حلف الفضول في السيرة النبوية
الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.
ما أحوج امَّتنا في هذا الوقت المعاصر الذي تعيشه أن تقرأ سيرة نبيِّها ، وأن تستلهم منها العِبرة و الـعِـظَـة ؛ فهي النبع الصافي ، و البلسم الشافي لكلِّ ما تعانيه من أمراض و أزمات ، وتضع عن كاهلها إِصْـر الحياة وأثقالها وآلامها ، وترشدها بمعانيها الغزيرة ، و أسرارها العميقة ، قال تعالى ﴿ لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ﴾ ( الأحزاب : ٢١ )..وحين نقف مع هذا الموقف العظيم من مواقف السيرة العطرة التي تركت معانيَ عظيمةً ودلالاتٍ بعيدةً ، وهو موقف حادثة شهوده ﷺ ( حِلف الفضول ) ، فإننا نريد أن نؤكد أهمية ما تحمله شريعتنا الغراء من مبادئ وقِيَم راسخة في العدل ونصرة المظلومين و المستضعفين ورحمة الخَلق جميعًا ، قال ﴿ وَإِنۡ أَحَدٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ يَسۡمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبۡلِغۡهُ مَأۡمَنَهُۥۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡلَمُونَ ﴾ ( التوبة : ٦ ).
و روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن عوف أنَّ رسول اللّٰه ﷺ قال :- (( لا حِلْفَ في الإسلامِ ، وكلِّ حِلْفٍ كان في الجاهليَّةِ فلم يَزِدْهُ الإسلامُ إلَّا شـدَّةً ، و ما يسُرُّني أنَّ لي حُـمْـرَ النَّعَمِ ، وأني نقضْتُ الحِلْفَ الَّذي كان في دارِ النَّدوةِ ))*(1).
و في رواية أخرى (( شهدتُ حلفَ المُطَيَّبين وأنا غلامٌ معَ عمومتي ، فما أحبُّ أنَّ لي حُمْرَ النَّعَمِ و أني أَنكُثُه ))*(2).
والحلف الذي نهى عنه الشرع هو ذلك الذي يكون على النُّصرة في الخير و الشر ، وهو من أخلاق الجاهلية ، أما الحِلف الذي ارتضاه رسول اللّٰه ﷺ وقال عنه : (( فما أحبُّ أنَّ لي حُمْرَ النَّعَمِ و أني أَنكُـثُه)) فذاك هو التحالف والتعاضد والتعاون على الخير فقط ، وهذا ما تؤيِّده النصوص القرآنية و الأحاديث النبوية ، و قال تعالى ﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ﴾ ( المائدة : ٢ ) .
وقال ﷺ (( انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا )) ، قالوا : يارَسُولَ اللَّهِ ، هذا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا ، فَكيفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا ؟ قال :- (( تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ )) *(3).
قال ابن هشام عن هذا الحلف : (( تداعت قبائل قريش إلى حِلف ، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسِنِّه ، فكان حِلفهم عنده : بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وأسد بن عبد العزى ، وزهرة بن كلاب ، وتيم بن مرَّة ، فتعاقدوا وتعاهدوا على إلَّا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم ممَّن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه ، وكانوا على مَن ظلمه حتى تُرَدَّ عليه مظلمته ، فسمَّت قريش ذلك الحلف ـ بـ حلف الفضول ـ ))*(4).
وقد كان حِلف الفضول في شهر ذي القَعدة و سببه أنَّ رجلًا من ( زَبيد ) قدم مكة ببضاعة ، فاشتراها منه ( العاص بن وائل ) ومنعه حقَّه ، فلجأ إلى زعماء من قريش فلم يُعينوه لمكانة العاص فيهم ، و لكن بعض أشرافهم أنكروا عليهم ذلك ، وتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكونُنَّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُرَدَّ إليه حقُّه ، ثم مشوا إلى العاص بن وائل ، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه ، وأبرموا هذا الحلف الذي سُمِّي بحلف الفضول *(5).
و حِلف الفضول هذا هو عبارة عن اتفاق وقع في مكة المكرمة قبل البعثة النبوية بين عشائر مهمة من قريش ، وقد شهِده سيدنا النبي ﷺ لما اشتمل عليه من خير وعدل ، ونحن نستنبط من هذا الحلف بعض الدلالات و القيم النبيلة التي نحتاجها في واقعنا المعاصر اليوم :
أولا : نصرة المستضعفين واسترجاع حقوقهم
فيُعدُّ هذا الحِلف وثيقة تاريخية عظيمة تكشف لنا عن أبرز مبادئ الإسلام وقِيَمه في نُصرة المستضعفين ، والوقوف بجانبهم و الدفاع عنهم ، ورد الحقوق المستلَبة منهم ، بغضَّ النظر عن دِين المظلوم ومذهبه وعشيرته وقوميته و وطنه ، ويطبِّق نبينا الكريم ﷺ هذا المبدأ تطبيقًا عمليًّا ، كما تحكي لنا سيرته العطرة ﷺ في هذا الموقف النبيل الذي نهض فيه الرسول ﷺ لنصرة هذا المظلوم ؛ إذْ (( قدم رجل من - أراش - بإبل له إلى مكَّة ، فابتاعها منه أبوجهل بن هشام ، فمطله بأثمانها ، فأقبل الأراشي حتى وقف على نادي قريش ، ورسول الله ﷺ جالس في ناحية المسجد ، فقال :- يامعشر قريش ، مَن رجلٌ يعديني على أبي الحكم بن هشام ، فإني غريب ، وابن سبيل ، وقد غلَبني على حقي ، فقال أهل المجلس :- ترى ذلك - يهمزون به إلى رسول الله ﷺ ؛ لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة - اذهب إليه ، فهو يعديك عليه ، فأقبل الأراشي حتى وقف على رسول اللّٰه ﷺ ، فذكر ذلك له ، فقام معه ، فلما رأوه قام معه ، قالوا لمن معهم اتبعه فانظر ما يصنع ، فخرج إليه رسول اللّٰه ﷺ حتى جاءه فضرب عليه بابه ، فقال :- مَن هذا ؟ قال :- محمد ، فاخرج ، فخرج إليه ، وما في وجهه قطرة دم ، وقد امتقع لونه ، فقال :- أعطِ هذا الرجل حقَّه ، قال :- لا يبرح حتى أعطيه الذي له ، قال :- فدخل ، فخرج إليه بحقِّه ، فدفعَه إليه ، ثمَّ انصرف رسول اللّٰه ﷺ ، وقال للأراشي :- [ الْحَقْ لشأنك ] ، فأقبل الأراشي حتى وقف على المجلس ، فقال جزاه الله خيرًا ، فقد أخذ الذي لي ))*(6).
وهذا الموقف النبيل من سيدنا رسول الله ﷺ تتجسَّد فيه كل معاني المروءة و الشهامة و النخوة في نُصرة المظلوم وردِّ حقه ، حتى ولو كان ذلك ربما يؤدي إلى مخاطرة في دفاعه عن المظلومين ونُصرة المستضعفين ، وليس هذا بعجيب من رسول اللّٰه ﷺ ، فقد كان أشجع الناس ؛ فعن أنس - رضي الله عنه - قال :- [ كانَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ أَحْسَنَ النَّاسِ ، وأَجْوَدَ النَّاسِ ، وأَشْجَعَ النَّاسِ ، قالَ :- وقدْ فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ لَيْلَةً سَمِعُوا صَوْتًا ، قال :- فَـتَـلَـقَّـاهُـمُ النبيُّ ﷺ علَى فَرَس لأبِي طَـلْـحَـةَ عُـرْيٍ ، وهو مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ ، فَقالَ :- لَمْ تُرَاعُوا ، لَمْ تُرَاعُوا ، ثُمَّ قالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ :- وجَدْتُهُ بَحْرًا ] يَعْنِي الفَرَسَ *(7).
قال القرطبي :-
في هذا الحديث ما يدلُّ على أنَّ النبي ﷺ كان قد جمع له من جودة ركوب الخيل ، والشَّجاعَة ، والشهامة ، و الانتهاض الغائي في الحروب ، و الفروسية وأهوالها - ما لم يكن عند أحدٍ من النَّاسِ ، ولذلك قال أصحابه عنه : إنه كان أشجَعَ الناس ، وأجرأ الناس في حال البأس ، ولذلك قالوا :- إنَّ الشجاع منهم كان الذي يلوذ بجنابه إذا التحمت الحروبُ ، وناهيك به ؛ فإنَّه ما ولَّى قطُّ منهزمًا ، ولا تحدَّث أحد عنه قطُّ بفرار *(8).
لقد أقرَّت هذه الوثيقة مبدأ الدفاع عن المظلومين ، و الحفاظ على أموالهم و أعراضهم ودمائهم ، وقد جاء الإسلام ليقرِّر ذلك فـحرَّم قتل النفس ودعا لحفظ المال و العرض ؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي ﷺ قال :- (( كلُّ المسلِمِ على المسلِمِ حرامٌ ؛ دمُـهُ ، و ماُلهُ ، و عِرضُهُ )) *(9).
ثانيًا : قيمة التعاون و التآزر و الأخوة
لقد أكَّد هذا الحِلف هذه المعاني الراسخة التي تبني المجتمعات وتقوِّيها ، وتجعل للأمَّة مكانتها ورسوخها وهيبتها ، وتعينها على أن تتبوَّأ مكانتها في الأفضلية و الخيرية ، في قوله تعالى :- ﴿ كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ﴾ ( آل عمران : ١١٠ ) .
و قد جاء الإسلام ليقرِّر مثل هذه الفضائل ؛ كالأخوَّة و التآزر و التعاون على فِعل الخير و غيرها ، قال الله تعالى :- ﴿ إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَ أَخَوَيۡكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ﴾ ( الحجرات : ١٠ ) و قال تعالى :- ﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ﴾( المائدة : ٢ ).
و قال رسول الله ﷺ :- (( لا تحاسَدُوا ، ولا تناجَشُوا ، و لا تباغَضُوا ولا تدابَرُوا ، ولا يـبـعْ بعضُكمْ على بيع بعضٍ ، وكُونُوا عبادَ اللهِ إخوانًا ، المسلِمُ أَخُو المسلِمِ ، لا يَظلِمُهُ ولا يَخذُلُهُ ، ولا يَحقِرُهُ ، التَّقْوى ههُنا - وأشارَ إلى صدْرِهِ - بِحسْبِ امْرِئٍ من الشَّرِّ أنْ يَحقِر أخاهّ المسلِمَ ، كلُّ المسلِمِ على المسلِمِ حرامٌ ، دمُهُ و مالُهُ ، و عِرضُهُ )) *(10).
و قال ﷺ :- (( مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم وتَرَاحُمِهِم و تعاطُفِهِمْ ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى )) *(11).
ماذا نستفيد من هذا الحِلف ؟
إنَّ أعظم ما نستفيده من هذا الحِلف ترسيخ قيم التعاون و العدل و التضامن و النُّصرة ، وأن تكون أمُّتنا يدًا واحدة في التضامن و التعاون و التكافل الإنساني ، و هذا جعل سيدنا رسول اللّٰه ﷺ يؤكد أهميتَه ويظهر اعتزازه بالمشاركة فيه بقوله :- (( قَدْ شَهِدْتِ فِي دَارِ عَبْدِالله بْن جُدْعَانَ حَلْفًا مَا أُحِبُّ أَنّ لِي بِـهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ )) .
نسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يعيد لهذه الأمَّـة المباركة ماضيَ عهدِها وسالفَ مجدِها ، وصلَّى الله وسلَّم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا .
هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺
إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان.
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼.
*الـمـراجـع .___________________________
*( 1 ) أخرجة أحمد في مسنده ، برقم : ( ٢٩٠٩ )ـــــ.
*( 2 ) أخرجه البخاري في صحيح الأدب المفرد ، بنص :
(( شهدت مع عمومتي حلف المطيبين ، فما أحب أن أنكثه وأن لي حمر النعم )) أخرجه أحمد في مسنده ، برقم : ( ١٦٥٥) ــــــــــــــــــ.
*( 3 ) أخرجه البخاري في صحيحه ، من حديث أنس رضي الله عنه ، برقم : ( ٢٤٤٤ ) ـــــــــــــ.
*( 4 ) سيرة ابن هشام : ( ٨٧/١ )ـــــــــ.
*( 5 ) الروض الأنف : ( ٦٣/٢ )ـــــــــــــــــــــ.
*( 6 ) البداية و النهاية : ( ٢ / ٣٨٨ ، ٣٨٩ )ــــــــــــ.
*( 7 ) أخرجه البخاري في صحيحه ، برقم : ( ٣٠٤٠ ) ـــــ.
*( 8 ) الـمـفـهـم : ( ٩٩/٦ ) ــــــــــ.
*( 9 ) أخرجه مسلم في صحيحه ، برقم ( ٢٥٦٤ ) ـــــــــ.
*( 10 ) أخرجه البخاري في صحيحه ، برقم : ( ٦٠٦٤ ) مختصرًا ، و مسلم في صحيحه ، برقم : ( ٢٥٦٤ ) باختلاف يسير ، وكلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ـــــ.
*( 11 ) أخرجه البخاري في صحيحه ، برقم ( ٦٠١١ ) ، و مسلم ( ٢٥٨٦ ) ، و اللفظ له ، و كلاهما من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه ــــــــــ.
هناك تعليقان (2):
أكثر من رائع
سلمت يداك اخي الحبيب
إرسال تعليق