوع النار والإحراق مثالًا نمثل به : (( النار )) سببًا أو عِلَّة ، و (( الاحتراق )) مسبَّبًا و معلولًا.
كل منا يعلم علم اليقين من مشاهدته اليومية للعلاقات بين الأشياء في عالم المحسوسات أنه لا يمكن أن يحدث (( شيء )) أو يوجد من (( لا _ شيء )) فإذا شاهدنا مثلًا قطعة من القطن أو الورق تحترق فإن العقل يفترض أن هناك (( نارًا )) كانت هي السبب او العلة في حدوث ظاهرة الاحتراق ، و حين نقف أمام هذا المثال ، أو هذه الظاهرة وِقفة تأملٍ فلسفيٍّ عميق نجد أن هذه الظاهرة تتركب من ثلاث عناصر :
الأول : النار ، وهو ما يسمى بالسبب ، أو العلَّة ( في لغة الفلسفة ) .
الثاني : الاحتراق ، و هو ما يسمى المسبَّب ، أو ال معلول ( في لغة الفلاسفة أيضًا ).
الثالث : العلاقة بين النار كسبب و الاحتراق كمسبَّب .
و العنصر الأول ظاهر للحسِّ و للعيان ظهورًا بستحيل معه الجدل أو النقاش في ثبوته و وجوده ، و كذلك العنصر الثاني يثبته الحس و العيان ثبوت الشمس في رابعة النهار .
أما العنصر الثالث و هو العلاقة بين النار و الاحتراق فهو عنصر شديد الخفاء و الغموض ؛ بسبب أن برهان الحس و العيان و المشاهدة لا يُثْبت لحواسِّنا أن النار هي التي أحدثت الاحتراق و خلقَتْه في القطن أو الورق ، و كل ما تثبته المشاهدة هو أن ظاهرةً أولى حدثت ، و هي النار ، أعقبتها في الحدوث ظاهرة ثانية هي : الاحتراق ، و لا شيء بعد ذلك مما يتعلق بهاتين الظاهرتين ؛ و إذا ما رمزنا إلى النار برمز (أ) ، و للاحتراق برمز (ب) ، فإن كل ما في أيدينا من براهين و أدلة لا يقول أكثر من أننا تعودنا أن نري (ب) تحدث كلما حدث (أ) ، أما أن (أ) هي التي أَوْجدت (ب) و خَلَقتْها فهذا ما لا أعرفه ، فقد تكون (أ) هي التي أَوْجَدَت (ب) ، و قد تكون هناك قوة أخرى هي التي أَوْجَدتْ (أ)و (ب) معًا.
هذا التساؤل تصدى له بعض من عظماء الفلاسفة و المتكلمين من المسلمين ، و بعض من فلاسفة الغرب في العصر الحديث ؛ لما له من اتصال مباشر بمسألة الاستدلال على وجود اللَّه _ تعالى ! _ بدليل العِلَّة و ال معلول ، و قد كانت لهؤلاء و هؤلاء أنظار بالغة الدِّقَّة و العُمق الفلسفي ، و يهمنا منها _ في هذه العجالة _ موقف الأشاعرة ، و بخاصة عند الإمام الغزالي _ رحمه اللَّه !_.
و ربما يَنفرد الإمام الغزالي بصراحته المطلقة في اقتحام هذه المشكلة ، و هو يُقرِّر أنه ليس بصحيحٍ ما نعتقده من أن السبب _ او العِلَّة _ في عالم الأشياء و الظواهر الإنسانية و الطبيعية يُوجِد المسبَّب او ال معلول ، و مِن ثَمَّ ليس صحيحًا أن ( النار ) هي التي توجِد الاحتراق أو تحدثه ؛ و الصَّحيح أن مَن أوجد الاحتراق _ عند ملاقاة النَّار للقطن _ هو : اللَّه _ تعالى ! _ و حده.
و حين يعترض معترض على الإمام الغزالي بأن المشاهدة _ و هي أقوى الأدلة و البراهين _ تؤكِّد أنه كلما حدثت ملامسةُ النار للقطن حدث الاحتراق ، و أننا لم نر قُطْنًا يحترق بدون نار ، و أن هذا الارتباط الذي لم يتخلف مرة واحدة في عالم المشاهدات لهو البرهان الساطع على أن النار هي فاعلة الاحتراق ، و أن العلاقة بين الأسباب و المسببات هي علاقة عِلَّة ب معلول ، أو مُحدِث بحادث ؛ كالعلاقة بين الأكل و الشبع ، و الماء و الرِّيِّ ، و آلات القتل و إزهاق الأرواح ، و غيرها من آلاف آلاف التجارب و المشاهدات.
و حين يُعترض بهذا الاعتراض فإن الإمام الغزالي يتصدى لتفنيده بأدلة عقلية و تجريبية يصعب ثردها في مقالات .
و لكن بمكن تلخيصها فيما يلي :
أولا : إن الأسباب كلها هي من عالَم الجمادات التي لا علم لها و لا إرادة و لا مشيئة ؛ و الخَلْقُ و الإيجادُ _ الذي هو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود _ لا يمكن أن يحدث من علة _ کالنار مثلًا _ لا علم لها و لا إرادة و لا مشيئة ، و الإخراج من العدم إلى الوجود لا بُدَّ له من فاعل عالم بما يخرجه و مريد لخروجه من العدم للوجود.
ثانيًاو : حجر الزاوية في بناء المذهب الأشعري بعامة ، سواء فيما يتعلق بأصول الدين أو في فروعه _ هو المبدأ المنطقيُّ الثابت ، و الذي يُقرِّر أنَّه لا فاعل و لا مؤثِّر في الأكوان و الأشياء و المخلوقات كلها إنسانية أو طبيعيَّة إلَّا (( اللَّه )) _ تعالى !_ وحده ؛ و أَصْلُ ذلك _ عند الأشاعرة _ أن صفة (( القدرة )) الإلهية شاملة و عامة لا يخرج عنها مقدور واحد من مقدورات الكون ؛ و يلزم على ذلك أمران :
الأول : أن اللَّه هو _ وحده _ الخالقُ و الموجدُ و الفاعل في كل ظواهر الكون و أشيائه و العلاقات بينها.
الثاني : لا شيء في هذا الكون يمكن أن يستقل بالتأثير في شيءٍ آخر.
و قد تغلغل هذا المبدأ في المذهب الأشعري ، و حَكَم كل تصورات الأشاعرة وأنظارهم سواء في الإلهيات أو الطبيعيات أو الأخلاقيات ؛ و من هنا يصعب جِدًّا إن لم نقل : يستحيل_ أن يجتمع _ في مذهبهم _ الاعتقادُ بشمول القدرة الإلهية لكل المقدورات و عمومها لسائر الممكنات ، ما كان منها إنسانيًّا و ما كان طبيعيًّا ، و الاعتقاد بثبوت أي تأثير لأي شيء غير اللَّه _ تعالى !_ بما في ذلك الأسباب والمسببات ، و ما يبدو للعيان من تأثير بعضها في بعض ، فالجميع بين هذين الطرفين هو جمع بين نقيضين يستحيل اجتماعهما معًا.
ثالثًا : أما اعتراض الخصوم بأن تكرار حدوث المسبَّب بعد حدوث سببه ، كاف في إثبات علاقةٍ حتميَّةٍ و ضروريَّةٍ ، هي علاقة التأثير و التأثُّر بين السبب و المسبَّبة ، فإن الإمام الغزالي ، يَردُّ هذا الفرض و يستبدل به فرضًا آخر يؤكد فيه أن العلاقة بين السبب والمسبَّب ليست علاقة تأثير و إيجاد ، و إنما هي علاقةُ (( اقترانٍ )) عادي ، أو تجاورٍ متكرِّرٍ ، و أن تكرار الاقتران بينهما و تتابعه بحكم العادة التي سنَّها اللَّه _ تعالى ! _ لتسيير عالَم الكائنات و الأشياء _ هو الذي خَدَعَنا و جعلنا نعتقد أن السَّبب يستتبع مُسبَّبَه لا محالة ؛ و أن النار هي التي فعلت الاحتراق وأحدثته ، و إلَّا فإنَّ مجرَّد (( الاقتران )) الدائم بين ظاهرتين لا يدلُّنا _ عقْلًا و لا مشاهدةً_ على أن إحداهما علة مُوجدة ، و الأخرى معلولة لها في وجودها ، حتى لو تكرر ذلك ملايين الملايين من المرات ، و إذن فالبرهنة على إثبات هذه العلاقة _ حِسًّا أو عقلًا _ لا سبيل إليها.
بل يذهب (( الإمام )) إلي ما هو أبعد من ذلك فيُقرِّر أن في إمكان القدرة الإلهية أن تُحدِث (( الاحتراق )) من غير نار ؛ و الشِّبع من غير طعام ، و الموت بغير سبب يؤدي إليه..
و في مقدورها أن تُلامس النار القُطْن و لا يحترق..
و ما ذهب إليه الأشاعرة في هذه القضية يتناقض جذريًّا مع ما ذهب إليه بعض فلاسفة المسلمين المتأثرين بالفكر الإغريقي كالفارابي و ابن سينا مِمَّن قالوا بأن الأسباب_ طبيعية أو غير طبيعية _ تؤثر بطبعها اضطرارًا لا اختيارًا ، فالنار هي التي تحرق بطبعها في كلِّ زمانٍ و مكانٍ ، و في جميع الأحوال والظروف ، و لا دَخْلَ لأيِّ مؤثِّر آخر غير طبيعتها التي طبعها اللَّه عليها ، متى تحقَّقت الشروط ، و انتفت الموانع .
و حين نحتكم إلى القرآن الكريم فإنه يتبيَّن لنا _ في و ضوحٍ_ أن مذهب الأشاعرة في هذه القضية هو أصحُّ المذاهب على الإطلاق ، فقد أثبت القرآن الكريم أن النتائج التي تعقب الأسباب مرهونة بقدرة اللَّه تعالى و تدخُّله في كل مثال من الأمثلة التي يُخيَّلُ إلينا _ فيها _ أن الأسباب هي التي تُوجِد النتائج المنتظرة بعد حدوثها ؛ انظر إلى قوله تعالى في قصة إبراهيم _ عليه السلام _ وقَدْ ألقوه في قلب جحيم مشتعل من النيران : { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ }{ الأنبياء : ٦٩ }.
و محل الشاهد في الآية الكريمة أن (( النار )) توفرت لها كل شروط الإحراق ، و إلَّا أن (( احتراق إبراهيم بها )) لم يحدث ، مما يدل المؤمنين باللَّه _تعالى!_ على أن نتائج الأسباب مصيرها بيده_ سبحانه!_ إن شاء حدوثها حدثت ، و إن لم يشأ لم يحدث ، و ليس مصيرها بيد أسبابها تحدثه بذاتها أو بطبيعةٍ ثَبَّتها اللَّه فيها ؛ و لو كان الأمر كذلك ، و كانت النار تحرق بطبيعتها ، لما تخلَّفت طبيعة الإحراق عن النار في قصة إبراهيم _ عليه السلام!_ لأن القاعدة العقلية تقرر أن (( ما بالذات لا يتخلف )) .
و قل مثل ذلك في قصة إسماعيل _ عليه السلام !_ فقد قُدِّم للذبح و اتُّخِذَت أسباب الموت من آلة حادَّة ، و مباشرة للقطع و الذبح ، إلَّا أن الموت لم يحدث ، و قُل مثل ذلك _ أيضًا _ في الطريق اليابس الجاف الذي ضُرِب في عرض البحر لإنقاذ موسى _ عليه السلام!_ و مَن معه ، و حولهم المياه تصطفق يمينًا و يسارًا كالجبال دون أن تطبق عليهم و تغرقهم ؛ بل قُل مثل ذلك في سائر معجزات الأنبياء و المرسلين ، فإنها لا تفسير لها إلَّا التسليم بأن علاقة التأثير و التأثُّر بين السبب و المسبَّب ، و العلة و ال معلول ليست حتمية و لا ضرورية ، و أن ما بينهما ليس إلَّا تجاورًا و تتابعًا في الحدوث .
و السؤال المحوري الآن ، هو : ما العلاقة بين هذا (( التحليل )) و بين (( التوكل على اللَّه )) موضوع المقال و المقالات السابقة؟
و الإجابة بإيجاز ، هي : أن المؤمن مأمور في موضوع التوكل بأمر عمليٍّ ، و أمر اعتقاديٍّ.
_ أما الأمر العملي فهو ضرورة اتخاذ الأسباب و مباشرتها.
_ و أما الأمر الاعتقادي فهو الإيمان بأن هذه الأسباب ليست هي (( العلة الموجِدة )) لما يحدث معها _ او بعدها _ من مسبَّبات أو نتائج ، أما المُوجِد و الفاعل و المُحْدِث لها فهو اللَّه _ تعالى!_ وحده لا شريك له … و بعبارة الأشاعرة : (( يخلق اللَّه المسبَّبات عند اتخاذ أسبابها لا بها )).
و نختم مقالنا بمثال محسوس يعين على تصور مذهب الأشاعرة في هذه القضية البالغة الدِّقَّة ، و هو مثال العلاقة بين ( القلم ) كسبب و ( الكتابة ) كمسبَّب ، فأنت لا تستطيع أن تقول : إنَّ مَنْ أحدث الكتابة هو ( القلم ) و حده و بذاته أو بطبيعته و في استقلال عن الكاتب ؛ لأن القلم _ بذاته _ جمادٌ لا يَعي ما الحروف و لا الكلمات ، و هو مفتقر في (( حدوث )) الكتابة بعده إلى ذات أخرى مستقلة تحركه أو لا تحركه و هنا _ في هذا المثال _ما أشبه النار في مثال الاحتراق ، بالقلم في مثال الكتابه ، فكما يحتاج القلم في حدوث أثره إلى ذات تحركه فتحدث الكتابة ، فكذلك النار تحتاج في حدوث الاحتراق إلى ذات تحدثه ، و إذا كان القلم لا تحدث عنه الكتابة بدون تدخل الكاتب ، فالنار لا يحدث عنها الاحتراق بدون تدخل القُدرة الإلهيَّة و قَبْضتِها التي تمسك السموات و الأرض أن تزولا.
و هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺
إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼
هناك تعليق واحد:
موضوع فلسفي و ديني في آن
إرسال تعليق