الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.
ما هو التوكُّلُ في الإسلام ؟
إن الإجابةَ على هذا التساؤلِ ، و أمثالِه ، تقتضينا أوَّلًا أن نعرِفَ معنَى (( التَّوكُّل )) في الإسلام ، فماذا يعني التَّوكُّل في شريعةِ هذا الدِّينِ القَيِّمِ ؟
و قبل أن نناقش هذا السؤالِ المحوريِّ في موضوعِ التَّوكُّلِ على اللَّهِ تعالى ، أوَدَّ أن ألفِتَ الأنظارَ الى أن كثيرًا مِنَ العلماءِ نبَّهُوا إلى (( خطأٍ )) شديدٍ يقعُ فيه بعضُ عوامِّ المسلمينَ ، و ذلك حين يفهمون التَّوكُّلَ على أنَّه تفويضُ الأمرِ إلى اللَّهِ تعالى و إرادتِه و قدرتِه و تدبيرِه ، و لا يقيمون و زنًا للأسبابِ التي أمَرَ اللَّهُ باتخاذِها في التَّوكُّل عليه جنبًا إلى جنبٍ ، بل يَعْتدي البعضُ على هذا الأمر الالهيِّ و يتركُ الأسبابَ انتظارًا لقضاءِ اللَّهِ و قَدَرِه .
و في الحقيقةِ هذا الصِّنفُ مِنَ المسلمينَ قليلٌ جِدَّا ، و أغلَبُ الظَّنِّ أنهم يتركون الأسبابَ كسَلًا و تقاعُسًا و مَيلًا إلى الراحةِ و الخمولِ ، و يقدِّمُون مثلَ هذه الأعذارِ تبريرًا لهذا الكسل .
و قد دفع هذا السلوك أعداء الأسلام لاتهامه بأنه السببُ في ما حَلَّ بالمسلمينَ مِنَ الضَّعفِ و الهوانِ و الفَقرِ و الجهلِ .
و هذا الاتِّهامُ هو مِن جملةِ أكاذيبِ بعضِ المستشرقِينَ و المبَشَّرينَ الذين ربطُوا بينَ نَجاحِهم في مهماتهِم الاستعماريَّةِ و بينَ زعزعَةِ ثقةِ المسلمين في دينِهم و قُرآنِهم و سُنَّةِ نبيِّهم ﷺ ، و لسنا بصَدَدِ تفنيدِ هذه الأكاذيبِ و الأباطيلِ ، و يكفي أن نقولَ : إنَّ مَن يُلقِي نظرةً منصفةً على تاريخ المسلمينَ يُدرِكُ على الفَورِ أنَّ ما حَلَّ بالمسلمينَ من ضَعفٍ إنما كان نتيجةَ ابتعادِهم عن تعاليمِ دينِهم ، و أنَّ حضارَةَ المسلمينَ العلميَّةَ و الأخلاقيَّةَ _ التي امتدت مِن إسبانيا إلى الصين في وقتٍ قصيرٍ _ إنَّما تحقَّقَت حين كان المسلمونَ يتوكَّلُون على اللَّهِ وحدَه و يفعلونَ ما أُمِرُوا به مِن اتخاذِ أسبابِ القُوَّةِ الماديَّةِ و الرُّوحيَّةِ ، و كيف يُتَّهَمُ الإسلامُ بأنَّه دِينُ الكَسَلِ و التَّحريضِ على تَركِ (( الأسباب)) و القرآنُ يأمُرُ المسلمِينَ أمرًا صريحًا باتخاذِ الحَيطَةِ و الحَذَرِ و الأسبابِ ؟
{ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ خُذُوا۟ حِذْرَكُمْ }{ النساء : ٧١ }.
{ وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ }{ الانفال : ٦٠ }.
{ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ }{ الشوري : ٣٠}.
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ۗ }{ الرعد : ١١ }.
و نعودُ إلى سؤالٍ : (( ما هو التوكُّلُ في الإسلامِ ؟)) و الإجابةُ هي : أنَّ حقيقةَ التَّوكُّلِ على اللَّهِ _ في الإسلامِ _ تتركَّبُ من أمرَيِن لا بُدُّ مِنهما :
الأمرُ الأوَّلُ : اتِّخاذُ الأسبابِ التي أمَر بها الشَّرعُ.
الأمرُ الثاني : الاعتقادُ بأنَّ الأسبابَ لا تعمَلُ عَمَلَها إلَّا بإرادةِ اللَّهِ تعالى و أمرِه إيَّاها أن تَعمَلَ أو لا تعمَل ، و هذا هو معنَى تفويضِ الأمرِ للهِ تعالى .
و إذن فالتَّوكُّلُ الشَّرعيُّ الحقيقيُّ هو مجموعُ الأمرَيْنِ :
اتخِّاذ الأسبابِ و تفويضُ الأمر إلى اللَّهِ تعالى ، و المسلِمُ المتوكِّلُ على اللَّهِ حَقَّ التَّوكُّلِ هو الذي يتخِذُ كُلَّ الأسبابِ الممكِنةِ ثم يُفَوِّضُ أمرَه إلى ربِّه ، و معنَى التَّفويضِ : أن يعلَمَ عِلمَ اليقِين أن_ الأسبابَ_ رغمَ وجوبِ اتخاذِها فإنَّ ما يترتَّبُ على اتخاذِها مِن نجاحٍ أو فشلٍ في النتائج المنتظرةِ مرهونٌ بإرادةِ اللَّهِ تعالى وحده ، و ليس لها دخلٌ في تحقيقِ النتائجِ أو فشلِها.
الأمرُ بالتَّوكُّلِ :
و التوكُّلُ بالمعنَى الذي تقدَّم ليس متروكًا لاختيارِ المسلِمِ و حريَّتِه في أن يلتزِمَ به ، أو يُلقِيه جانبًا ثم يعتمِدُ في طلَبِ حاجاتِه على اجتهادِه فقط ، او يعتمِدُ على اللَّهِ دُونَ الأخذِ بالأسبابِ ، و يزعُمُ أنَّ كُل شيءٍ بقضاءٍ وقَدَرٍ ، فلا معنَى لاتخاذِ الأسبابِ و لا داعِيَ لها ، نقولُ : إنَّ التوكُّلَ بالمعنَى الشَّرعيِّ الذي أوضحناه هو مِنَ الأوامرِ الشرعيَّةِ التي يأثَمُ المسلِمُ إذا خالفَها و خرَج في عملِه واعتقادِه عن مقتضاها ، و الدَّليلُ على أهميَّةِ التوكُّلِ و خطرهِ في حياةِ المسلم هو أن اللَّهَ تعالى أمَر به النبيَّ بل و الأنبياءَ مِن قبلِه ، صلواتُ اللَّهِ و سلامُه عليهم أجمعينَ ، كما أمرَ به المؤمنينَ كافَّةً فقالَ _ حكايةً عن حالِ جميعِ المرسلينَ السابقِينَ _:
{ وَمَا لَنَآ أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَىٰنَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ ءَاذَيْتُمُونَا وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُتَوَكِّلُونَ }{ إبراهيم : ١٢}.
و يقولُ على لسانِ سيِّدِنا نوحٍ عليه السلام : { يَٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ }{ يونس : ٧١ }.
و على لسانِ هودٍ عليه السلام : { إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذٌۢ بِنَاصِيَتِهَآ }{ هود : ٥٦}.
كما جاء الأمرُ صريحًا للنبي ﷺ بأن يتوكل على الله في أكثر من آيةٍ :
{ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ }{ هود : ١٢٣ }.
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ }{ الفرقان : ٥٨ }.
{ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۖ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ }{ النمل : ٧٩ }.
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ }{ التوبة : ١٢٩ }.
كما أمَر اللَّهُ المؤمنينَ كافَّةً بالتوكُّل عليه في قولِه تعالى :
{ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }{ التوبة : ٥١ }.
{ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }{ المائدة : ٢٣ }.
و لا تقتصِر أهمية التوكل على ما ورد في القرآن الكريمِ مِن أوامِرَ صريحةٍ ، بل نجدُها في السُّنَّةِ النبويَّةِ و بما لا يستوعِبُه مقالات و مقالات ، و يكفينا في هذا السياقِ الجوابُ العلميُّ الذي أجابَ به النبيُّ ﷺ صاحِبَ النَّاقَةِ ، حينَ سألَه : هل يعقِلُها أو يُطْلِقُها و يتوكَّلُ على اللَّهِ ؟ فقال النبي ﷺ : (( اعْقِلْها و تَوَكَّلْ ))…*(١) ، و كذلك قوله ﷺ في الحديثِ الصَّحيحِ (( لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكَّلِهِ لَرَزَقَكُم كما يَرزُقُ الطَّيرَ ، تَغدُوا خِماصًا و تَرُوحُ بِطانًا )) …*(٢).
و هذا باللَّهِ التَّوفيق🌺🌺 و اللّٰه أعلم 🌼🌼
إلى أن ألقاكم أن شالله في يومي الإثنين و الجمعة من كل أسبوع على مدونتي الشخصية
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼
_________________________________________
*(١) أخرجه ابن حبان في (( صحيحه )) (٧٣١) من حديث عمرو بن أمية رضي الله عنه.
_________________________________________
*(٢) أخرجه التِّرمذيُّ في (( جامعه )) (٢٣٤٤) و ابن ماجه في (( سننه )) ( ٤١٦٤) من حديث عمر بن الخطَّاب رضي اللّٰه عنه ، و قال التِّرمذيُّ : حديث حسن صحيح .
_______________________________________
هناك 4 تعليقات:
تسلم ايدك يا أستاذ فارس
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
احسنت جزاك الله خيرا
احسن الله إليك
احسنت يا ابن الشيخ 😍
إرسال تعليق