المتابعون

السبت، 2 نوفمبر 2024

الإثارة والتشويق بطرح الأسئلة Content creators

 


الإثارة والتشويق بطرح الأسئلة في السيرة النبوية

الحمد اللّٰه رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، و بعد .

فإن الإثارة والتشويق غالبًا تَرِدُ في أول الكلام ، وهذا الأمر وَقَفَ معه النقاد في قضية يعرفها المتخصصون بأنها قضية الاستقلال في النص الأدبي ، وشغلت هذه القضية اهتمام البلاغيين كثيرًا ؛ لأن الاستهلال هو مفتاح النص أو هو الكلمات المفتاحية التي أصبح الآن صناع المحتوي الرقمي يبحثون عنها ، و الغريب وليس بالغريب عليه ﷺ علمنا ؛ طرح الإثارة و التشويق بطرح الأسئلة بمنهج تربوي.

معني الاستهلال 

(( الاستهلال مبتدأ يستوجب جبرًا ، و إذا ألغي الخبر لا يصبح للكلام مبتدأ ، و الخبر الجيد هو الذي يصاغ من فاعلية المبتدأ ، وأن المبتدأ الجيد لا يصبح مبتدأ إلا بخبر )) *(1) 

ويرد الاستهلال في الحديث النبوي بطرائق متنوعة و كثيرة ، منها أن يستهل الحديث النبوي بإثارة الحاضرين ، يعين المرسل على إيقاظ همم المخاطبين عن طريق التفكير في الإجابات ، وبعد المقارنة و التحليل ينتظر الجميع التعقيب على ما طرحوه من إجابات وردود ، وكان من نهج الرسول ﷺ في جذب مشاعر الحاضرين أن يطرح عليهم السؤال بقصد إثارتهم وتهيئة نفوسهم استعدادًا لما سيطرحه عليهم .

الإثارة و التشويق 

و من الأحاديث النبوية التي بدأها الرسول ﷺ بالسؤال كثيرة و متنوعة ، و من هذه الأحاديث ما رواه البخاري عن عبداللّٰه بن عباس أن رسول اللّٰه ﷺ خطب الناس يوم النحر فقال -: ( يا أيها الناس ، أي يوم هذا ؟ قالوا : يوم حرام ، قال : فأي بلد هذا ؟ قالوا : بلد حرام ، قال : فأي شهر هذا ؟ قالوا : شهر حرام ، قال :- فإن دماءكم و أموالكم و أعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ، فأعدها مرارًا ، ثم رفع رأسه فقال :- اللهم هل بلغت ، اللهم هل بلغت ، قال ابن عباس :- فو الذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته ، :- فليبلغ الشاهد الغائب ، لا ترجعوا بعدي كفارًا ، يضرب بعضكم رقاب بعض )*(2).

ومن المعلوم لدينا و للجميع أن الرسول ﷺ يعلم حقيقة اليوم و البلد و الشهر ، و لكنه أراد أن يوقظ همم الصحابة ويستثير مشاعرهم و جذبهم نحو ما سيطرحة عليهم ، و القارئ للحوار النبوي مع الصحابة يلحظ أن الغرض منه تنبية الجميع لحرمة الدماء و الأموال و الأعراض ، و لم يستخدم الرسول ﷺ أسلوب الأخبار المباشر كـ الذي يلقى خبر للموضوع ، ولكنه اعتمد على الحوار الممهد للقضية ، وجاء الحوار في صورة أسئلة من الرسول ﷺ و أجوبة من الصحابة ، وهذه الأسئلة كان لها أثر عظيم في تنشيط همم الحاضرين وتشويقهم إلى معرفة ما يريد الرسول ﷺ طرحه عليهم ، فالأسلة مهمتها تشويق الحاضرين لما سيطرح بعدها ، و السؤال في هذا المقام [ يهدف إلى استحضار فهومهم ، و ليقبلوا عليه بكليتهم ، و لستشعروا عظمة ما يخبرهم به ، ولذلك قال بعد هذا : - فإن دماءكم .. مبالغة في تحريم هذه الأشياء ] *(3).

ولم يكتف الرسول ﷺ بطرح سؤال و أحد يشوّق به أصحابه!

و لكنه طرح عليهم ثلاثة أسئلة ، عن اليوم و البلد و الشهر ، في تتابع متناسق مع الحرمات الثلاث التي أخبرهم بها ، و هي حرمة الدماء و الأموال و الأعراض.

و الأسئلة النبوية في هذا الحوار لم يكن الغرض منها طلب العلم بشيء بل الغرض منها تأكيد حرمة الدماء و الأموال و الأعراض للصحابة ، و لنا من بعدهم ، فشوّقهم إلى مايريد بأسلوب طرح السؤال التشويقي ، ولو أخبرهم الرسول ﷺ بهذه الحرمات دون تشويق لما كان له نفس الأثر في نفوسهم و نفوسنا ؛ لأنه ﷺ (( أراد أن تقرّ هذه المعاني في وجدانهم وأن يؤكد حرمتها حتى لا يكون عدوان على الدماء و الأعراض و الأموال ؛ و لذا قدّم لها بالتنبية و التهيئة و التشويق بهذه الاستفهامات ))(4).

تأمل 

ولو تأملنا في الأسئلة النبوية عن اليوم و البلد و الشهر لوجدنا أن حرمتها مقدسة في عقول كل الناس ، فجاء البيان النبوي ليربط حرمة هذه الأشياء بحرمة دم المسلم و ماله و عرضه في ربط بديع بين الحرمتين ، و لذلك أشار بعض المدربين لـ صناع المحتوى ؛ و التربويين ؛ إلى أهمية الإثارة في تمهيد المتلقي ؛ أن كان طالب او قراء أو مستمع ، أن يحدد أسئلته و موضوعاته بما يخدم أهدافه المعرفية و العلمية المهارية و الوجدانية ، فكل سؤال له مسار من هذه المسارات.

ومن الخطأ أن نطيل في سؤال الإثارة ؛ لأن الإثارة تمهيد للدرس فلابد من الإيجاز الدقيق البليغ في طرح السؤال الإثاري ؛ حتى لا يطغى على القضية المراد تناولها ، ولعنا نلحظ عنصر الإيجاز البليغ في طرح الأسئلة النبوية على الصحابة ، و لا بد من إعطاء المخاطبين الفرصة للتعبير عن آرائهم ، وهكذا فعل رسول اللّٰه ﷺ فقد طرح أسئلته على الصحابة وانتظر منهم الرد ، فسؤال الإثارة تحفيز على التفكير وإعمال العقل والبحث عن أنسب الإجابات ، ولا يصح في سؤال الإثارة أن نرفض إجابة ، أو نقاطع المتكلم أثناء كلامه ، فالإثارة من أهدافها أن يتكلم المخاطب ويعبر ويصيب ويخطئ (( و للمعلم أن يستعين بأدق الإجابات النموذجية دون تجاهل للآخرين ، ويكفيه أن سؤاله نشَّط العقول ، وحرَّك الهمم ، وشوَّق الطلاب لمعرفة ما عند المعلم من معلومات )).

بعض المواقف النبوية لطرح السؤال التشويقي 

وفي بعض هذه المواقف النبوية يُطرح السؤال التشويقي لمعرفة ما عند المتلقين من معلومات ، ثم يعقب بيان النبوة بتصحيح المفاهيم المغلوطة ليدهم ، و لعنا نجد هذا النمط البديع من طرح السؤال لتصحيح المفهوم ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّٰه ﷺ جلس مع الصحابة يومًا و سأله :- (( أتدرون مـا المفلِـسُ !؟ قالوا :- المفلِسُ من لا درهمَ له ولا متاعَ ، فقال :- إنَّ المفلسَ من أمَّتي ، يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا وأكل مالَ هذا ، وسفك دمَ هذا ، وضرب هذا ، فيُعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه ، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه ثمَّ طُرِح في النَّارِ ))*(5).

ف الرسول ﷺ اعتمد في حواره مع الصحابة على أسلوب السؤال التشويقي الذي كان من أهدافه معرفة ما عند الصحابة من معلومات عن حقيقة الإفلاس ، وكلنا لو سُئل هذا السؤال لأجاب بما أجاب به الصحابة ، لكن الرسول المعلم ﷺ يتجه بهم - وبنا- اتجاهًا آخر حول مفهوم الإفلاس ، و أن المفلس ليس- كما نظن - من ليس معه مال أو أملاك ، فالإفلاس الحقيقي هو الخسران المبين يوم القيامة مهما نجح الإنسان في الدنيا في تحصيل المال أو نجح في أداء العبادات ، وكم تغيّرت الصورة الذهنية لحقيقة الإفلاس بعد طرح السؤال النبوي وإجابة الصحابة و التوضيح النبوي الرائع لمفهوم الإفلاس. 

ومازال الناس في عصرنا يربطون الإفلاس بالمال و الأملاك ، وعندما تعلن شركة إفلاسها فالكل يعلم خسارتها المادية ، حتى انحصر مفهوم الإفلاس في حياة الناس على انعدام المال ، ومن أجل تصحيح هذا المفهوم جاء السؤال النبوي ؛ ليعلم الصحابة - و الناس جميعًا - أن الإفلاس من المال ليس هو الإفلاس الحقيقي ، و واقعنا يشهد بوجود كثير من الناس لا يملكون المال ، و لكنهم سعداء و كثير من الناس يملكون المال ويحيون حياة لا طعم لها ، فقد ملكوا المال وفقدوا السعادة و الأمن و السكينة ، و جاء السؤال النبوي عن الإفلاس ؛ لينتبه كل منا إلى تحاشي دواعي الإفلاس الحقيقي التي تأخذ به إلى المهالك ، فيحذر التعدي و الاعتداء على حرمات الآخرين ، دمائهم و أموالهم و أعراضهم ، ابتغاء مرضاة اللّٰه ، ورغبة في ثوابه ، ورهبة من عقابه.

و في بعض المواقف النبوية يتعمد الرسول ﷺ طرح السؤال ولا يجد إجابة من المتلقين أو الحاضرين معه ، و السؤال التشويقي هنا هو سؤال تعليمي ، و من الأحاديث النبوية التي اعتمدت على هذا النمط سؤاله ﷺ عن الغيبة ، فعن أبي هريرة رضي اللّٰه عنه عن النبي ﷺ قال :- (( أتدرون ما الغِيبَةُ ؟ ، قالوا :- اللّٰه ورسوله أعلم ، قال :- ذكرُك أخاك بما يكره ، قيل :- أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال :- إن كان فيه ما تقول فقد اغْتَبْتَهُ ، وإن لم يكن فقد بهتَّهُ ))*(6). 

افضل صانع محتوي

فالرسول المعلم ﷺ كان افضل صناع للمحتوي في وقته كان يطرح السؤال التشويقي ؛ و يعلم أن الصحابة حوله لا يعلمون حقيقة ما يعلمه ، فهو يعلم حقيقة " الغيبة " فأراد أن يجذب انتباههم ، ويحرك مشاعرهم ، ويستثير عواطفهم نحو المعنى المراد توصيله ، فيسألهم عن الغيبة ، فيرد الصحابة بأدب قائلين :- اللّٰه ورسوله أعلم ، فيأتي التعقيب النبوي موضحًا و محذرًا ؛ لينتبه كل واحد منهم - ومنا - إلى ما ينطقه لسانه ، فالناس يتهاونون بأمر الغبية ، وأغلب الناس يقع في هذا الإثم العظيم ، فكثير من يذكر الناس بالشر والسوء ، ومجالس النساء خير شاهد على هذا الأمر ، وكذلك مجالس الرجال ، ولكن قليل منا من يذكر حسنات الآخرين ، وهذا أمر واقع في حياتنا ، لذا جاء السؤال التشويقي النبوي عن الغبية التي يقع فيها كثير من الناس دون خوف من عاقبتها للتربية فعنصر الجذب هنا و التشويق كان لترسيخ التربية وملامحها في المنهج الإسلامي العظيم.

حوار افضل صانع محتوي 

و يلحظ القارئ للحوار النبوي مع الصحابة أن الرسول ﷺ يقول لهم عن الغيبة :- (( ذكرك أخاك بما يكره )) مستخدمًا لفظة (( أخاك )) ، فلم يقل :- ذكرك الناس بما يكرهون ، ولكن استخدم لفظة (( أخاك )) للدلالة على متانة العلاقة بين المسلم و أخيه ، وأنه عندما يغتاب شخصًا مسلمًا فإنه يغتاب أخاه المسلم ، الذي تربطه أسمى علاقة وهي الأخوة لقوله ﷺ (( المسلم أخو المسلم ...))*(7).

كما يتبين لنا تأثر البيان النبوي بالقرآن الكريم واقتباسه منه في قوله تعالى عن الغيبة في سورة الحجرات :- ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَ لَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ ﴾ (الحجرات :- ١٢ ).

و من جمال السؤال التشويقي أنه يحرك المشاعر ويوقظ الهمم ؛ لتعود الفائدة على الجميع ، فالسؤال النبوي عن الغيبة جعل الصحابة في شوق إلى معرفة حقيقة الغيبة ، فلما قال لهم الرسول ﷺ عنها :- (( ذكرك أخاك بما يكره )) جاء السؤال الاستفساري من الصحابة - أو من بعضهم - (( أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ )) دلالة على القيمة التربوية للسؤال النبوي الذي أيقظ مشاعر الحاضرين ، ونبههم إلى خطورة ذكر مساوئ الآخرين أمام الناس ، ومعلوم أن الغيبة سميت غيبة ؛ لأن المتحدث يذكر مساوئ الشخص المتغيب عن المجلس ، فجاء استفسار الصحابة معبرا عن خوفهم من الجزاء الواقع على من ذكر مساوئ شخص آخر بعيوب موجودة فيه بالفعل ، وجاء التعقيب النبوي على استفسار الصحابة مبينًا لهم القضية بوضوح ، فقال لهم الرسول ﷺ :- (( إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فقد بهتَّه )) .

وهذا كان جزء من جماليات رسول اللّٰه ﷺ ك افضل صناع للمحتوي في ذلك ، وقد ركز ﷺ على نقاط هامة وكثيرة مثل ما ذكرت كتب السيرة النبوية ، فهناك صناع محتوي يقدمون كل يوم ؛ اشياء غريبه لا تسمن ولا تغني من جوع ، أمر عظيم يحتاج إلى مراقبة دقيقة لكل صناع محتوى رقمي أن يقدم لنا إن استطاع ليأخذ بيدنا إلى سبيل الرشاد والعلم و العمل ، فا أصبحت مواقع التواصل الإجتماعي كثير فتميزو قدموا لنا الهادف ، 

هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺

إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان. 

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين


المراجع 

*(1)الاستهلال فن البدايات في النص الأدبي صـ ٣٨ ، ياسين النصير-----

* (2) أخرجه البخاري :- كتاب الحج ، باب خطبة أيام منى ، رقم ١٧٣٩ ، وانظر حديث ١٧٤١ ، ١٧٤٢.----------

* (3) فتح الباري ، ١٩١/١ -------.

* (4) التشويق في الحديث النبوي ، صـ ٢٩ د/ بسيوني عبدالفتاح ---------.

* (5) أخرجه مسلم ، رقم ٣٥٨١ -----.

*( 6) أخرجة مسلم ، رقم ٢٥٨٩ ------.

*(7) أخرجة البخاري ، كتاب المظالم و الغصب ، باب لا يظلم المسلم المسلم - ولا يُسلمه ، رقم ٢٤٤٢ -----.




الثلاثاء، 8 أكتوبر 2024

حـلـف الـفـضـول Curiosity alliance

 حلف الفضول في السيرة النبوية 




الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

ما أحوج امَّتنا في هذا الوقت المعاصر الذي تعيشه أن تقرأ سيرة نبيِّها ، وأن تستلهم منها العِبرة و الـعِـظَـة ؛ فهي النبع الصافي ، و البلسم الشافي لكلِّ ما تعانيه من أمراض و أزمات ، وتضع عن كاهلها إِصْـر الحياة وأثقالها وآلامها ، وترشدها بمعانيها الغزيرة ، و أسرارها العميقة ، قال تعالى ﴿ لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا ﴾ ( الأحزاب : ٢١ )..وحين نقف مع هذا الموقف العظيم من مواقف السيرة العطرة التي تركت معانيَ عظيمةً ودلالاتٍ بعيدةً ، وهو موقف حادثة شهوده ﷺ ( حِلف الفضول ) ، فإننا نريد أن نؤكد أهمية ما تحمله شريعتنا الغراء من مبادئ وقِيَم راسخة في العدل ونصرة المظلومين و المستضعفين ورحمة الخَلق جميعًا ، قال ﴿ وَإِنۡ أَحَدٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٱسۡتَجَارَكَ فَأَجِرۡهُ حَتَّىٰ يَسۡمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبۡلِغۡهُ مَأۡمَنَهُۥۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡلَمُونَ ﴾ ( التوبة : ٦ ).

و روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن عوف أنَّ رسول اللّٰه ﷺ قال :- (( لا حِلْفَ في الإسلامِ ، وكلِّ حِلْفٍ كان في الجاهليَّةِ فلم يَزِدْهُ الإسلامُ إلَّا شـدَّةً ، و ما يسُرُّني أنَّ لي حُـمْـرَ النَّعَمِ ، وأني نقضْتُ الحِلْفَ الَّذي كان في دارِ النَّدوةِ ))*(1).

و في رواية أخرى (( شهدتُ حلفَ المُطَيَّبين وأنا غلامٌ معَ عمومتي ، فما أحبُّ أنَّ لي حُمْرَ النَّعَمِ و أني أَنكُثُه ))*(2).  

والحلف الذي نهى عنه الشرع هو ذلك الذي يكون على النُّصرة في الخير و الشر ، وهو من أخلاق الجاهلية ، أما الحِلف الذي ارتضاه رسول اللّٰه ﷺ وقال عنه : (( فما أحبُّ أنَّ لي حُمْرَ النَّعَمِ و أني أَنكُـثُه)) فذاك هو التحالف والتعاضد والتعاون على الخير فقط ، وهذا ما تؤيِّده النصوص القرآنية و الأحاديث النبوية ، و قال تعالى ﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ﴾            ( المائدة : ٢ ) .

وقال ﷺ (( انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا )) ، قالوا : يارَسُولَ اللَّهِ ، هذا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا ، فَكيفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا ؟ قال :- (( تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ )) *(3).

قال ابن هشام عن هذا الحلف : (( تداعت قبائل قريش إلى حِلف ، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسِنِّه ، فكان حِلفهم عنده : بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وأسد بن عبد العزى ، وزهرة بن كلاب ، وتيم بن مرَّة ، فتعاقدوا وتعاهدوا على إلَّا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم ممَّن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه ، وكانوا على مَن ظلمه حتى تُرَدَّ عليه مظلمته ، فسمَّت قريش ذلك الحلف ـ بـ حلف الفضول ـ ))*(4).

وقد كان حِلف الفضول في شهر ذي القَعدة و سببه أنَّ رجلًا من ( زَبيد ) قدم مكة ببضاعة ، فاشتراها منه ( العاص بن وائل ) ومنعه حقَّه ، فلجأ إلى زعماء من قريش فلم يُعينوه لمكانة العاص فيهم ، و لكن بعض أشرافهم أنكروا عليهم ذلك ، وتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكونُنَّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُرَدَّ إليه حقُّه ، ثم مشوا إلى العاص بن وائل ، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه ، وأبرموا هذا الحلف الذي سُمِّي بحلف الفضول *(5).

و حِلف الفضول هذا هو عبارة عن اتفاق وقع في مكة المكرمة قبل البعثة النبوية بين عشائر مهمة من قريش ، وقد شهِده سيدنا النبي ﷺ لما اشتمل عليه من خير وعدل ، ونحن نستنبط من هذا الحلف بعض الدلالات و القيم النبيلة التي نحتاجها في واقعنا المعاصر اليوم : 

أولا : نصرة المستضعفين واسترجاع حقوقهم 

فيُعدُّ هذا الحِلف وثيقة تاريخية عظيمة تكشف لنا عن أبرز مبادئ الإسلام وقِيَمه في نُصرة المستضعفين ، والوقوف بجانبهم و الدفاع عنهم ، ورد الحقوق المستلَبة منهم ، بغضَّ النظر عن دِين المظلوم ومذهبه وعشيرته وقوميته و وطنه ، ويطبِّق نبينا الكريم ﷺ هذا المبدأ تطبيقًا عمليًّا ، كما تحكي لنا سيرته العطرة ﷺ في هذا الموقف النبيل الذي نهض فيه الرسول ﷺ لنصرة هذا المظلوم ؛ إذْ (( قدم رجل من - أراش - بإبل له إلى مكَّة ، فابتاعها منه أبوجهل بن هشام ، فمطله بأثمانها ، فأقبل الأراشي حتى وقف على نادي قريش ، ورسول الله ﷺ جالس في ناحية المسجد ، فقال :- يامعشر قريش ، مَن رجلٌ يعديني على أبي الحكم بن هشام ، فإني غريب ، وابن سبيل ، وقد غلَبني على حقي ، فقال أهل المجلس :- ترى ذلك - يهمزون به إلى رسول الله ﷺ ؛ لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة - اذهب إليه ، فهو يعديك عليه ، فأقبل الأراشي حتى وقف على رسول اللّٰه ﷺ ، فذكر ذلك له ، فقام معه ، فلما رأوه قام معه ، قالوا لمن معهم اتبعه فانظر ما يصنع ، فخرج إليه رسول اللّٰه ﷺ حتى جاءه فضرب عليه بابه ، فقال :- مَن هذا ؟ قال :- محمد ، فاخرج ، فخرج إليه ، وما في وجهه قطرة دم ، وقد امتقع لونه ، فقال :- أعطِ هذا الرجل حقَّه ، قال :- لا يبرح حتى أعطيه الذي له ، قال :- فدخل ، فخرج إليه بحقِّه ، فدفعَه إليه ، ثمَّ انصرف رسول اللّٰه ﷺ ، وقال للأراشي :- [ الْحَقْ لشأنك ] ، فأقبل الأراشي حتى وقف على المجلس ، فقال جزاه الله خيرًا ، فقد أخذ الذي لي ))*(6).

وهذا الموقف النبيل من سيدنا رسول الله ﷺ تتجسَّد فيه كل معاني المروءة و الشهامة و النخوة في نُصرة المظلوم وردِّ حقه ، حتى ولو كان ذلك ربما يؤدي إلى مخاطرة في دفاعه عن المظلومين ونُصرة المستضعفين ، وليس هذا بعجيب من رسول اللّٰه ﷺ ، فقد كان أشجع الناس ؛ فعن أنس - رضي الله عنه - قال :- [ كانَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ أَحْسَنَ النَّاسِ ، وأَجْوَدَ النَّاسِ ، وأَشْجَعَ النَّاسِ ، قالَ :- وقدْ فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ لَيْلَةً سَمِعُوا صَوْتًا ، قال :- فَـتَـلَـقَّـاهُـمُ النبيُّ ﷺ علَى فَرَس لأبِي طَـلْـحَـةَ عُـرْيٍ ، وهو مُتَقَلِّدٌ سَيْفَهُ ، فَقالَ :- لَمْ تُرَاعُوا ، لَمْ تُرَاعُوا ، ثُمَّ قالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ :- وجَدْتُهُ بَحْرًا ] يَعْنِي الفَرَسَ *(7).

قال القرطبي :-

 في هذا الحديث ما يدلُّ على أنَّ النبي ﷺ كان قد جمع له من جودة ركوب الخيل ، والشَّجاعَة ، والشهامة ، و الانتهاض الغائي في الحروب ، و الفروسية وأهوالها - ما لم يكن عند أحدٍ من النَّاسِ ، ولذلك قال أصحابه عنه : إنه كان أشجَعَ الناس ، وأجرأ الناس في حال البأس ، ولذلك قالوا :- إنَّ الشجاع منهم كان الذي يلوذ بجنابه إذا التحمت الحروبُ ، وناهيك به ؛ فإنَّه ما ولَّى قطُّ منهزمًا ، ولا تحدَّث أحد عنه قطُّ بفرار *(8).

لقد أقرَّت هذه الوثيقة مبدأ الدفاع عن المظلومين ، و الحفاظ على أموالهم و أعراضهم ودمائهم ، وقد جاء الإسلام ليقرِّر ذلك فـحرَّم قتل النفس ودعا لحفظ المال و العرض ؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي ﷺ قال :- (( كلُّ المسلِمِ على المسلِمِ حرامٌ ؛ دمُـهُ ، و ماُلهُ ، و عِرضُهُ )) *(9).

ثانيًا : قيمة التعاون و التآزر و الأخوة 

لقد أكَّد هذا الحِلف هذه المعاني الراسخة التي تبني المجتمعات وتقوِّيها ، وتجعل للأمَّة مكانتها ورسوخها وهيبتها ، وتعينها على أن تتبوَّأ مكانتها في الأفضلية و الخيرية ، في قوله تعالى :- ﴿ كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وَلَوۡ ءَامَنَ أَهۡلُ ٱلۡكِتَٰبِ لَكَانَ خَيۡرٗا لَّهُمۚ مِّنۡهُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ﴾ ( آل عمران : ١١٠ ) . 

و قد جاء الإسلام ليقرِّر مثل هذه الفضائل ؛ كالأخوَّة و التآزر و التعاون على فِعل الخير و غيرها ، قال الله تعالى :- ﴿ إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَ أَخَوَيۡكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ ﴾ ( الحجرات : ١٠ ) و قال تعالى :- ﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ﴾( المائدة : ٢ ).

و قال رسول الله ﷺ :- (( لا تحاسَدُوا ، ولا تناجَشُوا ، و لا تباغَضُوا ولا تدابَرُوا ، ولا يـبـعْ بعضُكمْ على بيع بعضٍ ، وكُونُوا عبادَ اللهِ إخوانًا ، المسلِمُ أَخُو المسلِمِ ، لا يَظلِمُهُ ولا يَخذُلُهُ ، ولا يَحقِرُهُ ، التَّقْوى ههُنا - وأشارَ إلى صدْرِهِ - بِحسْبِ امْرِئٍ من الشَّرِّ أنْ يَحقِر أخاهّ المسلِمَ ، كلُّ المسلِمِ على المسلِمِ حرامٌ ، دمُهُ و مالُهُ ، و عِرضُهُ )) *(10).

و قال ﷺ :- (( مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم وتَرَاحُمِهِم و تعاطُفِهِمْ ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى )) *(11).

ماذا نستفيد من هذا الحِلف ؟ 

إنَّ أعظم ما نستفيده من هذا الحِلف ترسيخ قيم التعاون و العدل و التضامن و النُّصرة ، وأن تكون أمُّتنا يدًا واحدة في التضامن و التعاون و التكافل الإنساني ، و هذا جعل سيدنا رسول اللّٰه ﷺ يؤكد أهميتَه ويظهر اعتزازه بالمشاركة فيه بقوله :- (( قَدْ شَهِدْتِ فِي دَارِ عَبْدِالله بْن جُدْعَانَ حَلْفًا مَا أُحِبُّ أَنّ لِي بِـهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ )) .

نسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يعيد لهذه الأمَّـة المباركة ماضيَ عهدِها وسالفَ مجدِها ، وصلَّى الله وسلَّم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا .

هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺

إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼.


*الـمـراجـع .___________________________

*( 1 ) أخرجة أحمد في مسنده ، برقم : ( ٢٩٠٩ )ـــــ.

*( 2 ) أخرجه البخاري في صحيح الأدب المفرد ، بنص : 

(( شهدت مع عمومتي حلف المطيبين ، فما أحب أن أنكثه وأن لي حمر النعم )) أخرجه أحمد في مسنده ، برقم : ( ١٦٥٥) ــــــــــــــــــ.

*( 3 ) أخرجه البخاري في صحيحه ، من حديث أنس رضي الله عنه ، برقم : ( ٢٤٤٤ ) ـــــــــــــ.

*( 4 ) سيرة ابن هشام : ( ٨٧/١ )ـــــــــ.

*( 5 ) الروض الأنف : ( ٦٣/٢ )ـــــــــــــــــــــ.

*( 6 ) البداية و النهاية : ( ٢ / ٣٨٨ ، ٣٨٩ )ــــــــــــ.

*( 7 ) أخرجه البخاري في صحيحه ، برقم : ( ٣٠٤٠ ) ـــــ.

*( 8 ) الـمـفـهـم : ( ٩٩/٦ ) ــــــــــ.

*( 9 ) أخرجه مسلم في صحيحه ، برقم ( ٢٥٦٤ ) ـــــــــ.

*( 10 ) أخرجه البخاري في صحيحه ، برقم : ( ٦٠٦٤ ) مختصرًا ، و مسلم في صحيحه ، برقم : ( ٢٥٦٤ ) باختلاف يسير ، وكلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ـــــ.

*( 11 ) أخرجه البخاري في صحيحه ، برقم ( ٦٠١١ ) ، و مسلم ( ٢٥٨٦ ) ، و اللفظ له ، و كلاهما من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه ــــــــــ.






الأربعاء، 11 سبتمبر 2024

فلسفة الإعمار و الهجرة Immigration


 


الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

ينظر كثير من المفكرين و الباحثين و حملة الأقلام إلى الهجرة النبوية المباركة من مكة إلى المدينة من خلال زاويتين اثـنـيـن . 

أما الزاوية الأولى :-

 إحداهما : تنبثق من اختزال أسباب هجرة رسول اللّٰه ﷺ من مكة إلى يثرب في أنها بمثابة وسيلة اتخذها النبي للبحث عن وطن يستوطن فيه بعد أن ضاقت مـكـة عليه وعلى المؤمنين بسبب إيذاء المشركين للمسلمين.. ويتبنى النظر إلى قضية الهجرة من هذه الزاوية معظم الـكُـتَّـاب و الباحثين المسلمين ، وهي رؤية تخظى بكثير من القبول ولها قدرها الكبير من الوجاهة ، فهي تعبر عن الواقع الذي كان سائدًا آنذاك.

أما الزاوية الثانية : -

فهي متضمنة في الرؤية التي يتبناها أكثر المستشرقين و أتباعهم من العلمانيين ، وهي تقوم على النظر إلى الهجرة باعتبارها تمثل فرارًا من الرسول إلى يثرب ـ كما يزعم دعاتها ومنهم.

 « المستشرق الفرنسي ؛؛ إميل در منغم ؛؛ في كتابه الذي ترجم بعنوان (( حياة محمد في عيون مستشرق )) حيث يقول ، و الآن يفر محمد بدينه مما يُبَيَّب لـه ، ».*(1)

والتفاعل مع الأحداث التي وقعت له بـ مكة على يد مَـن تطاولوا عليه وعلى صحابته الذين عانوا من اعتداءات قريش عليهم أشد المعاناة .

غير أن الهجرة ثمثل عند قطاع كبير من الباحثين الموضوعيين حدثًا أكبر من هذه المعاني وأسمى من هذه التصورات ؛ فهي سـنَّـة من السنن التي أجراها اللّٰه - تبارك و تعالى - على الأنبياء و المرسلين السابقين قبل أن يجريها على نبينا الكريم ﷺ ، فقد هاجر نوح في السفينة ، و هاجر لوط إلى الأرض المباركة ، و هاجر إبراهيم من أرض بابل إلى الشام ثم إلى مصر ، و هاجر شعيب من قريته التي كانت تفعل السيئات ، و هاجر موسى من مصر إلى مدين ثم عاد إلى مصر بعد أن خرج منها خائفًا يترقب ، و هاجر المسيح عيسى ابن مريم مع أمـه و يوسف النجار و غيرهما ، فيما سُـمي بـ رحلة العائلة المقدسة …… وهكذا فقد جرت سنَّة الهجرة على هؤلاء الرسل و الأنبياء و غيرهم … من هنا فقد جاءت هجرة رسولنا بتقدير من اللّٰه - تعالى - لينطبق عليه ما انطبق على الأنبياء السابقين حيث غادروا أرض القوم الذين رفضوا الاستجابة لكلمة الحق ورسالة التوحيد .

و لقد طُبقت هذه السنَّة على نبينا ليتمكن من وضع اللبنة المباركة الأولى في صرح المجتمع الإسلامي الوليد بـ يثرب ، ومعلوم أن عملية التأسيس لمجتمع ناشئ وجديد تحتاج إلى ظروف معينة و أجواء مناسبة ، و معلوم أيضًا أن هذه الظروف و تلك الأجواء كانت مُـفـتَـقَـدة تمامًا في مـكـة و قتذاك ؛ لغلبة أهل الشرك و الكفر عليها و سيطرتهم على أجوائها.

من هنا فإن الهجرة كانت تعد مطلبًا ملحًّا وضروريًّا ، وكانت تقديرًا ربانيًّا لينتقل المسلمون بعد استقرارهم بالمدينة من كونهم مجرد مجموعة من الناس اقتنعوا بنبوة النبي ورسالته إلى تكوينهم لمجتمع جديد له أسسه الثابتة ، وله أركانه وأعمدته التي يقوم عليها ، وهنا يسقط زعم بعض المستشرقين و أتباعهم بأن الهجرة كانت فرارًا من النبي وصحابته من مكة إلى المدينة المنورة .

ويتبين للمتأمل أن النبي ﷺ اعتمد مجموعة من الأسس حيث أرساها وجعلها تشكل فلسفة أو جوهر عملية الإعمار من وجهة النظر الإسلامية ، هذه الأسس تتمثل فيما يلي :- 

أولا ـــ الإعلاء من الجانب الروحي 

لقد كان الأصل الذي جاءت الرسالات السماوية تترى من أجل تحقيقه و التكريم له هو إخراج الناس من ظلمات الكفر ومتاهات الخضوع للشرك إلى حيث الوعي بأنوار البعد الروحي في الحياة الإنسانية ؛ لذا حرص النبي ﷺ على أن يكون بناء المسجد وتشييده هو أول ما ينجزه ويعفله بالمدينة المنورة ، (( و لا غرو ولا عجب في ذلك ، فإن إقامة المسجد أول و أهم ركيزة في بناء المجتمع الإسلامي ، ذلك أن المجتمع المسلم إنما يكتسب صفة الرسوخ و التماسك بالتزام نظام الإسلام وعقيدتة وآدابه ، وإنما ينبع ذلك كله من روح المسجد ووحيه ، ومعلوم أن من نظام الإسلام وآدابه شيوع آصرة الأخوة والمحبة بين المسلمين ، وشيوع هذه الآصرة لا يتم إلا في المسجد ؛ وإن من نظام الإسلام وآدابه ، أن تشيع روح المساواة والعدل فيما بين المسلمين في مختلف شئونهم وأحوالهم ، وشيوع هذه الروح لا يمكن أن يتم ما لم يتلاقى المسلمون كل يوم صفًّا واحدًا بين يدي اللّٰه - عز وجل ؛ وإن من نظام الإسلام و آدابه ، أن ينصهر أشتات المسلمين في بوتقة من الوحدة الراسخة يجمعهم عليها حبل اللّٰه الذي هو حكمه وشرعه ؛ فمن أجل تحقيق هذه المعاني كلها في مجتمع المسلمين و دولتهم الجديدة ، أسرع رسول اللّٰه ﷺ فبادر إلى بناء المسجد .

من هنا يتأكد لنا أن البناء الروحي للإنسان مقدم في الإسلام على أي بناء آخر ؛ ذلك لما له من أهمية بالغة في بناء الذات المسلمة السوية القادرة على التفاعل ــ مع الكون و الوجود ــ تفاعلًا إيجابيًّا يتيح لها القيام بعملية البناء و التعمير في مختلف مجالات الحياة - ومعلوم أن البناء الروحي للمسلم يتحقق أول ما يتحقق في بيت من بيوت اللّٰه .

ثانيًا : الترسيخ للتسامح وقبول الآخر

لئن كانت الأمم و الشعوب الإنسانية تعاني إلى الآن من تراجع هذه الثقافة ، ولئن كانت الهيئات و المؤسسات العالمية تكرس قسطًا من جهودها وميزانياتها من أجل نشر ثقافة قبول الآخر ، فإن التاريخ الإسلامي قد أمدنا بما يؤكد حرص رسول اللّٰه ﷺ على ضرورة أن يُبنى مجتمع المؤمنين الجديد - بالمدينة المنورة - على أساس راسخ من التآخي الإنساني ، والتسامح الديني الذي يؤدي إلى قبول الآخر والاعتراف بحقه في الاحتفاظ بقناعاته الدينية .

ولقد اتخذ الرسول ﷺ لتحقيق ذلك ما يمكننا اعتبارها منهجين نافذين ومعتبرين في سياق التأسيس لأي مجتمع ناهض ومستقر .

ألاوهما : 

١ـ منهج التآخي 

حيث قال ابن إسحاق ( وآخى رسول اللّٰه ﷺ بين أصحابه من المهاجرين و الأنصار ) *(2) 

وهذا منهاج لم يعرفه التاريخ الإنساني لا في مراحله القديمة ولا في حقبه الحديثة ، فهو منهاج نبوي وإسلامي بامتياز ؛ و الحق أن هذا التآخي قد أثمر افضل الثمار و أطيبها على المستوى الروحي و النفسي بين المتآخيين ، حيث أضحى كل من آخى بينهم رسول اللّٰه ﷺ بمثابة الأخوة الذين لا ينفصل الواحد منهم عن الآخر نفسيًّا أو روحيًّا ، بل لقد عرض بعض أهل المدنية من الأنصار على مَـن تآخى معهم من إخوانهم المهاجرين اقتسام المال و الثروة فيما بينهم ، بل الأغرب من ذلك أن يبدي بعضهم استعداده للتنازل عن بعض زوجاته ـ إذا كان عنده أكثر من زوجة ـ لمن تآخى معه من المهاجرين !! 

ولقد عبَّر القرآن الكريم عن هذا المعنى بقوله - تعالى ـ ﴿ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ﴾( الحشر : ٩ ).

٢- منهج الموادعة 

حيث كتب رسول اللّٰه ﷺ لليهود كتابًا وادعهم فيه ، وأمنَّهم على معاشهم وديارهم ، مع المحافظة لهم على أموالهم لتكون خالصة لهم ، وترك لهم حرية اختيار معتقدهم الديني ، وفي هذا الكتاب شرط لهم ، و اشترط عليهم ، ومما جاء فيه ؛ 

(( بسم اللّٰه الرحمن الرحيم ... وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم ، و للمسلمين دينهم ، مواليهم و أنفسهم ، إلا مَن ظلم وأثم ، فإنه لا يوتغ - بـ.معني ؛ يـهـلـك - إلا نفسه ، وأهل بيته ، وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف ، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف ، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف ، وإن ليهود بني جـشـم مثل ما ليهود بني عوف ، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف ، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف ، إلا من ظلم وأثم ، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته ، وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم ، وإن لبني الشَّطيبة مثل ما ليهود بني عوف ، و إن البر دون الإثم ، وإن موالي ثعلبة كأنفسهم ، و إن بطانة يهود كأنفسهم ؛ وإن على اليهود نفقتهم وعلى المؤمنين نفقتهم ، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، و إن بينهم النصح و النصيحة ، والبر دون الإثم ، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه ، و إن النصر للمظلوم ، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين إلـ.ـخ ))*(3).

هذا بعض ما وادع عليه الرسول ﷺ اليهود ؛ و هو طرح عظيم القيمة رفيع الشأن ، يحفظ حقوق مختلف الأطراف ، و اللافت أن بقية نصوص هذه الوثيقة تتساوى ، إن لم تتجاوز مجموعة القوانين و الأعراف الدولية التي لا تزال أمم الحضارة تكافح من أجل نشرها و التكريس لها عالميًّا .

و هنا يتبين لنا أن منهج الرسول في بناء مجتمع المدينة الجديد لم يغفل تأكيد الاستقرار ، وضبط قوانين الحراك المجتمعي بضوابط شرعية وإنسانية من شأنها تعزيز الثقة بين الجميع ، ومن شأنها ـ أيضًا ـ تكريس التسامح والتآخي بين مختلف الطوائف.

ثالثًا - التعاون 

لقد كانت يثرب وقت أن دخلها الرسول الكريم عبارة عن (( واحة أو جزيرة خضراء ، تبلغ مساحتها نحو عشرين ميلًا مربعًا ، تحيطها حبال بركانية ، وتلال صخرية ، و أراض حجرية ، تتعذر زراعتها ، و لم تكن مركزًا تجاريًّا بل مستوطنة زراعية تعيش فيها شتى المجموعات القبلية متلاصقة و متناحرة ، يسودها العداء القاتل ، في شتى قراها ومزارعها ؛ ودخلت قبائل يثرب تدريجيًّا في حلقة مفرغة من أعمال العنف ، و كانت الحروب الدائمة بينهم مصدر خراب للبلاد ، فهي تدمر المحاصيل وتقوض مصادر ثروة يثرب وقوتها )) *(3).

معنى ذلك أن أجواء يثرب كانت ملتهبة أو شبه ملتهبة ، فالصراع مستمر طوال الوقت بين الجميع ، واشتعال الأزمات ونشوب الخلافات متوقع بين لحظة وأخرى ، ولا شك أن في أجواء كهذه تتطلع العقول ، وتتعلق القلوب ، بمن يعطي شيئًا من أمل أو بصيصًا من ضياء نحو ظهور نور التآخي وبروز قيم وأخلاقيات التسامح بين الجميع.

من هنا كان التقدير الإلهي أن يلتقي رسول اللّٰه ﷺ في ذاك الحين مع بعض أهل المدينة بالقرب من مكة و يحدثهم في أمر الدعوة الجديدة ، فتنشرح صدورهم لحديثه و تتهيأ نفوسهم لدعوته ، فيأخذ منهم البيعة على الدعم و النصرة ، و المحافظة عليه من كل ما يحفظون منه أموالهم وأبناءهم ، وبالمقابل فقد تعهد لهم رسول اللّٰه ﷺ بمثل ذلك .

وتلك كانت أول لبنة في صرح ( التعاون ) بين سكان المدينة وبين رسول اللّٰه ﷺ الذي سيشكل ( الوافـد ) على أهل هذه الديار ، وفي المدنية حرص ﷺ على جمع مختلف قبائلها على كلمة سواء ، هذه الكلمة جوهرها تأكيد حرية الاعتقاد ، و التناصر في الدفاع عن المدينة ، و التعاون في تنمية أحوالها وتنظيم حياة قاطنيها ، من هنا فقد جاء في الوثيقة .

( وإن بينهم النصر على مَن حارب أهل هذه الصحيفة ، وأن بينهم النصح و النصيحة و البر دون الإثم ) *(4).

و لما كان التعاون هو ترياق نجاة الأمم ، وهو منهاج نهوضها ودستور تقدمها ، فقد تقبل الجميع هذا التعهد من الطرفين بالبِشْر و الاستبشار بمستقبل أفضل للمدينة في ظل وجود رسول اللّٰه ﷺ بين قاطنيها.

وهنا يَـبرز لنا إيمان الإسلام الحنيف بأهمية ( التعاون ) كآلية لنجاح المجتمعات و تقدمها و إعمارها ؛ وذلك من خلال حرص النبي على تأكيد ( روح التعاون ) وسيادته بين جميع أهل المدينة و قراها وشِـعـابها و أطرافها .

رابــعًـا - التنمية 

لقد مثلت التنمية نقطة جوهرية في دعم حياة المدينة واستقرارها ؛ لذا حرص النبي ﷺ على دفع المؤمنين إلى العمل بالتجارة وارتياد الأسواق ، وحرَّضهم على الاعتناء بالنخيل ، مع الاهتمام بمختلف المزروعات (( فمن المهاجرين مَن تعاطوا الزراعة فلقد آجرهم أهل المدينة الأراضي على قسم من المحاصيل ، ونذكر من المهاجرين الذين عاقدوا أهل المدينة على مثل ذلك عليّ بن أبي طالب وسعد بن مالك و عبدالله بن مسعود و غيرهم (5).

خامـسًـا - المساواة 

من اللافت أن الحياة في المدينة أُسست على المساواة بين الناس جميعًا ، وتم رفع شعار (( لهم ما لنا و عليهم ما علينا )) ، هذا فيما يتعلق بالحقوق و الواجبات التي يناط بمختلف طوائف المجتمع التعامل بها و الالتزام بمضمونها .

أما عن المسلمين فقد اتضح مستوى الدقـة في المساواة بينهم ( لا من حيث إنها شعار برَّاق للزينة و العرض ، بل من حيث إنها ركن من الأركان الشرعية المهمة للمجتمع الإسلامي ، يجب تطبيقة بأدق وجه وأتم صورة ، وحسبك مظهرًا لتطبيق هذه المساواة بين المسلمين ما قرره النبي ﷺ في الوثيقة بقولة : { ذمة اللّٰه واحدة ، يجير عليهم أدناهم } ؛ ومعنى ذلك أن ذمة المسلم أيًّا كان محترمة ، وجواره محفوظ لا ينبغي أن يجار عليه فيه ، فمن أدخل من المسلمين أحدًا في جواره ، فليس لغيره حاكمًا أو محكومًا أن ينتهك حرمة جواره هذا ) *(6).

الـخـلاصـة : 

برغم وجاهة القول بأن النبي ﷺ هاجر من مكة إلى المدينة لتنامي إيذاء المشركين للمسلمين إلا أن الهجرة هي سنَّة من سنن اللّٰه - تعالى - التي أجراها على الأنبياء و الرسل ؛ ولقد ارتبطت الهجرة إلى المدينة بإعمارها ؛ وتقوم فلسفة الإعمار في الإسلام على أساس من البناء الروحي ، و التسامح ، و التعاون ، و التنمية ، و المساواة .

هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺

إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان.

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

*الـمـراجـع .___________________________

*(1) كتاب حياة محمد في عيون مستشرق ، ترجمة د/ عاد زعيتر ، صـ ١٦٩ـــــــــــــــــ

*(2) ينظر لمزيد من التفاصيل سيرة ابن هشام تخريج و تحقيق وليد بن محمد بن سلامة ، خالد بن محمد بن عثمان ، مكتبة الصفاء ، القاهرة الطبعة الأولى ، جـ ٤ ، صـ ٩٦ و ما بعدها.ــــــــــــــــــ

*(3) ابن هشام : السيرة النبوية ، صـ ٩٤ - ٩٦ ، بتصريف يسير 

*(3) مرجع سابق ابن هشام السيرة النبوية ـــــــــــــ

*(4) إميل درمنغم مستشرق فرنسي مرجع سابق *(1)ـــ

*(5) ابن هشام مرجع سابق صـ ٩٦ ـــــــ

*(6) دكتور محمد سعيد رمضان البوطي صـ ١٥٣ ، ١٥٤ ــــــــ.

الجمعة، 6 سبتمبر 2024

صناعة المال الحلال Halal industry


 الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

صناعة الحلال وعلاقته بالتنمية الاقتصادية المستدامة 

فإن الحديث عن صناعة الحلالِ وأثرِها في استدامةِ الاقتصادِ العالميِّ ، موضوع يحتاج إلى قراءةِ الواقعِ الجديدِ بعينِ الشَّريعةٍ المستقرَّةِ أصولُها ، وبعينِ العصر المتغيِّرةِ مجالاتُه ، لهو دليلٌ على ضرورةِ الوعيِ ، وأهميَّةِ التَّواصلِ الفكريِّ بين مختلفِ الهيئاتِ العلمية.

فصناعة الحلالِ وإن بدا لبعض النَّاسِ أنها وليدةُ العصرِ ، وأنّّها من طرحِ الواقع ، تنطلقُ من أساسٍ إسلاميٍّ واضح ؛ فالشَّريعةُ الإسلامية تدور أحكامُها بين الحلِّ و الحرمةِ ، وتدعو المسلمين إلى أن يكونوا دائما في دائرةِ (( الحلالِ )) وأن يتورَّعوا عمَّا فيه شبهةٌ ، وحتى الأطمعةُ و الأشربةُ الَّتي يتناولُها الإنسان ، و التي بدأت بها حلال المعاصرة فإن الشِّريعةَ الإسلاميَّةَ قد عُنيت بها ؛ باعتبارِها أداةً للمحافظةِ على النَّفسِ و العقل و النَّسلِ ، وهذه الثَّلاثةُ من الكلِّيَّاتِ الخمسِ التي تدورُ عليها أحكام الشريعة.

ولقد جاء الخطابُ الشَّرعيُّ بتحرِّي الحلال موجَّهًا إلى النَّاسِ كافَّةً ، فقال تعالى :- ﴿ طَيِّبٗا ﴾ ( البقرة :- ١٦٨ ) ، وأُمرَ به المؤمنون أمرًا خاصًّا فقال سبحانه : ﴿  تَعۡبُدُونَ ﴾ ( البقرة :- ١٧٢ ) ، وبهذا الشُّمولِ نؤكِّدُ أن الإسلامَ أراد لصناعةِ الحلالِ أن تكونَ « صناعةً عالمية » .

وأما السُّنَّةُ النَّبويَّةُ فقد أكدت هذا المعنى ، وزادت أن طلب الحلالِ و الحرص عليه سبيلُ القربِ من اللهِ ، وسببُ استجابةِ الدُّعاءِ ، وفي ذلك يقول رَسُولُ اللهِ ﷺ (( أَيُّـهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللهَ أَمَـرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَـرَ بِـهِ المُرْسَلِينَ ، فَقَالَ ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ ﴾( المؤمنون : ٥١ ) وَقَالَ :- ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ ﴾( البقرة :- ١٧٢ ) ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ، يَارَبِّ ، يَارَبِّ ، وَمَطْعَمُهُ حَرامٌ ، وَمَشْرَبُـهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَرامٌ ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتجَابُ لِذَلِكَ ؟ )) *(1).

ومن فضل الله على العالم أن الاهتمام بالحلال وصناعته تجاوزَ الأغذيةَ و الأطعمةَ إلى غيرها ، وتجاوز الدول الإسلاميَّةَ إلى غيرِها ، وصارت فكرةُ الحلالِ عالميِّةَ الاهتمام.

وممَّا ينبغي أن يستقرَّ في الأذهانِ أنَّ (( شهادةَ الـ.حلالِ )) لا ينبغي أن تكونَ مجرَّدَ إشارةِِ دينيَّةٍ للحلِّ و الحرمةِ ، بل يجبُ أن تكونَ شهادةً لأيِّ منتج يدخلُ ضمنَ صناعة الـ حلال بتوفُّرِ المعاييرِ الشَّرعيَّةٌ و الفنِّيَّةِ اللَّازمةِ الَّتي تقرِّرُها الجهات المختصَّةُ .

وإذا كانت المعايير الشَّرعيَّةُ تدورُ حول أحكام الحلال و الحرام ، فتمنعُ دخولَ المكوِّنَاتِ المحرَّمةِ دينيًّا كـ الخمرِ و الخنزيرِ مثلا ، فإن المعاييرَ الفنيَّةَ العلميَّةَ لا تخرجُ عن حياضِ الشَّريعةِ كذلك ، و من ذلك مراعاةُ متطلَّباتِ السَّلامةِ الغذائيَّةِ ، وكلِّ ما هو ضار بصحَّةِ الإنسان و الحيوان ، فتشملُ بذلك كل ما يتعلَّقُ بالإنتاجِ و التَّصنيعٍ و العرضِ و النَّقل و التَّخزينِ و صولًا إلى المستهلكِ .

ولما كانت المعايير الفنِّـيَّةُ لا تخرجُ عن حياضِ الشَّريعةِ بما لها من آثارِِ تتعلَّقُ بالمحافظةِ على ما يحتاجُ إليه الإنسانُ و الحيوان من سلعٍ و خِدْماتٍ فإنَّ الواجبَ الشَّرعيَّ أن نعقدَ نوعًا من المزاوجةِ بين المعاييرِ الشرعَّيةِ و الفنية بما يُبرزُ شمولَ الشَّريعةِ من ناحيةٍ ، و يُعلي من قدرِ الاشتراطاتِ الفنية العلمية من ناحية أخرى .

ويمكن أن نوجزَ بعض المعايير الشرعية و الفنية فيما يأتي :

أولا : حلُّ المكوِّنَاتِ 

و المكونات المقصودة في هذا المعيار لا تقفُ عند أحكام الذَّبح و التَّذكيِة الشَّرعيَّة للطُّيور و الحيواناتِ ، ولكن المكونات المقصودةُ هنا هي كلُّ ما يدخلُ في منتجاتِ صناعةِ الـ حلال ، سواءٌ كانت مكوِّناتٍ طبيعيَّةّ أو مصنَّـعةً ، و سواءٌ كانت أساسية أو مضافةً بحيث تُستبعدُ بحسب أحكام الشَّريعةِ كلُّ مادةٍ محرمةٍ لذاتها أو لما يترتب عليها ، و لا استثناء من هذا إلَّا لضرورةٍ.

ثانيَا : دفـعُ الضَّـرِر 

ويقصد بهذا المعيارِ ألَّا تكون المكونات على اختلافِ أنواعِها مُضرَّةً في ذاتها ، أو فيما يترتَّب عليها ، وأن يكونَ تناولُها في إطارِ الحدِّ المسموحِ به صحِّيًّا ، ويدخلُ في هذا المعيارِ الموادُّ المضافة إلى الأغذية و الأشربة، و التحقق من خلوُّ المنتج من أيَّـةِ ملوِّثاتٍ أو بقايا مبيداتٍ ، مع مراعاةٍ رقابةِ الإنسانِ لاستهلاكِه للموادَّ الحافظِة ، وإن كان مسموحًا بها ؛ فإن كثرةَ الاستعمالِ قد تجعل الحدَّ المسموح به مضرَّا كذلك.

ثالثَا : الطَّهارةُ 

ويقصد به توفير ما يمكن لتحقيقِ نظافةِ المنتجِ النِّهائيِّ ، بدءًا بالمكوِّنات و الأدواتِ المستعملةِ في الانتاجِ ، و الموادِّ الكيمائيَّةِ الَّتي تستعملُ في نظافةِ الأماكنِ و طهارتِها ، و البيئة التي تعدُّ فيها المنتجاتُ التي قد تتَّسعُ لملاحظةِ المنطقةِ الصناعية المحيطة بـ المصنع ، بحيثُ يكونُ هواؤها خاليا من الملوثات و الإشعاعات ، و وصولا إلى ما يُستعمل لصيانةِ خطوط الإنتاج وإدامة عملها.

رابـعَـا : الممارسةُ التَّصنيعيَّةُ المثالَّيةُ 

و هذا المعيار وأن كان في ظاهره لا يرتبطُ بـ الحلِّ و الحرمةِ مباشرةً ، إلَّا أنَّه يتعلق بالإتقانِ و الإحسانِ اللَّذين أُمرَ بهما المسلمون ، وهذه الممارسةُ المثاليَّةُ المطلوبةُ تضمنُ استمرارَ نمطٍ صحيحٍ في التصنيع يترتب عليه منتجٌ نهائيٌّ ذو جودةٍ عاليةٍ ، وفي المقابل قد تؤدِّي الممارسةُ السَّيئةُ إلى ضعفِ جودةِ المنتجاتِ ، واختلاطِ المنتجِ بموادَّ قد تكون محرَّمةً أو غيرَ نظيفةٍ .

خامسًا : التَّوثيقُ 

ويُعنى بهذا المعيارِ ضمانُ نظامٍ مستمرٍّ و مستقرٍّ في إجراءاتِ التصنيع في مراحلِه كافَّةً ، للوصولِ إلى مطابقةٍ نهائية للمواصفات المعتمدةِ من قِبل الهيئات الرَّسميَّةِ شرعية و فنية ، ابتداء بما تحتويه من مكونات ومواد أولية ، و توصيفها و نِسبِها و كيفيَّاتِ التصنيع ، و مرورًا بمراقبةِ الوثائقِ و الأوراقِ الَّتي تشهدُ بكل ما يجري من توريدِ البضاعةِ و ما يتعلق بمنشئِها و كميَّاتِها وظروف ِ توريدِها وسلامتِها وتخزينها وعرضها و نقلِها ، بما يضمنُ عدمَ وقوعِ الغشِّ في التصنيع و الإنتاج .

و لا شك أن تطبيق هذه المعايير و غيرها ممَّا تضعُه الجهاتُ المسئولةُ الخبيرةُ للعاملين في مجال صناعة الحلال سواء كانوا أفرادًا أو جماعاتٍ يحتاجُ إلى يقظةٍ و انتباهٍ وفتوى بصيرة و عميقةٍ تقدرُ على صرفِ الأحكام الشرعية إلى حيث يجب أن تكون ، وينبغي أن يكون الخبير الشرعيُّ مطَّلعًا بصورةٍ كافية على المعايير الفنية ، وقادرًا على تكييفها من الناحية الفنية و الشرعية ؛ ليستطيع اتخاذ قرارٍ إيجابيٍّ في ظلِّ سوق تنافسيٍّ ، و تسارع علميًّ قد يرتقي بالأمة أو ينحدرُ بها.

علاقة صناعة الحلال بالتنمية الاقتصادية المستدامة


الاستدامةَ الاقتصاديَّةَ تعني القدرة على تحقيقِ التَّنمية الاقتصادية بحسنِ استثمارِ المواردِ الطبيعية و البيئية في الوقت الحاضر دون المساس بحق الأجيال القادمة في تحقيق تنميةٍ مماثلةٍ أو أكبرَ منها .

ولا تتوقَّفُ الاستدامةُ الاقتصاديَّةُ على جانبٍ واحدٍ في الحياةِ ، و إنَّما تنصرفُ إلى الجوانبِ البيئيَّةِ و الاجتماعيَّةِ و الاقتصادية وتشملُ إلى جانب تحسين الإنتاجيَّةِ ، ورفعِ الكفاءةِ ، وزيادةِ القدراتِ و المهارات ؛ و المحافظة على الموارد الطبيعية ، وتحسين فرص التوظيف ، و توزيع الثروة بطريقة عادلة و متوازنة ، واستخدام الطاقة

المتجددة
وتقليل النُّفايات و التلوثِ ، و تشجيع الاستثمار في المشروعات الصغيرة و المتوسطة بالمناطق الفقيرة ، و تحسين البنية التحتية الخضراء.

وبهذه الإجراءات و غيرها مما يضعُه المختصون تسهم الاستدامةُ الاقتصادية في تحقيق العدالةِ الاجتماعيَّةُ ، و توفير فرص العمل ، و تحسين أحوال المجتمعات في الوقت الوقت الحاضر و المستقبل.

سوقًـا واعـدةً 

وصناعة الحلال باعتبارها سوقًا واعدةً يمكن أن تسهمَ بفاعليًّةٍ كبيرةٍ في تحقيقِ هذه الاستدامةِ الاقتصاديَّةِ المرجوَّةِ .

و من تأمَّـلَ الإسلام وجد أن الشريعة الأسلامية لا تنتظر وقوع الأزمات ، بل تحمي المجتمع من كثيرٍ منها بالقضاءِ على أسبابها ، وهذا ليس غريبًا على منهجٍ يستمدُّ مبادئه وأدواتِه من وحيِ السَّمَاءِ ، الذي أرادَه اللهُ لهدايةِ البشرية جمعاء ، فالحرص على أحكامِ دينِنا الإسلاميِّ الحنيفِ يجنِّبُ المجتمعَ مشكلاتٍ كثيرةً ؛ لأن هذا المنهج الإسلامي بقِيَمِه و أخلاقيَّاتِه هو الضمانةُ الحقيقيَّةُ لإقامةِ مجتمع مستقرٍّ اقتصاديًّا ، و متقدم حضاريًّا ، و منضبطٍ أخلاقيًّا.

منهج الإسلام الإقتصادي 

إن منهج الإسلام يواجه كل محترفي المعاملات المحرمة التي تضر بالمجتمعِ و التي تنشرُ الظُّلمَ و الاستغلالَ بين أفرادِه ؛ و لأن معظمَ المشكلاتِ الاقتصاديةِ في العالمِ الحديثِ تأتي من الفسادِ ؛ فإن الشريعةَ الإسلامية التي تنظِّمُ حركةَ الإقتصادِ في المجتمعِ تحرِّمُ و تـجـرِّمُ جميع وسائل الكسب غير مشروع و الشريف ، و منها الغشُّ و التَّدليسُ ، و منها الـرِّبـا ، و الرِّشوةُ ، و استغلالُ النفوذ و السُّلطانِ ، و التحكم في ضروريات حياة الناس و استغلال حالاتِ عوزِهم و حاجتِهم ، وما إلى ذلك من الطُّرقِ غير النظيفةِ في كسب الـمـال ، كما تحرم امتلاك ما ينتج عن كل تعامل محرَّمِ.

ولأن كل أزمةٍ لها ضحاياها من الناحيةِ الاقتصادية ، قدم الإسلام نظامًا شاملًا للتكافل الإنسانيِّ و الاجتماعيِّ ، لإغاثةِ الفئات المتضررة من الأزمة أيًّا كانت أسبابُها - صحية أو بيئيَّةً أو اقتصاديَّةً - فـ الإسلامُ لا يتركُ الطبقاتِ الفقيرة أو محدودةَ الدخل بلا موردِ رزق كريم ، ولدية أداوته التكافلية الفاعلة ذات الموارد المتجددة للتعامل مع التداعيات الاقتصادية و الاجتماعية لكل أزمةٍ ، و الإسلام بذلك يحمي المجتمع من أزمات أمنية وصحية و اجتماعية و أخلاقية كثيرةٍ .

و هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛؛؛؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺

إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان.

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

*الـمـراجـع .__________________________

• (1) أخرجة مسلم ، ( ١٠١٥ ) 



الاثنين، 2 سبتمبر 2024

وَلْيَسَعْكَ بيتُك - keep to your house


 

الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

جاءنا في الخبر عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ - رضي الله عنه قالَ : قلت : يا رسولَ الله : مَا النّجاةُ قال : « أَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ » ؛ *(1).

الحديث الشريف 

من جوامع كَلِمِهِ ﷺ يقف السائلَ عن النجاة الحريصَ على السعي إليها على سُبُلها ، وكلٌّ من هذه الثلاث تستحق إفرادها بالحديث .

ولأن هذه الإطلالة تخص واسطة العِقد منها فحسبُـنا في هذا المقام الإشارةُ المجملةُ إلى هذا العِقْدِ الفريد المنظوم من الجمل الثلاث أنها جاءت في ترتيـبـهـا موافقةً لما تعبر عنه من معانٍ سامية ، ففي الصدارة يأتي اللسان ، فإذا لم يُلْجِمْه صاحبُه إلجامًا حتى يَملِكَه فإنه يَفقِدُ السيطرة عليه ، وحينئذٍ لن يَسَعَه بيتُه ، بل سيضق عليه ، حيث شَهِيَّةَ انِفلاتِ لسانِهِ خارجَ بيتِهِ في مواطن اللهو و الأُنسِ و السمِرِ ، وساعتئذٍ لا مكان لتَذَكُّر خـطيـئةٍ مضت ، فيكون باكيًا على اقتِرافِها ، كيف ولسانُهُ المنفلتُ يُغرقُهُ فيها ، ألا ترى معي أن ترتيب الجمل الثلاث جاء منسجمًا مع المعاني المعبِّرةِ عنها ؟ 

و انـظـر 

إلى ثالث الجُمل من حديثة ﷺ وذلك قوله : « وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ » و قد جاءت بعد سابقتيها ، و كأنها تشير على هذا الوجه من الترتيب إلى أن الممتثل للأمرين الأولَينِ ماضٍ إلى ثالثهما ، وما له لا يبكي على خطيئته وقد استشعر بعد أن ملك زمام لسانه ، و وسعه بيته أنه فرَّط فيما مضى ، لعله يستدرك فيما بقي ، فهو حينئذٍ المشفق على نفسه وعلى أهله ، الخائف من أن يلقى ربه وهو مُقَصِّرٌ في حق أهله وحق نفسه ؛ لذا فهو بين أهله ليس ذلك الآمرَ الناهيَ الزاجرَ المُزَمْجِرَ ، و إنما يجده أهله بينهم خائفًا من ربه وَجِلًا أن يكون مقصرًا في حقهم ؛ تربية و تزكية ورعاية ، ومشفقًا على نفسه أن يكون قصَّر فيهم ، ومشفقًا عليهم بكل وجوه الإشفاق ، وبيتٌ هذا شأنه عرف معنى الخشية من الله ، ويوم يذوق أهل هذا البيت الذي تلمَّس طريقه لمولاه ثمارَ ما امتثلوا و أطاعوا ، هنالك يتذاكرون تلك الأيام الخالية في قوله تعالى:- { وَأَقۡبَلَ بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ يَتَسَآءَلُونَ } ( الطور :- ٢٥) ؛ قائلين :--{ قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا قَبۡلُ فِيٓ أَهۡلِنَا مُشۡفِقِينَ } ( الطور :- ٢٦ ).

لنعد إلى واسطة العِقْدِ في تلكم الجمل الثلاث  ( وَلَيَسَعْكَ بيتُك ).

كلمتان عظيمتان 

حقًّا إنهما في دلالتهما على المعني ، عظيمتان في توسطهما بين الجملتين المذكورتين توسُّطَ البيت الهادئ الهانئ بمن فيه ولو أحاطت به الأعاصير من كل جانب ، وكأنه سفينة نوحٍ : سفينِة النجاة وهي تجري بالناجين في موج كـ الجبال.

كلمتان لا تنتظران من مثلي أن يبين للعقلاء عظمتهما ، إنما هما اللتان تنبئان عن عظمتهما ، بما تحملان من دقة اللفظ مع وجازته ، بالأضافة إلى عمق المعاني وسَعَتِها مع غزارتها.

وكأني بالكلمتين من جوامع كَلِمِه ﷺ تُلِحّانِ علينا إلحاحًا ؛ كي نعيدَ قراءَتَهما من جديد كلما شعرنا بمزيد حاجتنا إلى العودة إلى بيوتنا.

حاجة بيوتنا لعودتنا إليها 

وأول ما يستوقف المتأمل في هذا الهَدْي القويم ذلك الأمر الموجَّه إليك أيها المخاطب العاقل فعل الأمر ( وَلَيَسَعْكَ ) ، فمن أنت حتى يُطلَبَ منك أن تسعى جاهدًا لأن يَتَّسِعَ لك بيتُكَ ؟ ألم يَتَّسع البيتُ الذي تسكن فيه لك ولمن معك من أفراد أسرتك !؟ أبلغتْ ضخامةُ بدنك الحَدَّ الذي يُطلَبُ منك أن يتسع لك بيتك ؟ أم يطلب منك أن تُخرِج من في البيت حتى يخلو البيت لك ويسعك ؟

لا ريب أن هذا النوع من الفهم -- المثير للضحك -- المتبادر إلى الذهن سرعان ما يكشف عن ضحالته وسذاجته عند أدنى تأمل.

لكن الحكمة النبوية أرفعُ وأجلُّ من أن تُفهَمَ على هذا الوجه الساذَجِ أو ذاك ، فلا البيت الذي طُلِبَ منكَ أن يَسَعَكَ هو هذا البيتُ الماديُّ الذي لا يتجاوزُ الأركانَ و الجدرانَ ، ولا أنت أيها المخاطَبُ المطلوبُ منك هذا المطلَبُ هو أنت صاحبَ البدن وكفى ، فبيوتُنا الماديةُ هي على حالها ، وأبدانُنا كذلك على حالها إذا كانت نظرتنا بهذا المنظور السطحيِّ.

من نحن 

فمن نحن الموجَّهون بهذا التوجيه الحكيم الرشيد ؟ وما بيوتنا التي يطلب منا أن تكون واسعة لنا ؟

إنّ المخاطب بهذا الخطاب الشريف هو تلك النفس البشرية التي خلقها ربها خلقًا خاصًّا مركبًا مما تفرَّق في المخلوقات من حولنا ، فلئن كان البدن آلة لهذه النفس فهي مزيجٌ مُعَقَّدٌ من نوازع الخير فينا إذا تعهدناها تَعَهُّدَ الزارع النَّبتة الصغيرة فإذا هي شجرة مورقة مزهرة مثمرة ، وإن نحن أهملناها وتركناها ترتعْ بلا ضابطٍ من عقل ودينٍ هلكت وأهلكت ؛ قال تعالى : -- ﴿ وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا (٧) فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا (٨) قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا (٩) وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا (١٠) ﴾ :- { الشمس :- ٧ - ١٠ } .

و أما بيتك الذي أمرت أن يَسَعَكَ فهو أهلُكَ و شئونهم ، و شأنُك بينهم ، ودورُك معهم ، وقِوامتُك عليهم ، إنه أمورٌ كثيرةٌ و متشعبةٌ ، إنه والحالة هذه مملكتُك التي تعتلي عرشَها متحمِّلًا مسئولياتها ، إنه أمانتُك التي ائتُمِنتَ عليها ، وخلافتُك التي استُخلِفتَ فيها .

ألم تسمع إلى رسولنا الكريم ﷺ يقول : (( كَـفَى بالمرءِ إثمًا أن يُضيّعَ مَنْ يَقُوتُ ))*(2).

النجاةَ 

إن في سعة بيتك لك النجاةَ كلَّ النجاة ، فبيتك الذي يُؤويك ، فتسلم من أذى الناس ، ويسلم الناس من أذاك ، وفي ذلك نجاة لك من نفسك ، وفي سعة بيتك لك نجاة أهلك ، فهم أولى الناس بك ، وأحوجهم إليك ، و أصحاب الحق عليك ، وهذا كله يضاف إليه نجاةُ الآخرين منك حيث ملكتَ لسانَك ، و وسعكَ بيتُك ، وشُغِلت بنفسك عن غيرك .

وهذه الوجوه من النجاة وإن كانت دنيوية فهي ليست مقطوعة الصلة عن نجاة الآخرة ، و من منا لا يعلم بَدَهِيَّةَ الإسلام القاضية بأن الدنيا مزرعة الآخرة !!

أما من لم يستجيب ـ عافانا الله وإياكم ـ إلى هذا الهدي القويم فانظر إلى حالهم و أوضاع أُسرهم .

انظر إليهم وقد ضاقت عليهم بيوتهم فضاقت عليهم الأرض بما رحُبَت ، وضاقت عليهم أنفسهم ! فتراهم يَتَرَنَّحون هـنـا -- و هناك تـرنُّـحَ الـطـائـر المذبوح وقد سرقته السكين ، فالمسكين --- منهم يخرج من عمله إلى المقهى أو الملهى تاركًا أهل بيته ، فلا يعود إليهم إلا وهم نيام كما تركهم بالغداة و هم على هذا الحال و قد --- صاروا يتامى بلا يُـتْـم ، و حيارى بلا ربان .

ألا إننا نحن الذين نُوَسِّعُ ضيِّقًا ، و نُضَيِّقُ واسعًا ، لو عدنا إلى بيوتنا لوسِعتْنا ، ونجونا ونجت بنا ، فالنجاة النجاة ؛ فإن حاجتنا إلى بيوتنا ، كـحـاجـة بيوتنا إلينا .

هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺

إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان.

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

*الـمـراجـع .___________________________

*(1) أخرجه الترمذي في الجامع الكبير ، بَابُ مَاجَاءَ فِي حِفْظِ اللِّسَان ، رقم الحديث : ( ٢٤٠٦ ) ، وقال : هذا حديثٌ حسنٌ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*(٢) أخرجه أبو داود في السنن ، عن عبدالله بن عمرو ، باب

 في صلة الرحم ، رقم الحديث : ( ١٦٩٢ )ــــــــــــ

الخميس، 22 أغسطس 2024

‏حياة الماعز The goat life

 ‏حياة الماعز فيلم هندي 


"هذا الفيلم لا يحمل إساءاة لأي دولة أو شعب او مجتمع أو عرق"


بهذه العبارة بدأ صناع الفيلم الهندي حياة الماعز فيلمهم في إشارة إلى ما سيحدثه الفيلم من ضجة كبيرة على المستويين الخليجي والعربي بمجرد عرضه.


فيلم حياة الماعز

 من إنتاج هندي استغرق تصويره خمسة أعوام ما بين بلدان الأردن والهند وبلدان أخرى وعرض في الهند في مارس الماضي ثم تم عرضه على منصة نيتفليكس في يوليو الماضي ليصبح الفيلم الأكثر مشاهدة ويشاهده ملايين عبر منصة الأفلام الشهيرة.


قصة الفيلم مأخوذة من رواية بنيامين وهي تجسيد لقصة حقيقية بطلها مواطن هندي حكي ما تعرض له من مآسي بشعة أثناء رحلة عمله في المملكة العربية السعودية على يد ما يعرف باسم الكفيل والذي جسد دوره الفنان العماني طالب البلوشي.


على مستوى صناعة الفيلم 

من حيث التمثيل والإخراج والتصوير والسيناريو والموسيقى التصويرية فقد أبدع صناع الفيلم في رسم تفاصيل الحكاية بدقة واحترافية شديدة ما جعل انتشار الفيلم والتأثر بأحداثه أمرا طبيعيا لما يجسده من معاناة إنسانية كبيرة لفئة العمال المغتربين.


قصة نجيب العامل الهندى

 الذي باع منزله ليحصل على تأشيرة عمل في إحدى الشركات داخل المملكة العربية السعودية ، هي قصة ملايين البشر الذين ساقتهم الأقدار لرحلة عمل مشابهة داخل السعودية ليصطدموا بكابوس بشري اسمه نظام الكفيل بما يحمله من قسوة وظلم وقمع واستعباد للعامل الوافد أيا كانت جنسيته او دينه دون رحمة أو إنسانية أو احترام لقانون أو نظام.


يصل نجيب إلى السعودية وفي المطار لا يفهم لغة الموظفين ولا يجد كفيله الذي يستقبله ، فقط صديقه الصغير حكيم الذي يعرف بعض الكلمات الإنجليزية ولا يفهم هو الآخر ما يحدث حوله في مشهد كشف لك معاناة كل عامل مغترب لا يعرف من اللغة إلا لغته الأم ويصبح عرضة للنصب والاحتيال بل الاختطاف من أصحاب البلد وهذا ما حدث مع أبطال الفيلم.


كفيل سعودي صارم الملامح قاس الطباع عنيف المعاملة ، اصطحبهم في سيارة متهالكة في رحلة نحو الصحراء القاحلة ، يسبهم كلما تكلموا ، يوبخهم كلما سألوا ، يضربهم كلما اعترضوا ، اختطفهم إلى المجهول ، ترك الولد الصغير حكيم في مزرعة أحد أصدقائه داخل الصحراء ثم اصطحب نجيب بطل الحكاية إلى جحيم آخر أو حتى اكون دقيقا إلى حياة الماعز.

محاوله هروب 

ثلاثة أعوام ، تحول فيها نجيب إلى شخص آخر ، فقد وزنه ، طالت لحيته ، تحول لونه إلى اللون الأسود ، تعرض إلى أبشع أنواع العذاب ، فلا ماء ولا طعام إلا بإذن الكفيل ، لم يرى إلا الماعز فبات يعيش حياتهم ، يأكل أكلهم ، حتى فقد القدرة على الكلام إلا بعضا من أصوات يطلقها الماعز بين الحين والآخر.

فرصة للنجاة

فجأة جاءت لنجيب فرصة للنجاة ، تقابل مع صديقه الصغير حكيم وشخص آخر ذو أصول إفريقية وعدهم بالهروب ، وهنا جسد الفيلم مأساة متكررة ليست فقط في صحراء السعودية هربا من الكفيل ولكنها مأساة الهروب من جحيم الأنظمة القمعية في عالمنا العربي.


أثناء الرحلة ، مات الشاب الصغير حكيم من الحر والعطش والتعب امام أعين نجيب ، ثم اختفى الشاب الإفريقي أيضا أثناء عاصفة رملية ، حتى وصل نجيب فجأة وبمعجزة حقيقية إلى طريق للسيارات وهو في حالة إعياء شديدة وعلى مشارف الموت المحقق.


بعد محاولات بائسة لطلب النجدة وإيقاف عدد من السيارات ، توقف له رجل سعودي كريم ، اصطحبه معه إلى المدينة وأوصله إلى المسجد ، وهناك التقطه بعض العمال الهنود فأنقذوا حياته.


قبل عودة نجيب إلى الهند مرة أخرى كشف عن مفاجاة مذهلة داخل مصلحة الجوازات وقسم الترحيلات ، أن الكفيل السعودي الذي اصطحب نجيب من المطار لم يكن بالأساس كفيله الحقيقي وهو ما يوضح بشاعة هذا النظام الذي راح ضحيته آلاف البشر عبر سنوات طويلة.


حياه الماعز 

 قصة حقيقية كشفت عوار نظام الكفيل داخل المملكة العربية السعودية ، ولكنه أيضا أغضب السلطات السعودية والتي أطلقت العنان للذباب الالكتروني ليهاجم الفيلم وصناعه والفنان العماني طالب البلوشي لمشاركته فيما أسموه محاولة الإساءة للمملكة العربية السعودية.


النظام السعودية بقيادة محمد بن سلمان ومندوبه في رئاسة هيئة الترفيه تركي آل الشيخ ، أنفقوا مليارات لرسم صورة جديدة ومتقدمة للسعودية أمام العالم ، نظموا حفلات ، غيروا قوانين ، بدلوا الهوية ، استضافوا مناسبات عالمية كبرى ، في محاولة لتوجيه رسالة مفادها أن السعودية قادمة وبقوة نحو 2030 وكأس العالم 2034.


ما فعله فيلم ‎

#حياة_الماعز بكل ما سبق أنه ببساطة هدم المعبد فوق رؤوس أصحابه وفتح نقاشا لن يتوقف عن حقوق العمال في السعودية وعن فعالية الإجراءات التي أدخلتها السعوية على نظام الكفالة منذ مارس 2021 فيما عرف بخدمة التنقل الوظيفي ومبادرة تحسين العلاقات التعاقدية


كم شخصا يعاني من حياة الماعز !؟ 

شاهد الفليم كامل ✌️شاهد مجاني

الأربعاء، 24 يوليو 2024

الشيخ حسن العطار _ Hassan Al-Attar

 



الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

نشأته و حياته :

المتوفَّى سنة ( ١٢٥٠هـ = ١٨٣٤ م ).

ولد بالقاهرة سنة - نيف ؛ وثمانين ومئة وألف من الهجرة ، ونشأ بها في ظل أبيه الشيخ محمد كتن ، ويمت بنسبه إلى أسرة مغربية ، وفدت إلى مصر وكان أبوه رقيق الحال ( عطارًا ) ، ملمَّا بالعلم كما يدل عليه ما يقوله في بعض كتبه : « ذاكرت بهذا الوالد رحمه اللّٰه » ، وكان يستصحبه إلى متجره ، ويستعين به في صغار شئونه _ نشأ حاد الذكاء قوي الفطنة ، إلى التعليم هواه ، شديد الغيرة و التنافس ، إذ يرى أترابه يترددون على المكاتب ؛ ومن ثم يتسلل إلى الجامع الأزهر مستخفيًا من أبيه ، وقد عجب والده إذ رآه يقرأ القرآن في زمن وجيز ، فشجعه ذلك على أن يدع ابنه الذكي القطن المحب للعلم يختلف إلى العلماء ، وينهل من وردهم ما يشاء ، فجد في المثابرة و الانتفاع من الفحول أمثال : الشيخ محمد الأمير ، و الشيخ الصبان ، و غيرهما حتى بلغ من العلم و التفوق فيه ما أهَّله للتدريس بالأزهر الشريف على تمكن وجدارة.

ولكن نفسه لم تقنع بهذه الغاية ؛ بل مال إلى التبحر في العلوم ، واشتغل بغرائب الفنون ، و الوقوف على أسرارها .

وكان منذ صباه ذا شغف بالأدب ، جادَّا في مطالعته والتزود منه حتى أجاد النظم و النثر في ريعان صباه وبواكير حياته .

وعُني بالأدب الإندلسي عناية فائقة فأخذ يدرسه ويحاكيه ، وكثيرًا ما كان يأسف على انحطاط الأدب في عصره ، ويصف شعراء زمانه بأنهم اتخذوا الشعر حرفة ، وسلكوا فيه طريقة متعسفٍ ، فصرفوا أكثر أشعارهم في المدح و الاستجلاب و المنح ، حتى مدحوا أرباب الحرف لجمع الدراهم ، و كان منهم من كان يصنع القطعة من الشعر في مدح شخص ، يغيرها في مدح آخر ، وهكذا حتى يمدح بها كثيرًا من الناس ، وهو لا يزيد على أن يغير الاسم و القافية ، و أشبهه في ذلك إلا بمن يفرق أوراق _الكدية*(1) بين صفوف المصلين في المساجد ، و هكذا كان حال الرجل ، فلا يكاد يتخذ وليمة أو عرسًا أو يبني بناءً أو يُرزأ بموت محب إلا بادره بشئ من الشعر قانعًا بالشئ النزر.

ولما كانت تلك نظرته إلى الشعر و الشعراء رأيناه قد أغفل شعره ، ولم يحتفظ بما قاله في المدح والهجاء اضطرارًا ، 

ورجا ألا يُحفظ عنه إلا ما لطف من النسيب ، مما ولع به أيام الشباب حيث غصن الشبيبة غض ، و الزمن من الشوائب محض ، و لأعين الملاح سهام بالفؤاد راشقة ، وتثني قدود الغيد تظل له أعين الأحبة وامقة.

ذاك وقت قضيت فيه غرامي    

                                      من شبابي في سترة بالظلام 

ثم لما بدا الصباح لعيني 

                                   من مشيبي ودعته بسلام .

ولما اضطربت الفتن بدخول الفرنسيين مصر رحل إلى الصعيد ، و معه جماعة من العلماء ، ثم عاد إلى مصر بعد أن استقرت الأمور ، و قد أداه حبه الحياة الاجتماعية وميله إلى المخالطة ، و ما عرف به من خفة الروح ، وطيب المعاشرة ، إلى الاتصال بالفرنسيين العلماء فاستفاد من فنونهم ، و أفادهم اللغة العربية ، و كان يقول : « إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها و يتجدد بها من المعارف ما ليس فيها ».

وكان يتعجب مما وقف عليه من علوم الفرنسيين ، ومن كثرة كتبهم و تحريرها وقربها من العقول و سهولة الاستفادة منها.

وهو الذي وقف في امتحان مدرسة الطب خطيبًا يشيد بفائدة الطب في تقدم الإنسانية ، ويفخر بأن أتيح للأزهر في تاريخ مدرسة الطب أول نشأتها أثر جليل إذ كان جُلُّ تلامذتها الأُوَل من الازهر ، و كان لهم في مدرسة الطب من الذكاء وحسن الاستعداد ما راع وبهر.

والشيخ حسن العطار هو الذي قدم الشاب  الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي لمحمد علي ، ليكون إمامًا للبعث الذي أرسل إلى فرنسا في سنة ( ١٨٢٦م ).

وهو الذي أوصي رفاعة أن يقيد مشاهداته في بلاد الغرب من الأمور التي يرى فيها فائدة لبني وطنه ، كي يظهرهم على النواحي المختلفة للحضارة الأوروبية ، حتى إذا أطاع رفاعة أستاذه ، و أتم رحلته ( تلخيص الإبريز في تلخيص باريز ) أوصي العطار بها حتى قامت الحكومة على طبعها ونشرها .

تنقله :

ثم إنه ارتحل إلى الشام ، وأقام بـ دمشق زمنًا كان يقرض فيه الشعر حينًا بعد حين ، قال « وقلت وأنا بدمشق هذه القصيدة ، و سببها أن صاحبنا العلامه محمد المسيري كان قدم من بيروت لـ دمشق ، فأقام بالمدرسة البدرية حيث أنا مقيم ، ومكث نحو شهرين فوقع لي به أنس عظيم  .

ثم عاد إلى بيروت وأرسل مكتوبًا لبعض التجار فيه قصيدة تتضمن مدح دمشق و علمائها وتجارها الذين صاحبوه مدة إقامته ، فكان جزاء تلك القصيدة أنها لم تقع منهم موقع القبول ، و ساروا يهزأون بكلماتها و قوافيها فانتدبت لنظم هذه القصيدة على بحرها ورويها ؛ انتصارًا للشيخ المسيري ، وقد ذكرت بعض متنزهات دمشق في أول قصيدتي ، وأتيت فيها بفنون من الغزل ، و الهجاء وغيرهما ، فقلت :- 

بوادي دمشق الشام جُزْ بي أخا البسط

                                 و عرج على باب السلام و لا تخطي 

ولا تبكِ ما يبكي امرؤ القيس حوملًا

                                ولا منزلًا أودى بمنعرج السقط

هنالك تلقى ما يروقك منظرًا 

                              و يسلي عن الإخوان والصحب والرهط

عرائس أشجار إذا الريح هزها 

                        تميل سكارى وهي تخطر*(2)في مرط*(3)

كساها الحيا أثواب خضر تدثرت 

                       بنور شعاع الشمس والزهر كالقرط*(4)

و منها :-

وقف بي بـ جسر الصالحية وقفة 

                                 لأقضي لبانات الهوي فيه بالبسط 

وعرج على باب البريد تجد به 

                                   مراصد للعشاق في ذلك الخط *(5)

وحاذر سويقات العمارة إنها 

                                  مهالك للأموال تأخذ لا تعطي 

فلو أن قارونًا تبايع بينهم 

                                لعاد فقيرًا للخلائق يستعطي 

ولست لما أنفقت فيها بآسف 

                             و لا بالرضا مني أمازج بالسخط .

وجاء في بعض كتبه أنه أدى فريضة الحج ، واتفق له بعد أدائه أن توجه مع الركب الشامي إلى ( معان ) ثم بلدة الخيل _ فأقام بها عشرة أيام ، ثم يمم القدس فنزل دار نقيبها ، وهنأه بعودته إلى منصبه بعد عزله منه ، ثم ارتحل إلى بلاد الروم وأقام بها طويلًا ، وسكن بلدًا من بلاد _الأرنؤوط _ ، و تأهل بها وأعقب ، ولكن لم يعش عقبه.

عودته إلى مصر :

ولما عاد إلى مصر تولى تحرير الوقائع المصرية ، فكان أحد الأزهريين الأدباء الذين نهضوا بها ، وكانت له شهرة علمية أدبية ، ومكانة أذعن لها معاصروه من العلماء و الأدباء و الأفذاذ.

كان يعقد مجلسًا لقراءة ( تفسير البيضاوي ) ، فيتوافد الشيوخ عليه تاركين حلق دروسهم ، وقد أهلته هذه المكانة العلمية و الأدبية ، وما اتسم به من النبوغ ، و ما طار من شهرته و بعد صيته أن يكون شيخًا للأزهر بعد وفاة الشيخ ( الدمهوجي الشافعي ) .

و لما قدم إلى مصر عام سبعة و ثلاثين ومئتين وألف من الهجرة كبير الدروز _ و كانوا قد انتقضوا عليه _ ملتجئًا الى محمد علي باشا ، وكان في صحبته بطرس النصراني ، اجتمع به وكان بينهما اتصال ومودة ، ورأى المترجم فيه تمكنًا من الأدب والمحاضرة ، ومعرفة بالتواريخ و الأنساب وعلوم العربية وقد حدث بذلك*(6) ، وبأن بطرسًا امتدحه بقصيدة منها :- 

أمــا الـذكـاء فـإنـه             أذكــى وأبـرع مـن إيـاسـه

في أي فــنٍّ شئـتـه               فـكـأنه بـانـي أسـاسـه

أضحى البديع رفيقـه             لما تفرد في جـنـاسه.

مواهبه :

كان رحمه الله طموحًا محبًّا للاجتماع و التنقل ، ومشاهدة الحضارات المختلفة ، وكان معروفًا بالجد و الذكاء معًا ، حدَّث عنه معاصره :- الشيخ محمد شهاب الدين المصري ، الشاعر بأنه كان آية في حدة النظر وشدة الذكاء ، وأنه ربما استعار منه الكتاب في مجلدين ، فلا يلبث عنده الأسبوع أو الأسبوعين ثم يعيده إليه وقد استوفى قراءته ، وكتب في طـرره *(8) على كثير من مواضعه *(9) ، و مما عرف عنه أنه كان يرسم بيده المزاول النهارية.

آثاره : 

له تآليف عدة ؛ منها : ( حاشيته على جمع الجوامع ) نحو مجلدين ، و ( حاشية على الأزهرية في النحو ) ، و ( حاشية على مقولات الشيخ السجاعي ) ، و ( حاشية على السمر قندية ) ورسائل في الطب ، و التشريح ، و الرمل ، و اليازرجة و غير ذلك ، وقد شرح جزءًا من ( الكامل ) للمبرد.

شـعـرة :

لم يُجمع شعر العطار في ديوان ، وقد أراد هو ألا يحتفظ بشعره الذي نظمه في المدح و الهجاء ، ورغب ألا يحفظ عنه إلا ما كان غزلًا رقيقًا نظمه في صباه ، حيث العيش غض ، و الزمن من الشوائب محض ، وأن مما يؤسف له أن يفقد كثير من ثروة العطار الشعرية النفيسة ، ولو توفر جمع شعره لارتسمت فيه صورة ناطقة لشاعريته ، ومواهبه وشخصيته ، ووضحت هذه القصائد مجتمعة كثيرًا من أحوال العصر إذ الشعر مرآته المجلوة.

ومهما يكن من شيء ففي القصائد المتناثرة التي وقعنا عليها ما يعين _ و لو في جهد _ على دراسة شعره ، وطريقته و اتجاهه الشعري .

يدل ما بين أيدينا من شعر العطار على السهولة ، ووضوح الغرض و إشراق المعنى وسعة الأفق ، و غزارة مادة التشبيه ، ولعل مما بسط في أفقه الشعري ، ومد في خياله ، ومال به في الشعر إلى الوضوح و الرقة و السجاحة ما تهيأ له من مخالطة الكبراء و العظماء ، وما كلف به من حب الحياة الاجتماعية وغشيانها في شتى مجاليها ، ومختلف ميادينها وما اجتلاه في الممالك التي ارتحل إليها وحال في ربوعها من مشاهد و حضارات ، و أخلاق و عادات ، وما اطلع عليه من ألوان الحياة المتقاربة و المتباينة ، فإن كل ذلك من مقومات الشعر ، ومن أسباب بسطة وتلوينه ، على أن هذه المخالطات وتلك الاتصالات التي وثق العطار أسبابها صرفت شعره عن التعقيد و الغموض و الالتواء.

و يظهر أن العطار يميل بطبعه إلى السلاسىة ، و ينحو بفطرته إلى الإشراق و السهولة ، وإذا رجعت إلى أقدام ما عثر عليه من شعره لم تَفُتْك منه هذه الصفات ، وطالعتك منه صفحة نقية من الغموض و الالتواء.

فمن أقدم شعره قصيدته التي رواها الجبرتي *(10) ؛ يمدح بها الشيخ :- شامل أحمد بن رمضان المتوفي سنة خمس عشرة ومئتين و ألف من الهجرة ، حينما ولي مشيخة رواق المغاربة إذ يقول : -

انهض فقد ولت جيوش الظلام

                                 وأقبل الصبح سفير اللثام

وغنت الورق على أيكها

                                 تنبه الشرب لشرب المدام

والزهر أضحى في الربا باسمًا

                                  لما بكت بالطل عين الغمام

والغصن قد ماس بأزهاره

                                   لما غدت كالدر في الانتظام

 وعطر الروض مرور الصبا

                                     على الرياحين فأبرا السقام 

كأنما الورد على غصنه

                           تيجان إبريز على حسن هام

كأنما الغدران خلجان أغــ

                                 ـصان النقا والنهر مثل الحسام(11)

كأن منظوم الزراجين بها

                              قوت غدا من نظمه في انسجام*(12) 


كأنما الآس*(13) عذار *(14) على 

                                        وجنـته وقد علاها ضرام

كأنما الورقاء لما شدت

                                        تتلو علينا فضل هذا الإمام

بشراك مولاي على منصب

                                         كان له فيك مزيد الهيام

وافاك إقبال به دائمًـا

                                   وعشت مسعودًا بطول الدوام

فقد رأينا فيك ما نرتضي 

                                   لا زلت فينا سالمًا والسلام .

وهذه الأبيات من أقدم شعرة الذي عثر عليها ، وهي مبتسمة بالسهولة و وضوح الغرض و مجافاة الغموض ، مح حسن صياغتها و تسلسلها ، وكثرة تشبيهاتها المحكمة السائغة 

و مما قاله متغزلًا :-

إلى متى أشكو ولم ترث لي

                                   أما كفى أن رق لي عذلي؟

يا باخلا بالوصل عن عاشق

                                   بعسجد الأجفان لم يبخل

أنفق في حر الهوى عمره

                                     وعن أمانيه فلا تسأل

لم يبق في الصب سوى مهجة

                                   أمست بنيران الهوى تصطلي

ومقلة ترعى نجوم الدجى

                                     شقيقك الزاهر عنها سل

تبيت تبكي شجوها كلما

                                      هـاج بذكراك فـؤاد بـلي

ما أطول الليل على عاشق 

                                 فـارق محبوبًا عليه ولي 

كأنما الصبح اتقى سطوه 

                                  من كـافر الـلـيل فلم ينجل .

فهذه القطعة من أرق أبيات الصبابة وأعذبها ، أودعها

الشاعر عواطفه وشجونه ، فعبرت عنها أصدق تعبير ، فهو

يعتب على محبوبه عتاب الشاكي ويسائله : إلام يغضي من

شكواه ، وقد رثى العُذَّل لحاله ؟

ثم يتجه إليه فيخاطبه قائلا :- متى بخل بالوصل على عاشق جاد بعسجد أجفانه لطول بكائه ، وأنفق عمره في حر الهوى ، وأنت معرض لا تسأل عن أمانيه ، لم يبق في محبك إلا مهجة تصطلي بنار الهوى ، ومقلة تبيت ساهرة ترعى النجوم ، فسل شقيقك ينبئك عن حالها ، إنها تبيت تبكي كلما هاج بذكراك الفؤاد البالي.

ثم ينتقل الشاعر إلى التبرم من طول الليل على العاشق

الذي فارق محبوبًا ولي عليه ، وينـتظر الصـبح فلا يطلع ،

فيخيل إليه أنه يخشى سطوة الليل الكافر ، فمن ثم لم ينجلِ ، وهو مسبوق إلى هذا المعنى بقول البهاء زهير :-

لـي فـيـك أجـر مـجـاهـد

                                     إن صـح أن الـلـيـل كـافـر.

 واكتفي بهذا القدر ......... حتى لا أطيل عليك عزيزي/ت ... 

و هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺

إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان.

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

*الـمـراجـع .___________________________

*(1)_ الكدية :- بمعني ( السؤال )_______.

*(2)_ تخطر : خطر في مشيته اهتز وتبختر _____.

*(3)_ المرط : كساء من صوف أو خز _____.

*(4)_ القرط : ما يعلق في شحمة الأذن ( حلق)___.

*(5)_ الخط : بالضم موضع الحي والطريق والشارع ، ويفتح ، وبالكسر الأرض لم تمطر ، والتي تنزلها ولم ينزلها نازل قبلك __________________________ .

*(6)_ الخطط التوفيقيه ، جـ ٤ ، صـ ٣٩_________.

*(7)_ الطرز ؛ جمع طرة ، وهي جانب الثوب الذي لا هدب له ، وشفير النهر و الوادي ، وطرف كل شيء وحرفه ، والناصرية______________.

*(8)_الخطط التوفيقيه ، جـ ٤ ، صـ ٣٩_______.

*(9) _ الجزء الـثـالث ، صـ ١١٣_________.

*(10)_النقا : القطعة من الرمل تنقاد محدودبة_____.

*(12)_ الزراجين ، مفردها الزرجون ، كقربوس شجر العنب( العنقود ) أو قضبانها ، والخمرة ، وماء المطر الصافي المستنقع في الصخرة______.

*(13)_ الآس : نبت معروف من الرياحين ____.

*(14)_ عذار اللحية : الشعر النازل على اللحيين _____.

ايه الكرسي أسمعها فقط ،،،،،



              


الجمعة، 12 يوليو 2024

نفي رفاعة الطهطاوي إلى الخرطوم _Sudan - Khartoum


 


الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

قبل أن نكمل ما شرعنا فيه عن رفاعة بك رافع الطهطاوي للمتابعة أضغط هنا 👈رفاعة بك رافع الطهطاوي 👉 

نفيه إلى الخرطوم 

لنظارته لمدرسة الخرطوم بالسودان قصةٌ تهوى النفوس معرفتها : 

تولى عرش مصر عباس باشا الأول ، بعد وفاة إبراهيم ، و كان محمد على لا يزال ينوء بمرضه ، ولعباس نفس تلح عليه أن ينسخ ما فعله محمد على ، و ينتهز فرصة موته لتنفيذ خطته الرجعية.

و يقول الأستاذ أحمد عزت عبد الكريم في كتابه ( تاريخ التعليم ) : إن عباسًا أظهر منذ تولي الحكم في مصر أنه لن يكون الحاكم الذي يتابع سياسة جده ، و يحنو على مؤسساته ، ويؤيد نظمه ... وأن سياسة عباس في الإصلاح الداخليّ كانت فشلًا متصلًا ، و لايشفع له في ذلك أن حكمه كان قصيرًا ، و هو أيضًا يرجع السبب في ذلك إلى أن سياسة عباس قامت على تسفيه الجهود التي بذلها محمد علي و إبراهيم في ميدان الإصلاح الداخليّ ، و السياسة التي اعتقد أنهما كانا يتمسكان بها ، و يدعوان إليها *(1).

فإذا ارتسمت لنا سياسة عباس على هذه الصورة ، فقد هان علينا أن نفهم السر في إغلاقه معظم المدارس الخصوصية في أول عهدة ، وقد كان مدرسة الألسن أول مدرسة ألغيت في عهد عباس ، فمؤسسها و ناظرها رفاعة بك ، أحد الأدنين من جده وعمه ، الناعم بعطفهما و ثقتهما ، ورسالة هذه المدرسة هي نقل الحضارة الغربية و الثقافة الأوروبية ، و الذي رسم هذه الخطة الرشيدة هما : محمد على ، و إبراهيم ، و الذي اضلطلع بتنفيذ هذه السياسة ، وبذل فيها أعظم الجهود إنما هو رفاعة بك ، و عباس _ كما يقول المؤرخ الإيطاليّ ( ساماركو ) : ( يتجلى عداؤه للحضارة الغربية ، و كرهه لجميع الأعمال التي كونت مجده ، و يبذل كل الجهد لتحطيمها شيئًا فشيئًا ) ، فلا عجب إذًا أن يجافي رفاعة بطل هذه الحضارة ، و حامل لواء تلك النهضة ، وأن يحصل له من البغض والشنآن ما ينتهي به إلى نفيه إلى السودان.

و يرى الأستاذ عبدالرحمن الرافعي بك

أن لكتاب ( تلخيص الإبريز ) سببًا يتصل بنفيه ؛ إذ لا يخفى أنه طُبع للمرة التانية سنة ١٢٦٥ هـ ؛ أي: في أوائل عهد عباس ، و الكتاب يحوي آراء و مبادئ لا يرغب فيها الحاكم المستبد ، و عباس كان بطبعة مستبدًّا ، فلا بد أن الوشاة قد لفتوا نظره إلى ما في كتاب رفاعة ، مما لا يروق عباسًا ، فرأى أن يبعده إلى الخرطوم ؛ ليكون السودان منفًى له *(2) ؛ وليبعده ، ويبعد من يشاكله في آرائه و أفكاره عن مصر ، ويتخذ لإبعاده و إبعادهم علةً منتحلةً و سببًا مخادعًا.

و الأستاذ عزت عبدالكريم في كتابة ( تاريخ التعليم في عهد محمد علي) يرى أن هناك احتمالين لإبعاد رفاعة إلى السودان :

أحدهما 

سعي علي مبارك الذي عاد من أوروبا ممتلئًا بالأطماع ، و الذي كان يحقد على رفاعة لما أصابه من مكانة و بلوغ شهرة.

والثاني 

: ما يحتمل أن يكون رفاعة قد لقيه من معارضة بعض المشايخ المتعصبين الذين ربما عدوه متطفلًا على مبادئهم في دارسة الشريعة و الفقة *(3).

و هذا تكهنات يضرب فيها المؤرخون و الباحثون ، إلّا أنها لم تتكئ على وقائع ملموسة تكون أقرب إلى الجزم و اليقين ، وأنه وإن كانت هذه مجتمعةً ، أو منفردةً ، تصلح أسبابًا لنفي رفاعة وتغير عباس عليه ، إلا أن رفاعة نفسه جَلَّى السبب وأزال إبهامه ؛ فقد ذكر أنه سافر إلى السودان بسعي بعض الأمراء بضمير مستتر ، بوسيلة نظارة مدرسة الخرطوم *(4).

وأنه ، وإن لم يذكر أسماء السعاة ، ولم يشرح السعاية التي قاموا بها ، أشار إلى الوشاة و الوشاية في قصيدته التي نظمها بالخرطوم ، مستنجدًا بحسن باشا كتخدا مصر _ و مما قاله في هذه القصيدة : 

وما خلت العزيز يريد ذلي .... ولا يصغي لأخصام لداد 

لديه سعوا بألسنة حداد  ....  فيكف صغى لألسنة حداد ؟

مهازيل الفضائل خادعوني.... وهل في حربهم يكبو جوادي؟

وزخرف قولهم إذا زخرفوه   .....على تزييفه نادى المنادي    

فهل من صير في المعنى بصير ...صحيح الانتقاء والانتقاد؟

قياس مدارسي قالوا عقيم ....بمصر فما النتيجة في بعادي ؟

وهو يعجب كيف يؤدي لوطنه هذه الخدمة الجليلة ، ثم يُجْزَى هذا الجزاء ، ويبدي جزعه على أطفاله الصغار الذين ملكوا عليه فكره فيقول : 

على عدد التواتر معرباتي           تفي بفنون سلم أو جهاد 

و( ملطبرون ) يشهد وهو عدٌل    ( ومنتسكو ) يقر بلا تماد 

ولاح لسان ( باريس ) كشمسٍ     بقاهرة المعزِّ على عمادي 

رحلت بصفقة المغبون عنها      وفضلي في سواها في المزاد 

وما السودان قط مقام مثلي       ولا سلماي فيه ولا سعادي 

وقد فارقت أطفالًا صغارًا     بطهطا دون عودي واعتيادي 

أفكر فيهمُ سرًّا و جهرًا        ولا سمري يطيب ولا رقادي

أريد وصالهم و الدهر يأبى    مواصلتي ويطمع في عنادي .


وقد كان الشيخ ماكرا ، فقد وضع القصيدة على وزن وقافية 

لقد أسمعت إذا ناديت حيًا .... ولكن لا حياة لمن تنادي .

قياس رفاعة 

من المصادافات الغربية والتنبؤ الطريف ، ما نرويه في هذه القصة التي وقعت بين رفاعة و كبار المصريين في السودان ؛ ففي غضون شهر شوال سنة ١٢٧٠ هـ ، أعدَّ جزايرلي سليم _ حكمدار السودان _ وليمة بإحد السفن الراسية بمياة النيل تجاه الخرطوم ، ودعا إليها سفراء الدول ، و رفاعة الطهطاوي ، وقد شرعت السفينة تتهادى في الماء وتختال قبل الموعد بقليل ، و المدعوون يسمرون و يمرحون ، وبينما هم كذلك فاجأهم رفاعة بقولة : (( إن الوالي عباسًا قتل ، فاضطرب الجمع ، واضطر الحكمدار المُوَلَّى من قبل عباس أن يلغي الوليمة ، و تفرق الجميع ، ولما عاد رفاعة إلى مدرسة الخرطوم سأله المدرسون عن عودته ، فأخبرهم بأن عباسًا قتل ، فقالوا له : من أين علمت ؟ فقال لهم : انتهيت في ترجمة _تلماك إلى اجتماع الملوك المتعاهدة ، وانضمام تلماك معهم على محاربة الملك _أدرسته _ ملك الدونية ، وإعدامه بيد تلماك ؛ لارتكابه كل الأمور التي أرى أن عباسًا ارتكبها تمامًا )) وحيث كانت عاقبة ( أدرسته ) القتل ، فقياسًا على هذا قلت لا بد أن يكون عباس قُتِل مثله ، فقالوا :_ ألم يكفيك اغترابنا في الخرطوم حتى رحت تجترئ على هذا القياس الخرافي الذي يترتب عليه إبعادنا إلى ما بعد الخرطوم

وفي اليوم التالي للحادث اسْتُدْعِىَ رفاعة بك من الحكمدار ، وزفَّ إليه بشرى أن سعيد باشا أمر بإعادته ومن معه إلى القاهرة ، و سلمه الحكمدار جانبًا من التبر هدية لوالي مصر الجديد .

هذه رواية عن قياس رفاعة ، وما من شك في أن رفاعة كان حزينا لنفيه ، موجعًا لبعده ، آسفًا لما بقية من والٍ أغفل فضله العريض في نهضة البلاد ، ولم يجازه إلا بالنفي و الاغتراب .

كان ذلك الألم يحزُّ في نفس رفاعة ، ويبلغ من شعوره كل مبلغ ، ويتغلغل في نفسه كل تغلغل ، وربما صقل الحزن نفسه ، و تجسم الأمل في نفسه ، وتملكه الخيال الذي تمثل له قصة تلماك ، فراح يقرن بين حال الملكين و يتكهن بأن يكون أحدهما كالآخر في مصرعه ، و لم يدع له الغيظ قوةً يكتم بها إحساسه ، فأرسل حدسه في صورة الخبر ، وأبرز

 خياله في معرض اليقين ، و كم في الأمور من مصادفات .

أثر رفاعة في السودان 

قضى رفاعة في السودان زهاء أربعة أعوام ، شعر فيها بمرارة الخزن و الألم ، و كانت صابًا وعلقمًا لمعني الظلم والجور الذي يتمثل له ، ولاغترابه عن أطفال صغار لا يدري مافعل بهم الزمان ، ولجزعه في منفاه على علم من أعلام النهضة ، و هو محمد بيومي ، أستاذ الرياضيات ، ورئيس أحد أقسام الترجمة ، فقد صحب رفاعة فى رحلته إلى باريس ، وعاونه في نشر العلم بالسودان ، وكان مصرعه بها ، وقد أشار إلى الجزع على فقده نصف صحبه الذي كان معه بقوله : 

وحسبي فتكها بنصف صحبي .. كأن وظيفتي لبس الحداد

أما شعوره نحو السودان ، فقد كان شعور حبٍّ وعاطفةٍ ، وهو الذي قال على لسان مصر و السودان : 

نحن غصنان ضمَّنَا عاطف الوجد 

                                   ..جميعًا في الحب ضم النطاق

في جبين الزمان منك ومني  

                                         غــرة كـوكـبـية الانـغـلاق.

وأيَّا ما كان ، فقد نشر رفاعة في السودان ثقافةً و عامًا ، وقام على إدارة هذه المدرسة بإرشاده وجهوده ، ونظم في محنته شعرًا أودعه مكنون نفسه وخوالج حسه ، وشغل كثيرًا من وقته بالترجمة ، فكان مما ترجمه _قصة تلماك_ الرائعة.

بعد عودته من السودان 

وبعد عودته من السودان جُعِلَ عضوًا ومترجمًا في مجلس المحافظة ، تحت رئاسة _ أدهم باشا _ ثم جُعِلَ ناظرًا لمدرسة الحربية بالحوض المرصود ، وبعد شهور تجدد المدرسة الحربية بالقلعة ، فأحيلت إليه نظارتها مع نظارة قلم الترجمة ، و مدرسة المحاسبة ، و الهندسة الملكية ، و التفتيش ، و العمارة ، وفي سنة ١٢٧٧هـ ، ألغيت المدرسة الحربية المذكورة وقلم الترجمة ، وما معهما فظَلَّ خاليًا من الوظيفة حتى سنة ١٢٨٠هـ ، و فيها أحليت إليه نظارة قلم الترجمة ، وجعل من أعضاء قومسيون المدارس ، مع الأشراف على صحيفة ( روضة المدارس ) .

وقد ظل كذلك في جهدٍ وعمل دائبين حتى كانت غرة ربيع الآخر سنة تسعين و مئتين و ألف ، فخبت بالموت شعلته ، و انطفأت بالمنية حياته و عبقريته .


أثره في النهضة 

كان رفاعة بك شعلةً متقدةً لا يخبو نورها ، و حركة يقظة لا يفتر نشاطها ، اضللع بهذه الجهود الجبارة التي تعجز الجهد وتعيي الطاقة ، فكان مجموعة من الرجال ، وجمهرةً من النابهين ، و طائفة من المواهب ؛ ألَّفَ وترجَمَ ووجَّه وعَلَّمَ وشَرَّعَ ونَظَمَ ونقل إلى مصر ما كانت تنشده من علم أوروبا وآدابها و فنونها و مختلف ثقافتها ، ودرج على نظمها وأسباب مجدها ، وصنع على عينه تلامذة أذكياء أفذاذًا ، كانوا أقباسًا من ضوئه ، و مشاعل من هداه ، فنهجوا نهجه ، وسلكوا طريقه ، وكانوا الغاية البعيدة التي تنشدها البلاد ، و الحقّ أن رفاعة كان في الناهضين و المصلحين ورجال العلم أمة وحده ، وهو الأديب البارع ، و الشاعر المقبول ، والعالمُ الفَذُّ المتمكن في غير ما ناحيٍة من نواحي العلم ، و المترجم الذي فتح العيون على أطايب آداب الغرب و علومه ، و لعمري إنه فخرة هذا الجيل ، و الآية الناطقة بفضل الأزهر و جلائل آثاره .

كان رفاعة أول مترجم مصري في النهضة الحاضرة وقد استطاع أن يشرف على قلم الترجمة الذي ضم خمسين مترجمًا ، كان له شرف توجيههم و إرشادهم ، و ما منهم إلّا له اليد البارعة في ترجمة آداب الغرب و علومه و فنونه.

وقد كان رئيس الترجمة قبله بمدرسة الطبِّ رجل شامي ، يُدعى ( عنحوري ) فلما ألحق رفاعة بهذه المدرسة كتب المترجم الشامى باختباره في الترجمة ، و أعطاه فصلًا من كتاب ، وقال له : ترجمه في مجلسنا هذا ، فترجمه رفاعة من فوره ؛ فإذا قرأه الممتحن ملكه العجب ، وحمل ترجمة رفاعة إلى الديوان ، وقال للرؤساء في ذلك الحين : هذا أستاذي ، هو أحق بالرياسة مني ؛ لأنه أدرى من بالتعريب و التنقيح و التهذيب ، وهذه شهادة الحق تقضي له بالسبق*(5).

هو أول منشئ لصحيفة أخبار بالقطر المصريّ ، فقد تكفَّل إثر عودته من باريس بنشر صحيفة خبرية هي  ( روضة المدارس ) مع تعذر الحصول على موادها إذ ذاك ، وقد مكثت هذه الصحيفة مدةً ، ثم انتكست قليلًا إلى نهوض و نشاط .

ومما امتاز به وقوفه على التواريخ القديمة و الحديثة و الأنساب ، مما لم يكد يلحقه فيه غيره *(6) ؛ كما كان له أكبر الفضل في نشر العلوم و المعارف بِحَثَّهِ الحكومة على طبع طائفةٍ من أمهات الكتب العربية على نفقتها ؛ كتفسير الفخر الرازي و معاهد التنصيص ، و خزانة الأدب ، و المقامات الحريرية ، وغير ذلك *(7). وسوف نكمل ما ألفة وترجمة ؛ وأسلوبه فى الشعر ؛ نثرة ، وكلامه فى حب الوطن ، وبعض نماذج من شعره.

واكتفي بهذا القدر ......... حتى لا أطيل عليك عزيزي/ت ... 

و هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺

إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

* الـمـراجـع .___________________________


*(1)_ تاريخ التعليم ، لأحمد عزت عبدالكريم الجزء الأول ، صـ ٦، ٧._________

*(2)_ تاريخ الحركة القومية وتطوير نظام الحكم في مصر ، صـ ٤٨٩_______________

*(3)_ تاريخ التعليم ، لأحمد عزت عبدالكريم ، ٦/١و ما بعدها.

*(4)_ مناهج الألباب المصرية ، صـ ١٦٧.________

*(5) _ حلية الزمن بمناقب خادم الوطن ، للسيد صالح مجدي ، صـ١١._________

*(6)_ حلية الزمن ، صـ١١______

*(7)_تاريخ الحركة القومية ، عبدالرحمن الرافعي ، ج٣ ، صـ ٤٩٣._____

الأحد، 7 يوليو 2024

رفاعة بك رافع الطهطاوي_ Taha


الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

هو السيد : 

رفاعة بك ابن بدوي بن علي بن محمد بن علي رافع ، و يلحقون نسبهم بمحمد الباقر بن على زين العابدين ابن الحسين ابن فاطمة الزهراء.

المتوفي سنة ١٢٩٠ هـ = ١٨٧٣ مـ .

ولد في طهطا بمديرية جرجا في صعيد مصر ، و يؤخذ مما كتبه عن نفسه في رحلته أن أجداده كانوا من ذوي اليسار . 

و لكن الدهر أخنى عليهم ، و الأيام تنكرت لهم ، فلما وُلِدَ تفتحت عيناه على الضيق و العسرة ، و سار به و الده إلى منشأة - النيدة - بالقرب من مديرية جرجا ، فألقى عصاة تسياره بين قوم كرام النفوس ، ذوي يسار و  مجد ،  يقال لهم ( بيت أبي قطنة ) فأقاما هناك مدةً ، ثم نزحا إلى - قنا -و لبثا بها حتى شَبَّ الغلام ، و شرع يقرأ كتاب الله ، ثم نقل إلى فرشوط التي عاد منها إلى طَهْطَا و طنه الأول ، بعد أن أتمَّ القرآن حفظًا .

الأزهري الصغير

و قد تهيأت له في حداثته ثقافةٌ أزهريةٌ ؛ إذ قرأ كثيرا من المتون الأزهرية المتداولة على أخواله ، و فيهم طائفة من علماء الأزهر الفضلاء ؛ كالشيخ : عبد الصمد الأنصاري ، و الشيخ : أبي الحسن الأنصاري ، و الشيخ فراج الأنصاري ، و غيرهم .

و لما توفي والد رفاعة قدم هو إلى القاهرة ، و انتظم في سلك الطبلة بـ الجامع الأزهر ، في سنة ١٢٢٣ هـ ؛ وجَدَّ في الدرس و المطالعة حتى نال من العلم حظًّا محمودًا ، و لم يمضِ بضع سنين حتى صار من طبقة العلماء في اللغة و الحديث و الفقة ، و سائر علوم _المنقول _ و المعقول ، و كان في جملة مَنْ تلقَّى عنهم العلم العالم اللغويّ الشاعر و الكاتب الشيخ _ حسن العطار ؛ المتوفي في سنة ١٢٥٠ هـ ، و قد تنبه إلى مخايل ذكائة ، وأمارات نجابته ، فميزه من أقرانه ، و خصه ببالغ عطفه ، و كان يتردد على منزله لينهل من علمه ، و ينشد توجيهه ، و يشترك معه في الاطلاع على الكتب الغريبة التي لم تتداولها أيدي علماء الأزهر*(1).

نبوغـه المبكر 

أشرق نبوغُ رفاعةَ وذكاؤُه وهو لدن العود ، غَض الصبا ، وبدت لذلك علائم ودلائل ، فقد أُثِرَ عنه أن أحد الفضلاء المدرسين سأله زمن حضوره بالأزهر ، تأليف خاتمة لكتاب _ قطر الندى وبل الصدى _ فأجابه لذلك و أنشأها في صحن الأزهر ، في جلسة خفيفة ، فختم القطر بها ذلك المدرس ، وعُدَّ ذلك على فضله مع حداثة سنه من أبلغ الدلائل ، ومن ذلك الوقت اعترف له وهو ابن عشرين سنة جميع أبناء طبقته ؛ بأنه تلقى راية العلم باليمين*(2).

مواهبه وجده 

قضى رفاعة في الدراسة في الأزهر زهاء ثماني سنوات ، كان فيها مرموقًا لذكائه وجدِّه ، وسلامة ذوقه ، ودقة فهمه ، لم يكن يلتزم طريقة زملائه الطلاب في مبدأ طلبه ؛ = بل كانت دروسه تتعدد في اليوم الواحد تعدادًا زائدًا عن طاقته و وسعه*(2).*

وقد اشتغل في الأزهر بعد تخرجه بتدريس كتبٍ شتى في المنطق و البيان و البديع و العروض و الأدب وغير ذلك وكان سهل الأداء ، عذب الأسلوب ، فصيح التعبير ، قادرًا على تصوير المعنى بطرق مختلفة ، يجد الذكي و غيره في درسه نفعًا وإرشادًا وهداية.

ولقد يبلغ به الجد والمثابرة أنه لا يقف في ذلك اليوم و الليلة على وقت محدود ، فكان ربما عقد الدرس للتلامذة بعد العشاء ، أو عند ثلث الليل الأخير ، ومكث نحو ثلاث أو أربع ساعات على قدميه في درس اللغة ، أو فنون الإدارة و الشرائع الإسلامية ، و القوانين الاجنبية ، و كذلك كان دأبه معهم في تدريس كتب فنون الأدب العاليه ؛ بحيث أمسى جميعهم في الإنشاء نظمًا ونثرًا أطروفة مصرهم ، وتحفة عصرهم ، ومع ذلك كان هو بشخصه لا يفتر عن الاشتغال بالترجمة أو التأليف ، و كانت مجامع الامتحان لا تزهو إلّا به*(3).

الوظائف التي شغلها 

شغل رفاعة بك كثيرًا من الوظائف العلمية و الإدارية ، فكان فيها مثلًا رفيعًا للكفاية و الجد ، ونموذجًا يحتذى في بروز الشخصية و وفرة الإنتاج ، و قد عثر صالح بك مجدي صاحب كتاب ( حلية الزمن بمناقب خادم الوطن ) على ورقة مختومة سرد فيها رفاعة المناصب التي تقلدها ، و الأعمال التي اضطلع بها ، وذلك أنه عُيِّنَ خطيبًا و واعظًا لدى _حسن بك المانسترلي_ ، الذي ارتقى فيما بعد رتبة الباشوية ، وعين في منصب (( الكتخدائية )) في عهد عباس باشا الأول _، وتُوفيَ في زمن محمد سعيد باشا _ ، ثم نقل إلى مثل هذه الوظيفة لدى أحمد بك الشكلي ، الذي مُنح رتبة الباشوية فيما بعد ، و توفي في عهد محمد سعيد باشا.

رفاعة في البعثة 

ولما أراد محمد علي أن يرسل طائفةً من الشباب النابهين إلى باريس ؛ لينقلوا علوم الغرب وآدابه وثقافته ، و طلب من الشيخ حسن العطار ، أن ينتخب لهم إمامًا من علماء الأزهر ، فيه الأهلية و اللياقة ، اختار تعيين صاحب الترجمة لتلك الوظيفة .

و كان الشيخ حسن العطار من المعجبين بذكائه ، المقدرين كفايته و علمه ، فزكَّاه لهذا العمل الذي كان باكورة نجاحه و مطلع شهرته وانبلاج صبحه.

اتجه مع البعثة إلى باريس موصًّى من شيخه العطار بأن يجدي على بلاده بعمل رحلة ، يسجل فيها ما يشاهده في فرنسا من أحوال و أخلاق و عادات فألف رحلته المشهروة التي سماها : ( تلخيص الإبريز ، و الديوان النفيس ) ، وقد شرع يتعلم الفرنسية منذ غادر مصر ، وبذل همه وعزمه ، واتخذ له بعد وصوله إلى باريس معلمًا خاصًّا على نفقته ، و ما لبث في هذه البلاد أن عرفه العلماء و الأدباء و قدروه حق قدره و كان للمسيو ( جومار ) فضل سابغ عليه بإرشاده وتعليمه و وفائه له في وده ، كما فعل ذلك معه العالم الشهير ( البارون دساسي ) .

و في المدة التي أقامها بباريس بين _ ١٢٤١ و ١٢٤٦ هجرية ؛ نبغ في العلوم و المعارف الأجنبية ، و لاسيما في الترجمة في سائر العلوم على اختلاف مصطحاتها ، ولم تكن هذه المدينة البراقة الفاتنة لتصرفه عن التوفر على المثابرة والتضلع في ثقافة هذه البلاد ، أو تجرح خلقه وحصانته ، بل أكبَّ على عمله غير مدخر وسعًا ، حتى ترجم خلال إقامته بباريس جمهرةً من الرسائل و الكتب ، منها : ( قلائد المفاخر ) و الذي سنذكره في آثاره.

عودة رفاعة من بعثته

ولما رجع من بعثته عُيِّنَ في سنة ١٢٤٩هـ ؛ بمدرسة الطب بأبي زعبل في وظيفة مترجم و مدرس للغة الفرنسية ، ورئيسًا لقسم الجغرافيا بالمدرسة ، ثم انتقل في السنة نفسها إلى مدرسة الطوبجية ، وأقام بها إلى سنة ١٢٥١ هـ ؛ شغل وظيفة مترجم ، و كانت هذه المدرسة قائمة على تحصيل الفنون العربية ، مؤسسة لترجمة العلوم الهندسية و الفنون العسكرية ، ويقول صاحب (( حلية الزمن )) صـفحة رقم -١٢؛ وقد عثرت له مدة إقامته بها على رسالةٍ مترجمةٍ في الهندسة العادية ، مطبوعة بمطبعة بولاق البهية ، و هذه الرسالة من جملة الرسائل الفرنسية التي يقرؤها التلامذه بمدرسة سانسيرا بفرنسا ، و قد انتفع بها أبناء هذه المدارس .

ثم وكلت إليه نظارة ( قلم أفرنجي ) في عهد محمد سعيد باشا ، و نيطت به نظارة دار كتب قصر العيني ، و كانت ضخمة حافلة بالأسفار ؛ إذ تضم أثني عشر ألف ، أو خمسة عشر ألف مجلد ، ومعظمها بالفرنسية و الإيطالية*(4).

كما وُكِّلَت إليه رئاسة فرقة تلامذة الجغرافيا بهذا القصر.

رفاعة ومدرسة الألسن

و كانت هذه المدرسة من وحي رأيه ، وثمرات فكره ، فقد عرض على الجناب العالي أن تنشأ هذه المدرسة لتجدي على الوطن أبلغ جدوى ، و ليستغني بها عن الأجانب الدخلاء ، وقد عهد إليه اختيار التلامذة لهذه المدرسة فطاف بهم ، وانتخب مَن وجد فيه صلاحية وكفاية . 

أسس رفاعة مدرسة الألسن، وانتهت إليه إدارتها والإشراف على تلاميذها والترجمة بها ، وعلاوة على قيامه بإدارة المدرسة من الوجهة الفنية ، كان ناظرًا لها من الوجهة الإدارية ، كما كان يشرف على مراجعة و إصلاح الكتب التي كان يمر بها تلامذته *(5).

ولما كان مرهقًا بكثرة العمل ، و الاضطلاع بمختلف الشئون ، خصص له ديوان المدارس مدرسًا فرنسيًّا ليعاونه في إدارة المدرسة ، و التفتيش على الدروس وأمانة المكتبة ، وليخفف بمعاونته من هذه الأعمال التي يضيق الزمن بها ، فإنه كان يطوف كل عام بمكاتب المبتديان في الأقاليم ؛ ليشرف على امتحان التلاميذ الذين يتقدمون إلى المدرسة التجهيزية ؛ ليلحق المتفوقين منهم بها .

و من العجيب أن يضطلع إلى جانب هذا كله بنظارة مدرسة التجهيزبة ، و الوقائع المصرية ، و الكتبخانة الأفرنجية ، و مخزن عموم المدارس ، و الإشراف على قلم الترجمة الذي أُسِّس بمدرسة الألسن ، و الإشراف على مدرسة المحاسبة و الفقه الشرعيّ ، و الإدارة ، و الأحكام الإفرنجية ، وملاحظة المكتب العالي ( بالخانقاه ) ، وقد ظل رفاعة بك مديرًا لمدرسة الألسن ، و المدارس الملحقة بها ، حتى أوائل عصر عباس الأول ؛ حيث نُقلت من الأزبكية إلى الناصرية و لما ألغيت مدرسة الألسن ، عُيِّنَ ناظرًا للمدرسة الابتدائية التي أنشئت في الخرطوم .

تلك هى الوظائف التي شغلها رفاعة بك ، الذي كان حركة دائبةً و عملًا موصولًا ، و إنها لجهود جبارة تتقاصر دونها جهود الرجال وتعيا عن حملها قوي متضافرة و عزائم متعاونة ، عدا ما اضطلع به من أعمال جسام عقب عودته من الخرطوم .

و لنظارته لمدرسة الخرطوم بالسودان قصةٌ تهوى النفوس معرفتها : سوف نكلمها في موضوع اخر وكيف كان نفيه إلى الخرطوم ، وأثر رفاعة في الحركة العلمية فى السودان واكتفي بهذا القدر ......... حتى لا أطيل عليك عزيزي/ت ... 

و هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺

إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

*الـمـراجـع .___________________________


*(1) الخطط التوفيقيه ، جـ ١٣ ، صـ ٥٤._________

*(2) حلية الزمن بمناقب خادم الوطن ، للسيد صالح مجدي صـ٥______________

*(2) نفس المرجع صــ٥_________

*(3) الخطط التوفيقيه ، جـ١٣ ، صـ٥٤______

*(4) تقويم النـيل ، لأمين باشا سامي جـ٢ ، صـ ٤٤٨.___

*(5) دفتر رقم ٢٠٢١ ( مدارس تركي ) ، جلسة شورى

 المدارس ، في ٢١ من ذي القعدة ، سنة ١٢٥٢ هـ.
 

الإثارة والتشويق بطرح الأسئلة Content creators

  الإثارة والتشويق بطرح الأسئلة في السيرة النبوية الحمد اللّٰه رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، و بعد . فإن الإثا...