الإثارة والتشويق بطرح الأسئلة في السيرة النبوية
الحمد اللّٰه رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، و بعد .
فإن الإثارة والتشويق غالبًا تَرِدُ في أول الكلام ، وهذا الأمر وَقَفَ معه النقاد في قضية يعرفها المتخصصون بأنها قضية الاستقلال في النص الأدبي ، وشغلت هذه القضية اهتمام البلاغيين كثيرًا ؛ لأن الاستهلال هو مفتاح النص أو هو الكلمات المفتاحية التي أصبح الآن صناع المحتوي الرقمي يبحثون عنها ، و الغريب وليس بالغريب عليه ﷺ علمنا ؛ طرح الإثارة و التشويق بطرح الأسئلة بمنهج تربوي.
معني الاستهلال
(( الاستهلال مبتدأ يستوجب جبرًا ، و إذا ألغي الخبر لا يصبح للكلام مبتدأ ، و الخبر الجيد هو الذي يصاغ من فاعلية المبتدأ ، وأن المبتدأ الجيد لا يصبح مبتدأ إلا بخبر )) *(1)
ويرد الاستهلال في الحديث النبوي بطرائق متنوعة و كثيرة ، منها أن يستهل الحديث النبوي بإثارة الحاضرين ، يعين المرسل على إيقاظ همم المخاطبين عن طريق التفكير في الإجابات ، وبعد المقارنة و التحليل ينتظر الجميع التعقيب على ما طرحوه من إجابات وردود ، وكان من نهج الرسول ﷺ في جذب مشاعر الحاضرين أن يطرح عليهم السؤال بقصد إثارتهم وتهيئة نفوسهم استعدادًا لما سيطرحه عليهم .
الإثارة و التشويق
و من الأحاديث النبوية التي بدأها الرسول ﷺ بالسؤال كثيرة و متنوعة ، و من هذه الأحاديث ما رواه البخاري عن عبداللّٰه بن عباس أن رسول اللّٰه ﷺ خطب الناس يوم النحر فقال -: ( يا أيها الناس ، أي يوم هذا ؟ قالوا : يوم حرام ، قال : فأي بلد هذا ؟ قالوا : بلد حرام ، قال : فأي شهر هذا ؟ قالوا : شهر حرام ، قال :- فإن دماءكم و أموالكم و أعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ، فأعدها مرارًا ، ثم رفع رأسه فقال :- اللهم هل بلغت ، اللهم هل بلغت ، قال ابن عباس :- فو الذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته ، :- فليبلغ الشاهد الغائب ، لا ترجعوا بعدي كفارًا ، يضرب بعضكم رقاب بعض )*(2).
ومن المعلوم لدينا و للجميع أن الرسول ﷺ يعلم حقيقة اليوم و البلد و الشهر ، و لكنه أراد أن يوقظ همم الصحابة ويستثير مشاعرهم و جذبهم نحو ما سيطرحة عليهم ، و القارئ للحوار النبوي مع الصحابة يلحظ أن الغرض منه تنبية الجميع لحرمة الدماء و الأموال و الأعراض ، و لم يستخدم الرسول ﷺ أسلوب الأخبار المباشر كـ الذي يلقى خبر للموضوع ، ولكنه اعتمد على الحوار الممهد للقضية ، وجاء الحوار في صورة أسئلة من الرسول ﷺ و أجوبة من الصحابة ، وهذه الأسئلة كان لها أثر عظيم في تنشيط همم الحاضرين وتشويقهم إلى معرفة ما يريد الرسول ﷺ طرحه عليهم ، فالأسلة مهمتها تشويق الحاضرين لما سيطرح بعدها ، و السؤال في هذا المقام [ يهدف إلى استحضار فهومهم ، و ليقبلوا عليه بكليتهم ، و لستشعروا عظمة ما يخبرهم به ، ولذلك قال بعد هذا : - فإن دماءكم .. مبالغة في تحريم هذه الأشياء ] *(3).
ولم يكتف الرسول ﷺ بطرح سؤال و أحد يشوّق به أصحابه!
و لكنه طرح عليهم ثلاثة أسئلة ، عن اليوم و البلد و الشهر ، في تتابع متناسق مع الحرمات الثلاث التي أخبرهم بها ، و هي حرمة الدماء و الأموال و الأعراض.
و الأسئلة النبوية في هذا الحوار لم يكن الغرض منها طلب العلم بشيء بل الغرض منها تأكيد حرمة الدماء و الأموال و الأعراض للصحابة ، و لنا من بعدهم ، فشوّقهم إلى مايريد بأسلوب طرح السؤال التشويقي ، ولو أخبرهم الرسول ﷺ بهذه الحرمات دون تشويق لما كان له نفس الأثر في نفوسهم و نفوسنا ؛ لأنه ﷺ (( أراد أن تقرّ هذه المعاني في وجدانهم وأن يؤكد حرمتها حتى لا يكون عدوان على الدماء و الأعراض و الأموال ؛ و لذا قدّم لها بالتنبية و التهيئة و التشويق بهذه الاستفهامات ))(4).
تأمل
ولو تأملنا في الأسئلة النبوية عن اليوم و البلد و الشهر لوجدنا أن حرمتها مقدسة في عقول كل الناس ، فجاء البيان النبوي ليربط حرمة هذه الأشياء بحرمة دم المسلم و ماله و عرضه في ربط بديع بين الحرمتين ، و لذلك أشار بعض المدربين لـ صناع المحتوى ؛ و التربويين ؛ إلى أهمية الإثارة في تمهيد المتلقي ؛ أن كان طالب او قراء أو مستمع ، أن يحدد أسئلته و موضوعاته بما يخدم أهدافه المعرفية و العلمية المهارية و الوجدانية ، فكل سؤال له مسار من هذه المسارات.
ومن الخطأ أن نطيل في سؤال الإثارة ؛ لأن الإثارة تمهيد للدرس فلابد من الإيجاز الدقيق البليغ في طرح السؤال الإثاري ؛ حتى لا يطغى على القضية المراد تناولها ، ولعنا نلحظ عنصر الإيجاز البليغ في طرح الأسئلة النبوية على الصحابة ، و لا بد من إعطاء المخاطبين الفرصة للتعبير عن آرائهم ، وهكذا فعل رسول اللّٰه ﷺ فقد طرح أسئلته على الصحابة وانتظر منهم الرد ، فسؤال الإثارة تحفيز على التفكير وإعمال العقل والبحث عن أنسب الإجابات ، ولا يصح في سؤال الإثارة أن نرفض إجابة ، أو نقاطع المتكلم أثناء كلامه ، فالإثارة من أهدافها أن يتكلم المخاطب ويعبر ويصيب ويخطئ (( و للمعلم أن يستعين بأدق الإجابات النموذجية دون تجاهل للآخرين ، ويكفيه أن سؤاله نشَّط العقول ، وحرَّك الهمم ، وشوَّق الطلاب لمعرفة ما عند المعلم من معلومات )).
بعض المواقف النبوية لطرح السؤال التشويقي
وفي بعض هذه المواقف النبوية يُطرح السؤال التشويقي لمعرفة ما عند المتلقين من معلومات ، ثم يعقب بيان النبوة بتصحيح المفاهيم المغلوطة ليدهم ، و لعنا نجد هذا النمط البديع من طرح السؤال لتصحيح المفهوم ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّٰه ﷺ جلس مع الصحابة يومًا و سأله :- (( أتدرون مـا المفلِـسُ !؟ قالوا :- المفلِسُ من لا درهمَ له ولا متاعَ ، فقال :- إنَّ المفلسَ من أمَّتي ، يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا وأكل مالَ هذا ، وسفك دمَ هذا ، وضرب هذا ، فيُعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه ، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه ثمَّ طُرِح في النَّارِ ))*(5).
ف الرسول ﷺ اعتمد في حواره مع الصحابة على أسلوب السؤال التشويقي الذي كان من أهدافه معرفة ما عند الصحابة من معلومات عن حقيقة الإفلاس ، وكلنا لو سُئل هذا السؤال لأجاب بما أجاب به الصحابة ، لكن الرسول المعلم ﷺ يتجه بهم - وبنا- اتجاهًا آخر حول مفهوم الإفلاس ، و أن المفلس ليس- كما نظن - من ليس معه مال أو أملاك ، فالإفلاس الحقيقي هو الخسران المبين يوم القيامة مهما نجح الإنسان في الدنيا في تحصيل المال أو نجح في أداء العبادات ، وكم تغيّرت الصورة الذهنية لحقيقة الإفلاس بعد طرح السؤال النبوي وإجابة الصحابة و التوضيح النبوي الرائع لمفهوم الإفلاس.
ومازال الناس في عصرنا يربطون الإفلاس بالمال و الأملاك ، وعندما تعلن شركة إفلاسها فالكل يعلم خسارتها المادية ، حتى انحصر مفهوم الإفلاس في حياة الناس على انعدام المال ، ومن أجل تصحيح هذا المفهوم جاء السؤال النبوي ؛ ليعلم الصحابة - و الناس جميعًا - أن الإفلاس من المال ليس هو الإفلاس الحقيقي ، و واقعنا يشهد بوجود كثير من الناس لا يملكون المال ، و لكنهم سعداء و كثير من الناس يملكون المال ويحيون حياة لا طعم لها ، فقد ملكوا المال وفقدوا السعادة و الأمن و السكينة ، و جاء السؤال النبوي عن الإفلاس ؛ لينتبه كل منا إلى تحاشي دواعي الإفلاس الحقيقي التي تأخذ به إلى المهالك ، فيحذر التعدي و الاعتداء على حرمات الآخرين ، دمائهم و أموالهم و أعراضهم ، ابتغاء مرضاة اللّٰه ، ورغبة في ثوابه ، ورهبة من عقابه.
و في بعض المواقف النبوية يتعمد الرسول ﷺ طرح السؤال ولا يجد إجابة من المتلقين أو الحاضرين معه ، و السؤال التشويقي هنا هو سؤال تعليمي ، و من الأحاديث النبوية التي اعتمدت على هذا النمط سؤاله ﷺ عن الغيبة ، فعن أبي هريرة رضي اللّٰه عنه عن النبي ﷺ قال :- (( أتدرون ما الغِيبَةُ ؟ ، قالوا :- اللّٰه ورسوله أعلم ، قال :- ذكرُك أخاك بما يكره ، قيل :- أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال :- إن كان فيه ما تقول فقد اغْتَبْتَهُ ، وإن لم يكن فقد بهتَّهُ ))*(6).
افضل صانع محتوي
فالرسول المعلم ﷺ كان افضل صناع للمحتوي في وقته كان يطرح السؤال التشويقي ؛ و يعلم أن الصحابة حوله لا يعلمون حقيقة ما يعلمه ، فهو يعلم حقيقة " الغيبة " فأراد أن يجذب انتباههم ، ويحرك مشاعرهم ، ويستثير عواطفهم نحو المعنى المراد توصيله ، فيسألهم عن الغيبة ، فيرد الصحابة بأدب قائلين :- اللّٰه ورسوله أعلم ، فيأتي التعقيب النبوي موضحًا و محذرًا ؛ لينتبه كل واحد منهم - ومنا - إلى ما ينطقه لسانه ، فالناس يتهاونون بأمر الغبية ، وأغلب الناس يقع في هذا الإثم العظيم ، فكثير من يذكر الناس بالشر والسوء ، ومجالس النساء خير شاهد على هذا الأمر ، وكذلك مجالس الرجال ، ولكن قليل منا من يذكر حسنات الآخرين ، وهذا أمر واقع في حياتنا ، لذا جاء السؤال التشويقي النبوي عن الغبية التي يقع فيها كثير من الناس دون خوف من عاقبتها للتربية فعنصر الجذب هنا و التشويق كان لترسيخ التربية وملامحها في المنهج الإسلامي العظيم.
حوار افضل صانع محتوي
و يلحظ القارئ للحوار النبوي مع الصحابة أن الرسول ﷺ يقول لهم عن الغيبة :- (( ذكرك أخاك بما يكره )) مستخدمًا لفظة (( أخاك )) ، فلم يقل :- ذكرك الناس بما يكرهون ، ولكن استخدم لفظة (( أخاك )) للدلالة على متانة العلاقة بين المسلم و أخيه ، وأنه عندما يغتاب شخصًا مسلمًا فإنه يغتاب أخاه المسلم ، الذي تربطه أسمى علاقة وهي الأخوة لقوله ﷺ (( المسلم أخو المسلم ...))*(7).
كما يتبين لنا تأثر البيان النبوي بالقرآن الكريم واقتباسه منه في قوله تعالى عن الغيبة في سورة الحجرات :- ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَ لَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ ﴾ (الحجرات :- ١٢ ).
و من جمال السؤال التشويقي أنه يحرك المشاعر ويوقظ الهمم ؛ لتعود الفائدة على الجميع ، فالسؤال النبوي عن الغيبة جعل الصحابة في شوق إلى معرفة حقيقة الغيبة ، فلما قال لهم الرسول ﷺ عنها :- (( ذكرك أخاك بما يكره )) جاء السؤال الاستفساري من الصحابة - أو من بعضهم - (( أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ )) دلالة على القيمة التربوية للسؤال النبوي الذي أيقظ مشاعر الحاضرين ، ونبههم إلى خطورة ذكر مساوئ الآخرين أمام الناس ، ومعلوم أن الغيبة سميت غيبة ؛ لأن المتحدث يذكر مساوئ الشخص المتغيب عن المجلس ، فجاء استفسار الصحابة معبرا عن خوفهم من الجزاء الواقع على من ذكر مساوئ شخص آخر بعيوب موجودة فيه بالفعل ، وجاء التعقيب النبوي على استفسار الصحابة مبينًا لهم القضية بوضوح ، فقال لهم الرسول ﷺ :- (( إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فقد بهتَّه )) .
وهذا كان جزء من جماليات رسول اللّٰه ﷺ ك افضل صناع للمحتوي في ذلك ، وقد ركز ﷺ على نقاط هامة وكثيرة مثل ما ذكرت كتب السيرة النبوية ، فهناك صناع محتوي يقدمون كل يوم ؛ اشياء غريبه لا تسمن ولا تغني من جوع ، أمر عظيم يحتاج إلى مراقبة دقيقة لكل صناع محتوى رقمي أن يقدم لنا إن استطاع ليأخذ بيدنا إلى سبيل الرشاد والعلم و العمل ، فا أصبحت مواقع التواصل الإجتماعي كثير فتميزو قدموا لنا الهادف ،
هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺
إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان.
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
المراجع
*(1)الاستهلال فن البدايات في النص الأدبي صـ ٣٨ ، ياسين النصير-----
* (2) أخرجه البخاري :- كتاب الحج ، باب خطبة أيام منى ، رقم ١٧٣٩ ، وانظر حديث ١٧٤١ ، ١٧٤٢.----------
* (3) فتح الباري ، ١٩١/١ -------.
* (4) التشويق في الحديث النبوي ، صـ ٢٩ د/ بسيوني عبدالفتاح ---------.
* (5) أخرجه مسلم ، رقم ٣٥٨١ -----.
*( 6) أخرجة مسلم ، رقم ٢٥٨٩ ------.
*(7) أخرجة البخاري ، كتاب المظالم و الغصب ، باب لا يظلم المسلم المسلم - ولا يُسلمه ، رقم ٢٤٤٢ -----.