المتابعون

الاثنين، 7 أغسطس 2023

الـتَّـوكُّـل…٢ Tawakkul_2


 

الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

في موضوعِ اليوم نناقِشُ دعوَى مَن يزعمون أنَّهم يتوكَّلون على اللَّهِ وحدَه دُونَ الأخذِ بالأسبابِ رغمَ وُرودِ الشَّرعِ بوجوبِ الأخذِ بالأسبابِ ، و سوف نناقش ونكمل ما شرعنا فيه عن موضوع   👈التَّوكِّل 👉.

أنَّ الرَدْ على هؤلاءِ و أمثالِهم : أنَّهم بذلك يخالِفُون صريحةً ؛ القرآنِ الكريمِ ، و صحيحَ السُّنَّةِ النبويَّةِ مخالفةً صريحةً ؛ فقد ضرَب النبيُّ _ﷺ ! _ لنا مَثلًا بيَّنَ فيه حقيقةَ التوكُّلِ ، وارتباطَه _ أشدَّ الارتباطِ _ بالأخذِ والأسبابِ التي تؤدِّي إلى مُسبِّباتِها ، و ذلك في قوله ﷺ : (( لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكَّلِهِ لَرَزَقَكُم كما يَرزُقُ الطَّيرَ ، تَغدُوا خِماصًا و تَرُوحُ بِطانًا )) …*(١).

و رغمَ وُضوحِ الحديثِ الشَّريفِ في لَفتِ الأنظارِ إلى ضرورة سبقِ الأسبابِ للمُسبَّباتِ في هذا المِثالِ إلَّا أنَّ هؤلاءِ يُغالِطونَ و يَلْغَوْن في فهم الحديثِ بما ينسجِمُ مع أهواءَهم ، فيفهمون منه أنَّ _ الطَّيرَ_ لم يَكُنْ لها حولٌ و لا قوَّةٌ ، و لا عملٌ تقدِّمُه بينَ يدَي طلبِ الرِّزقِ ، و أنَّ اللَّهَ تعالى رزقَها لمجَرَّد التوكُّلِ عليه دُونَ اتِّخاذِ أيِّ سببٍ مِنَ الأسبابِ ، و هم يتعامَوْن عن الإشاراتِ العديدةِ التي تؤكِّدُ أن _ الطيرَ_ إنَّما رُزِقَ ( بالتوكُّلِ ) المقرونِ باتخاذِ (( الأسبابِ)) من الغُدوِّ في الصَّباحِ ، و مفارقَةِ الأعشاشِ و الأوكارِ خِماصًا ، : _ خاويةَ البطونِ _ ، ثم تَلَمُّسِ الأشجارِ و البحثِ عن مواطنِ الرِّزقِ المختلِفَةِ ، ثم الرُّجوعِ بعدِ الزَّوالِ بطانًا ، : أي _ ممتلئةَ البُطونِ.

و هذه السلسةُ هي _ في حقيقتِها _ إنما هي أسبابُ و أعمالٌ قدَّمتها جماعاتُ الطَّيرِ و هي تطلبُ الرِّزقَ مِنَ اللَّهِ تعالى ، ولو كان المقصودُ مِن الحديثِ إثباتَ حصولِ الرِّزقِ بسببِ التَّوكُّلٌ و حدَه دُونَ حركَةِ الطَّيرِ و غدُوٌّها و بحثِ كلٍّ مِنهما عما يناسِبُه مِن الأشجارِ و الثِّمارِ _ فلماذا ربطَ اللَّهُ تعالى بينَ كل هذه الحركاتِ و بينَ حَصولِ الرِّزقِ ربطَ المسبَّبِ بالسَّببِ ؟! و لماذا لم يرزقْها و هي في أعشاشِها دُونَ تَكَلُّفِ الطَّيرانِ و الارتحالِ و البحثِ عن مصادرِ القُوتِ ، ما دامَ قد صحَّ منها التوكُّلُ على اللَّهِ ، و اللَّهُ تعالى قادرٌ على أن يرزقَها بمجرَّدِ التوكُّلِ ؟! 

وقد سبَق القرآنُ الكريمُ السُّنَّةَ المشرَّفَةَ في تقريرِ هذا التَّلازُمِ بينَ ضرورةِ اتِّخاذِ السَّببِ و حصولِ ما يترتَّب عليه مِن رِزقٍ أو غيرِه ، و ذلك في قِصَّةِ (( مـريـمَ )) _ عليها السَّلامُ ! _ في قولِه تعالى : { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا }{ مريم : ٢٥ }.

و قد كان اللَّهُ _ تعالى ! _ قادرًا تمام القُدرةِ ، بل أَتَمَّها ، على أن يُسقِطَ الرُّطبِ ابتداءً على_ مريم_ دُونَ أن يُكَلِّفَها فعل أيِّ شيءٍ ، لكنَّه أمرَها بأن تَهُزُّ جِذْعَ النَّخلَةِ ، رغمَ تَعبِها و إعيائِها ليبيِّنَ لنا سُنَّتَه _ تعالى ! _ في ضرورةِ اتِّخاذِ الأسبابِ جنبًا إلى جنبٍ مع _ التوكُّلِ_ و هذا هو التوكُّلُ _ الشرعيُّ الذي أمرَ اللَّهُ به عبادَه و في طليعَتِهمُ الأنبياءُ و المرسلون و المؤمنون به ؛ و معناه باختصارٍ : انحصارُ الاعتقادِ بأنَّ اللَّهَ _ تعالى !_ هو وحدَه الذي يُحدِثُ المسبِّباتِ و يوجدُها و يخرجُها مِن أسبابها ، و أن_ الأسبابَ_ ليست إلَّا مُجرَّدَ إجراءٍ وضعَه اللَّه تعالى يسبِقُ حدوثَ المسبباتِ ، لكنَّه لا يؤثِّرُ في حدوثِها ، و أنَّ العَلاقَةَ بينَ الأسبابِ و ما ينتجُ عنها من مسبَّباتٍ هي مِن بابِ _ التَّجاورِ _ أو _ السَّبقِ _ في الوقوعِ ليس إلَّا ، و ليست مِن بابِ التأثيرِ مِن أحدِهما في الآخَرِ ، لا مِن قريبٍ و لا من بعيدٍ .

تَوَكَّلْ عَلَى الرَّحْمَنِ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ

                        وَ لا تَرْغَبَنْ فِي العَجْزِ يَوْمًا عَنِ الطَّلَبْ(٢)

أَلَــمْ تَـرَ أَنَّ الـلَّـهَ قَـالَ لِـمَـرْيَـمٍ

                                وَهُزِّي إِلَيْكِ الجِذْعَ يَسَّاقَطِ الرُّطَبْ

وَلَوْ شَاءَ أَنْ تَجْنِيهِ مِنْ غَيْرِ هَزَّةٍ 

                                      جَنَتْهُ وَلَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ لَـهُ سَبَبْ.

نعم ! هؤلاء الذين يقولن : نكتفِي بالتَّوكَّلِ على اللَّهِ ، و ليس بلازم أن نتحرَّزَ و نحتاطَ ونفكر في كل شيءٍ _ و ان ما قدِّر اللَّهُ و شاءَه سوف يقعُ ، سواء احترزنا أم لم نحترِزْ _ هؤلاء يخرجون على توجيهات القرآن الكريمِ و السُّنَّةِ النبويَّةِ الصحيحةِ ، و تحضُرُني هنا قصَّةُ سيِّدنا عمرَ بنِ الخطابِ رضي اللّٰه عنه _ مع أُناسٍ مِن أهلِ اليمنِ ، كانوا يُلقِّبون أنفسَهم بالمتوكِّلِينَ ، و كانوا يخرجُون إلى الحَجِّ بدُونِ زادٍ و لا ماءٍ و لا راحِلَةٍ ، و قد رآهم (( عُـمَـرُ )) على هذه الحالِ فقالَ لهم : (( مَن أنتم ؟ قالوا : نحن ( المتوكِّلُونَ ) ، قال : بل أنتم 

( المتأكِّلون ) أي : تأكلون مِن كَسبِ غيرِكم ، و إنَّما المتوكِّلُ الذي يُلقِي حبَّةً في الأرضِ ثُمَّ يتوكَّلُ علَى اللَّهِ عزَّ وجَلَّ ))…*(٣).

و حكي عنه أيضًا أنَّه أنكَر على جماعةٍ جَلوسَهم في المسجِدِ بعدَ صلاةِ الجُمُعَةِ ، و قال لهم (( لا يَقْعُدَّن أحدُكم عن طَلَبِ الرِّزقِ و يقولُ : ( اللَّهُمَّ ارزقني! ) و قد عَلِمَ أنَّ السَّماءَ لا تُمْطِرُ ذَهَبًا و لا فِضَّةً ))…*(٤).

و مما يجِبُ أن يعتزَّ به المسلِمُ أيَّما اعْتزازٍ في بابِ _ تعظيمِ _ العملِ و شَرفِه و وجوبِه _ على القادرين _ في جميعِ الأحوالِ و الظُّروفِ و المناسباتِ قولُه ﷺ ! : (( إذا قامَتِ السَّاعةُ و بِيَدِ أحدِكُم فَسِيلةٌ فإنِ استطاع ألَّا تقومَ حتَّى يغرِسَها فليفعَلْ )) …*(٥).

و معنَى الحديثِ : لو انَّ الأرضَ زُلزِلَت و قامَتِ القيامَةُ ، و في يَدِ مسلِمٍ شَتْلَةُ نَباتٍ صغيرةٍ ، فإن استطاعَ أن يزرَعَها و يَغْرِسَها في الأرضِ فواجبٌ عليه شرعًا أن يغرِسَها.

و قد يَرِدُ _ في هذا السِّياقِ _ تساؤلٌ مشروعٌ ، هو : كيف يتوَجَّهُ على المسلِمِ أَمرٌ شرعيٌّ بالقيامِ بعملٍ يَتَيقَّنُ كُلَّ اليقينِ أنَّه لا جدوَى منه ، بل يراه في مثلِ هذه الظُّروفِ عبثًا و ضَرْبًا مِن كواذب الأوهام و الأماني ؟! 

و الجوابُ : أنَّ العملَ في شريعةِ الإسلامِ و اجبٌ شرعيٌّ متى بَقِيَ للمسلمِ قَدْرٌ مِن عقلٍ و قدرةٍ على القيامِ به ، بغَضِّ النَّظرِ عمَّا يترتَّبُ على هذا العمل من ثمارٍ أو نتائجَ.

و الإسلامُ يتفرَّدُ بهذه النَّظرةِ إلى _ العمل _ و قيمَتِه ، و يَطْلُبُه لذاتِه أوَّلًا قبلَ أن يكونَ مطلوبًا لغيرِه ، لأن الهدفَ مِنَ العملِ في الإسلامِ أعمُّ من أن يكونَ منفعةً لشخصٍ أو أسرةٍ أو مجتمعٍ ، و إنَّما الغايةُ منه منفعةُ الإنسانيَّةِ بأسرِها على اختلافِ الزَّمانِ و المكانِ.

و هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺

إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

_________________________________________

*(١) أخرجه التِّرمذيُّ في (( جامعه )) (٢٣٤٤) و ابن ماجه في (( سننه )) ( ٤١٦٤) من حديث عمر بن الخطَّاب رضي اللّٰه عنه ، و قال التِّرمذيُّ : حديث حسن صحيح .

_________________________________________

*(٢) الطَّلب : اتخاذ السبب .

_________________________________________

*‏(٣) أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (٥٢٤) ، و الحديث أصله في صحيح البخاري ( ١٥٢٣ ) من حديث ابن عبَّاس _ رضي اللّٰه عنه ، بسياق مختصر.

_________________________________________

*‏(٤) أخرجه ابن عبد ربه في ( العقد الفريد ) : ٣٤٢/٢ ، و الغزالي في ( إحياء علوم الدين ) : ٦٢/٢.

_________________________________________

*‏(٥) أخرجه أحمد في ( المسند ) : ( ١٢٩٨١ ) ، و البخاري في ( الأدب المفرد ) : ( ٤٧٩ ) من حديث أنس رضي اللّٰه عنه.

__________________________________

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

تسلم ايدك يا أستاذ فارس

ليلى يقول...

جزاك الله خيرا على هذا الموضوع

الإثارة والتشويق بطرح الأسئلة Content creators

  الإثارة والتشويق بطرح الأسئلة في السيرة النبوية الحمد اللّٰه رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، و بعد . فإن الإثا...