الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.
إن الشريعةَ الإسلاميَّة يسَّرتْ للناسِ سُبُلَ التَّعامُلِ ، كي تَظَلَّ أجواءُ المحبَّةِ سائدةً بين الأفرادِ ، و لكي تَبْقَى الحياةُ سعيدةً نَقِيَّةً ، لا يُعكِّرُ صَفْوَها كدرٌ و لا ضَغِينةٌ.
من أجلِ ذلك حَرَّمَ الإسلامُ الاحتكارَ ؛ لما فيه من تَضيِيقٍ على عِبادِ اللَّهِ ، و لما يُسبِّبُه من ظُلمٍ و عَنَتٍ و غَلاءٍ و بلاءٍ ، و لما فيه من إهدارٍ لحريَّةِ التجارةِ و الصناعةِ و الزراعة ، و سدِّ لمنافذِ العملِ و أبوابِ الرزقِ أمام الآخرِين.
و عن المقصودِ بالاحتكارِ و العِلَّةِ في حُرمتِه ! فالجوابُ ؟ :
هو أنَّ الاحتكارَ هو الامتناعُ عن بيعِ سلعةٍ أو منفعةٍ و الانتظارُ حتى يَرتَفِعَ سعرُها ارتفاعًا غير مُعتاد ، مع شِدَّةِ حاجةِ الناسِ أو الدول إليها ، و هو مُحرَّمٌ شَرْعًا ؛ لأنَّه نَوْعٌ من أكلِ أموالِ الناسِ بالباطلِ ؛ قال تعالى : { يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَأْكُلُوٓا۟ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِٱلْبَٰطِلِ }{ النساء _٢٩ } ، و قوله ﷺ : (( لا يَحتَكِرُ إلَّا خاطئٌ )) رواه مسلم …*(١).
كما أن الاحتكار مُخِلٌّ بمُقتضيات الإيمانِ باللَّهِ ؛ لقولِه ﷺ :
(( من احتَكَرَ طعامًا أربعينَ ليلةً فقد بَرِئَ من اللَّهِ و بَرِئَ اللَّهُ منهُ ، و أيُّما أهلِ عَرْصةٍ باتَ فيهم امرئٌ جائعٌ فقد بَرِئَتْ منهم ذِمَّةُ اللَّهِ )) …*(٢).
وإذا كانت العِلَّةُ في حُرمةِ الاحتكار هي الإضرار بالنَّاسِ ، فكل ما يترتب على احتكاره فهو مُحرَّمٌ ، سواءٌ كان الاحتكارُ لطعامٍ او غيرِه ؛ فإن حاجةَ الناسِ لا تتعلَّقُ بالطَّعامِ فقط ، فقد تَشتَدُّ حاجَتُهم إلى كِساءٍ و دَواءٍ و مَأْوى و نحوِ ذلك ، و احتكارُ ما يحتاجونَ إليه من هذه الأشياءِ يُضَيِّقُ عليهم حياتَهم و يُوقِعُهم في حَرَجٍ.
و الاحتكارُ في وقت الشِّدَّةِ و في زَمَنِ انتشارِ الأوبئةِ و الحُروب والمجاعات ؛ أشدُّ حرمةً منه في الظروف العاديَّةٍ ؛ لأنَّه في الظُّروفِ الاستثنائيَّةِ يكونُ من بابِ تشديدِ الخِناقِ و مُضاعَفةِ الكَرْبِ على الناس ، و احتكارُ الأقواتِ و المستلزمات و كل ما تَمسُّ الحاجةُ إليه الآن أشد تحريمًا من احتكارها في أوقات الرَّخاءِ و الأمنِ .
و هنا نجدُ ان الإسلامَ قد أعطى للمسؤول الحقَّ في التَّدخُّلِ المباشرِ لمواجهةِ أزمةِ الاحتكارِ المُضرَّةِ بالمجتمع ، و لإجبارِ التُّجَّارِ على البَيْع بثَمَنِ المِثْلِ ؛ لأنَّ مَصلَحَةَ الناس لا تَتِمُّ إلا بذلكَ.
و أوادُّ أن أُشيرَ إلى أنَّ الإسلام إذا كانَ قد جَرَّمَ الاحتكارَ و حرَّمَه فإنَّه في المقابلِ دعا إلى الترشيدِ و الاقتصادِ و الاعتدالِ في الاستهلاكِ ؛ تحقيقًا للتَّعاونِ بين الناسِ ؛ و عليه فإنَّ فَزَعَ المُستهلِكين و هلَعَهم في تكديسِ الموادِّ الغذائيَّةِ ، و طلب ما لا حاجةَ لهم إليه من السِّلَع ، من أكبرِ عَوامل الاحتكارِ و تشجيعِ المُحتَكِرين على رَفْعِ الأسعار ؛ ممَّا يُعرِّضُ البسطاءَ للظُّلمِ و الحِرمانِ من هذه السِّلع.
و في هذه الظروفِ القاسيةِ ، يجبُ علينا جمَيعًا وُجوبًا شرعيًّا إحياءُ مَسلَكِ الاعتدالِ ، و عدمُ الإسرافِ ، و ترشيدُ استهلاكِ السِّلَعِ ، و هو في حال الأزماتِ أَوْلَى و أَوجَبُ ، و علينا أن نَتذكَّرَ ما قالَهُ _ إبراهيم ابن الأدهم _ عندما اشتكى النَّاس غلاءَ ثمن اللحمِ قال : أَرخِصُوه ؛ أي : لا تشتروه …*(٣) ؛ فالتَّرْكُ كفيلٌ بأنْ يَجعَلَ من الذهبِ سِلعةً رَخيصةً.
و من أنواعِ الاحتكارِ المنهيِّ عنه أن يقتصرَ بيعُ سلعةٍ أو سلعٍ مُعيَّنةٍ على تجارٍ بعينِهم دُونَ تجارٍ آخَرِين ، فهذا الأسلوبُ الملتوي يَدفعُ دفعًا إلى احتكارِ هذه السِّلَعِ ، ورفعِ أسعارِها ، و قَصْرِ شِرائها على القادِرين فقط.
و الاحتكارُ بكلِّ أنواعِة مُحرَّمٌ في شريعةِ الإسلامِ من غير فَرْقٍ أن يَقَعَ الاحتكارُ في قُوتِ الآدميِّ أو قُوتِ الدَّوابِّ ، و العِلَّةُ في ذلك هو إلحاقُ الضررِ بالآخَرين ، و هدمُ أصل من أصولِ القيم و الأخلاقِ ، و مصادرةُ حُقوقِ الناس.
اللَّهمَّ أَصلِحْ لنا دِينَنا الذي هو عِصمَةُ أمرِنا ، و أَصْلِحْ لنا دُنيانا التي فيها مَعاشُنا ، و أَصْلِحْ لنا آخِرَتَنا التي إليها مَعادُنا ، و اجعَلْ الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خير ، و اجعل الموتَ راحةً لنا من كُلِّ شر…*(٤).
{ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلْإِيمَٰنِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }{ الحشر : ١٠ }.
و هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺
إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼
________________________________________
*(١) في ( صحيحه)( ١٦٠٥) من حديث مَعمَر بن عبداللَّه بن نَضلة رضي اللّٰه عنه.
________________________________________
*(٢) أخرجه أحمد في (مسنده )(٤٨٨٠) من حديث عبداللَّه بن عمر رضي اللّٰه عنهما ؛ و العرصة هي : كل موضع واسع لا بناء فيه ، كما في ( النهاية ) لابن الأثير : ٢٠٨/٣.
_________________________________________
*(٣) أخرجة أبو نعيم في ( حلية الأولياء ) ٣٢/٨.
_________________________________________
*(٤) رواه مسلم في ( صحيحه) (٢٧٢٠) من حديث أبي هريرة رضي اللّٰه عنه _ بلفظ ؛ كان رسول اللَّه ﷺ يقول : (( اللَّهمَّ أَصلِح لي دِينِي الَّذي هو عِصمةُ أَمرِي …))
________________________________________
هناك 3 تعليقات:
موضوع مناسب لايامنا الحلوه
نشكركم جزيل الشكر عن الشرح والتبيين الواضح في هذا الموضوع الشائك الذي لم نكن نعيره اهتماماً وهو بهذه الحدّة..ما كنت أحسب أن الطعام والكسوة احتكاراً..!إذن كلنا محتكرون..كنت أظن ان التجار وأصحاب المحلات الكبار هم المحتكرون فقط..؟! اللهم اغفر لنا يارب العالمين.
"راضية بديني"
شبكة قنوات المناهل نشرت ه>ا الموضوع في مدونتها اسعدنا ذلك
إرسال تعليق