حكمة الهجرة المحمدية
و قد كانت هذه الهجرة من حِكَم اللّٰه تعالى، فإنَّ قريشًا لو آمنت به ﷺ ولم يهاجرْ لقال غيرهم من الأمم: هؤلاء قومُ وَلَّوْا عليهم رجلًا منهم و جعلوه يدَّعي النبوة ليَملِكوا سواهم بهذه الحلية. فلهذا شاء العليم الحكيم أن يُبغِضه أهله بمكة، و أن يؤمن به الغرباء من أهل المدينة بالحجة و البرهان لا بالسيف و السنان، فتتفتح بذلك قلوب الناس لهذا الدين، ويقولوا: قوم لم يُعمِهم التعصبُ عن قَبول الحق فآمنوا، فماذا علينا لو آمنا مثلهم؟!
فلا غرابة في أن يهاجر النبي ﷺ من مكة بعد أن تحجرت من أهلها القلوبُ، و عميت البصائر و تحكمت فيهم تقاليد الآباء و عقائد الأجداد و نخوة الجاهلية.
و لما كانت الرسلُ تُبعَث حينما يتفاقم الشر بين الناس لتوجيههم إلى المثل العليا اعتقادًا و قولًا و عملًا، و نهيهم عما أُركِسوا فيه من المآثم، فلهذا كانوا يَلْقَون من أقوامهم معارضات شديدة للتباين التام بين الحق الذي جاءوا به و بين الباطل الذي أقامت عليه أممهم، و اختلط بلحمهم و دمهم، فلم يبعث نبيُّ إلا عارضه قومُه و عادَوْه، و بسطوا له و لمن آمن به أيديهم و ألسنتهم بالسوء، و أخرجوه من وطنه طريدًا مع من آمن به منهم، أو حملوهم على الخروج فرارًا بدينهم و وقاية من إيذائهم.
فها هو ذا إبراهيم _خليل اللّٰه_ و أبو الأنيباء، دعا قومه إلى أن يتركوا عبادة الكواكب و الأصنام، فوقفوا لدعوته بالمرصاد، و لما ضاقوا بصبره على معارضتهم و أذاهم أوقدوا له نارًا حامية و ألقوه فيها فجعلها اللّٰه عليه بردًا و سلامًا، فهاجر عنهم قائلًا:«وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ»{الصافات:٩٩}.
و هذه قرى عاد و ثمود و قوم لوط بعد ماحل بها عقاب اللّٰه شاهدات بأن ما أصابها ناجم عن غضب اللّٰه لرسله الذين أوذوا في سبيله من سكانها، حتى إذا شارف العذُاب ديارهم هَجَرها أنبياؤهم، و هكذا كان شأن الأمم مع أنبيائهم من الاضطهاد و الإيذاء حتى يهاجروا.
فإن من سنن اللّٰه الجليلة أنه بعث في كل أمة رسولًا، يرشدهم إلى ما فيه صلاح دنياهم و أخراهم، ويحذرهم مما فيه من سوء منقلبهم و عقباهم، و صدق اللّٰه إذ يقول:«إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۚ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ»{فاطر:٢٤} و لم يتركهم اللّٰه لإرشاد عقولهم و أفئدتهم فإن الإنسان بما طُبع عليه من غرائز يميل حب العاجله و الإقبال على اللذائذ و الشهوات و النفور مما يحدّ نزواتة و رغباتة؛ فلهذا لا يُتعِب قلبَه و فكره بالنظر إلى ما وراء دنياه ولا يفكر في إلهٍ لم تشاهده عيناه، قال تعالى:
«كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ«٢٠»وَتَذَرُونَ ٱلْأَخِرَةَ» {القيامة:٢١،٢٠}
فإذا كانت فطرةُ الإنسان كذلك فإن العقول كثيرًا ما تُغلَب أمرها فلا تهتدي إلى ما فيه السعادة لها، في أولاها و أخراها؛ فلهذا تفضل اللّٰه فأرسل صفوةً من البشر اختارهم بعلمه و حكمته ليكونوا معوانًا للعقول على أداء و ظائفها حتي تهتدي إلى بارئ النَّسَم، و منشئ الخلق من العدم، و تتعرف على ضوابط الكمالات الإنسانية؛ فتتجه بذويها إلى الدين الخالص و العمل النافع و الخلق الفاضل، فكانت هجرتة ﷺ والحكمة منها الحب و المؤاخاة، و الإخلاص لدين اللّٰه و بناء مجتمع إسلامي قوي بفضل اعتصامهم بحبل اللّٰه جميعًا و عدم تفرقهم.
و هذا اللّٰه أعلم 🌺🌺
هناك 7 تعليقات:
مقال رائع و اسلوب ممتاز يا ريت تستمر
ماشاء الله تبارك الله
عمل رائع ومجهود كبير
اسئل الله ان يجعله لك عملا متقبلا
مقال جيد جزاك الله خيرا وجعله فى ميزان حسناتك
مقال رائع احسنت
جميل جدا حياك الله
أحسنت
رائع
إرسال تعليق