الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.
صناعة الحلال وعلاقته بالتنمية الاقتصادية المستدامة
فإن الحديث عن صناعة الحلالِ وأثرِها في استدامةِ الاقتصادِ العالميِّ ، موضوع يحتاج إلى قراءةِ الواقعِ الجديدِ بعينِ الشَّريعةٍ المستقرَّةِ أصولُها ، وبعينِ العصر المتغيِّرةِ مجالاتُه ، لهو دليلٌ على ضرورةِ الوعيِ ، وأهميَّةِ التَّواصلِ الفكريِّ بين مختلفِ الهيئاتِ العلمية.
فصناعة الحلالِ وإن بدا لبعض النَّاسِ أنها وليدةُ العصرِ ، وأنّّها من طرحِ الواقع ، تنطلقُ من أساسٍ إسلاميٍّ واضح ؛ فالشَّريعةُ الإسلامية تدور أحكامُها بين الحلِّ و الحرمةِ ، وتدعو المسلمين إلى أن يكونوا دائما في دائرةِ (( الحلالِ )) وأن يتورَّعوا عمَّا فيه شبهةٌ ، وحتى الأطمعةُ و الأشربةُ الَّتي يتناولُها الإنسان ، و التي بدأت بها حلال المعاصرة فإن الشِّريعةَ الإسلاميَّةَ قد عُنيت بها ؛ باعتبارِها أداةً للمحافظةِ على النَّفسِ و العقل و النَّسلِ ، وهذه الثَّلاثةُ من الكلِّيَّاتِ الخمسِ التي تدورُ عليها أحكام الشريعة.
ولقد جاء الخطابُ الشَّرعيُّ بتحرِّي الحلال موجَّهًا إلى النَّاسِ كافَّةً ، فقال تعالى :- ﴿ طَيِّبٗا ﴾ ( البقرة :- ١٦٨ ) ، وأُمرَ به المؤمنون أمرًا خاصًّا فقال سبحانه : ﴿ تَعۡبُدُونَ ﴾ ( البقرة :- ١٧٢ ) ، وبهذا الشُّمولِ نؤكِّدُ أن الإسلامَ أراد لصناعةِ الحلالِ أن تكونَ « صناعةً عالمية » .
وأما السُّنَّةُ النَّبويَّةُ فقد أكدت هذا المعنى ، وزادت أن طلب الحلالِ و الحرص عليه سبيلُ القربِ من اللهِ ، وسببُ استجابةِ الدُّعاءِ ، وفي ذلك يقول رَسُولُ اللهِ ﷺ (( أَيُّـهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللهَ أَمَـرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَـرَ بِـهِ المُرْسَلِينَ ، فَقَالَ ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ ﴾( المؤمنون : ٥١ ) وَقَالَ :- ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ ﴾( البقرة :- ١٧٢ ) ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ، يَارَبِّ ، يَارَبِّ ، وَمَطْعَمُهُ حَرامٌ ، وَمَشْرَبُـهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَرامٌ ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتجَابُ لِذَلِكَ ؟ )) *(1).
ومن فضل الله على العالم أن الاهتمام بالحلال وصناعته تجاوزَ الأغذيةَ و الأطعمةَ إلى غيرها ، وتجاوز الدول الإسلاميَّةَ إلى غيرِها ، وصارت فكرةُ الحلالِ عالميِّةَ الاهتمام.
وممَّا ينبغي أن يستقرَّ في الأذهانِ أنَّ (( شهادةَ الـ.حلالِ )) لا ينبغي أن تكونَ مجرَّدَ إشارةِِ دينيَّةٍ للحلِّ و الحرمةِ ، بل يجبُ أن تكونَ شهادةً لأيِّ منتج يدخلُ ضمنَ صناعة الـ حلال بتوفُّرِ المعاييرِ الشَّرعيَّةٌ و الفنِّيَّةِ اللَّازمةِ الَّتي تقرِّرُها الجهات المختصَّةُ .
وإذا كانت المعايير الشَّرعيَّةُ تدورُ حول أحكام الحلال و الحرام ، فتمنعُ دخولَ المكوِّنَاتِ المحرَّمةِ دينيًّا كـ الخمرِ و الخنزيرِ مثلا ، فإن المعاييرَ الفنيَّةَ العلميَّةَ لا تخرجُ عن حياضِ الشَّريعةِ كذلك ، و من ذلك مراعاةُ متطلَّباتِ السَّلامةِ الغذائيَّةِ ، وكلِّ ما هو ضار بصحَّةِ الإنسان و الحيوان ، فتشملُ بذلك كل ما يتعلَّقُ بالإنتاجِ و التَّصنيعٍ و العرضِ و النَّقل و التَّخزينِ و صولًا إلى المستهلكِ .
ولما كانت المعايير الفنِّـيَّةُ لا تخرجُ عن حياضِ الشَّريعةِ بما لها من آثارِِ تتعلَّقُ بالمحافظةِ على ما يحتاجُ إليه الإنسانُ و الحيوان من سلعٍ و خِدْماتٍ فإنَّ الواجبَ الشَّرعيَّ أن نعقدَ نوعًا من المزاوجةِ بين المعاييرِ الشرعَّيةِ و الفنية بما يُبرزُ شمولَ الشَّريعةِ من ناحيةٍ ، و يُعلي من قدرِ الاشتراطاتِ الفنية العلمية من ناحية أخرى .
ويمكن أن نوجزَ بعض المعايير الشرعية و الفنية فيما يأتي :
أولا : حلُّ المكوِّنَاتِ
و المكونات المقصودة في هذا المعيار لا تقفُ عند أحكام الذَّبح و التَّذكيِة الشَّرعيَّة للطُّيور و الحيواناتِ ، ولكن المكونات المقصودةُ هنا هي كلُّ ما يدخلُ في منتجاتِ صناعةِ الـ حلال ، سواءٌ كانت مكوِّناتٍ طبيعيَّةّ أو مصنَّـعةً ، و سواءٌ كانت أساسية أو مضافةً بحيث تُستبعدُ بحسب أحكام الشَّريعةِ كلُّ مادةٍ محرمةٍ لذاتها أو لما يترتب عليها ، و لا استثناء من هذا إلَّا لضرورةٍ.
ثانيَا : دفـعُ الضَّـرِر
ويقصد بهذا المعيارِ ألَّا تكون المكونات على اختلافِ أنواعِها مُضرَّةً في ذاتها ، أو فيما يترتَّب عليها ، وأن يكونَ تناولُها في إطارِ الحدِّ المسموحِ به صحِّيًّا ، ويدخلُ في هذا المعيارِ الموادُّ المضافة إلى الأغذية و الأشربة، و التحقق من خلوُّ المنتج من أيَّـةِ ملوِّثاتٍ أو بقايا مبيداتٍ ، مع مراعاةٍ رقابةِ الإنسانِ لاستهلاكِه للموادَّ الحافظِة ، وإن كان مسموحًا بها ؛ فإن كثرةَ الاستعمالِ قد تجعل الحدَّ المسموح به مضرَّا كذلك.
ثالثَا : الطَّهارةُ
ويقصد به توفير ما يمكن لتحقيقِ نظافةِ المنتجِ النِّهائيِّ ، بدءًا بالمكوِّنات و الأدواتِ المستعملةِ في الانتاجِ ، و الموادِّ الكيمائيَّةِ الَّتي تستعملُ في نظافةِ الأماكنِ و طهارتِها ، و البيئة التي تعدُّ فيها المنتجاتُ التي قد تتَّسعُ لملاحظةِ المنطقةِ الصناعية المحيطة بـ المصنع ، بحيثُ يكونُ هواؤها خاليا من الملوثات و الإشعاعات ، و وصولا إلى ما يُستعمل لصيانةِ خطوط الإنتاج وإدامة عملها.
رابـعَـا : الممارسةُ التَّصنيعيَّةُ المثالَّيةُ
و هذا المعيار وأن كان في ظاهره لا يرتبطُ بـ الحلِّ و الحرمةِ مباشرةً ، إلَّا أنَّه يتعلق بالإتقانِ و الإحسانِ اللَّذين أُمرَ بهما المسلمون ، وهذه الممارسةُ المثاليَّةُ المطلوبةُ تضمنُ استمرارَ نمطٍ صحيحٍ في التصنيع يترتب عليه منتجٌ نهائيٌّ ذو جودةٍ عاليةٍ ، وفي المقابل قد تؤدِّي الممارسةُ السَّيئةُ إلى ضعفِ جودةِ المنتجاتِ ، واختلاطِ المنتجِ بموادَّ قد تكون محرَّمةً أو غيرَ نظيفةٍ .
خامسًا : التَّوثيقُ
ويُعنى بهذا المعيارِ ضمانُ نظامٍ مستمرٍّ و مستقرٍّ في إجراءاتِ التصنيع في مراحلِه كافَّةً ، للوصولِ إلى مطابقةٍ نهائية للمواصفات المعتمدةِ من قِبل الهيئات الرَّسميَّةِ شرعية و فنية ، ابتداء بما تحتويه من مكونات ومواد أولية ، و توصيفها و نِسبِها و كيفيَّاتِ التصنيع ، و مرورًا بمراقبةِ الوثائقِ و الأوراقِ الَّتي تشهدُ بكل ما يجري من توريدِ البضاعةِ و ما يتعلق بمنشئِها و كميَّاتِها وظروف ِ توريدِها وسلامتِها وتخزينها وعرضها و نقلِها ، بما يضمنُ عدمَ وقوعِ الغشِّ في التصنيع و الإنتاج .
و لا شك أن تطبيق هذه المعايير و غيرها ممَّا تضعُه الجهاتُ المسئولةُ الخبيرةُ للعاملين في مجال صناعة الحلال سواء كانوا أفرادًا أو جماعاتٍ يحتاجُ إلى يقظةٍ و انتباهٍ وفتوى بصيرة و عميقةٍ تقدرُ على صرفِ الأحكام الشرعية إلى حيث يجب أن تكون ، وينبغي أن يكون الخبير الشرعيُّ مطَّلعًا بصورةٍ كافية على المعايير الفنية ، وقادرًا على تكييفها من الناحية الفنية و الشرعية ؛ ليستطيع اتخاذ قرارٍ إيجابيٍّ في ظلِّ سوق تنافسيٍّ ، و تسارع علميًّ قد يرتقي بالأمة أو ينحدرُ بها.
علاقة صناعة الحلال بالتنمية الاقتصادية المستدامة
الاستدامةَ الاقتصاديَّةَ تعني القدرة على تحقيقِ التَّنمية الاقتصادية بحسنِ استثمارِ المواردِ الطبيعية و البيئية في الوقت الحاضر دون المساس بحق الأجيال القادمة في تحقيق تنميةٍ مماثلةٍ أو أكبرَ منها .
ولا تتوقَّفُ الاستدامةُ الاقتصاديَّةُ على جانبٍ واحدٍ في الحياةِ ، و إنَّما تنصرفُ إلى الجوانبِ البيئيَّةِ و الاجتماعيَّةِ و الاقتصادية وتشملُ إلى جانب تحسين الإنتاجيَّةِ ، ورفعِ الكفاءةِ ، وزيادةِ القدراتِ و المهارات ؛ و المحافظة على الموارد الطبيعية ، وتحسين فرص التوظيف ، و توزيع الثروة بطريقة عادلة و متوازنة ، واستخدام الطاقة
المتجددة وتقليل النُّفايات و التلوثِ ، و تشجيع الاستثمار في المشروعات الصغيرة و المتوسطة بالمناطق الفقيرة ، و تحسين البنية التحتية الخضراء.
وبهذه الإجراءات و غيرها مما يضعُه المختصون تسهم الاستدامةُ الاقتصادية في تحقيق العدالةِ الاجتماعيَّةُ ، و توفير فرص العمل ، و تحسين أحوال المجتمعات في الوقت الوقت الحاضر و المستقبل.
سوقًـا واعـدةً
وصناعة الحلال باعتبارها سوقًا واعدةً يمكن أن تسهمَ بفاعليًّةٍ كبيرةٍ في تحقيقِ هذه الاستدامةِ الاقتصاديَّةِ المرجوَّةِ .
و من تأمَّـلَ الإسلام وجد أن الشريعة الأسلامية لا تنتظر وقوع الأزمات ، بل تحمي المجتمع من كثيرٍ منها بالقضاءِ على أسبابها ، وهذا ليس غريبًا على منهجٍ يستمدُّ مبادئه وأدواتِه من وحيِ السَّمَاءِ ، الذي أرادَه اللهُ لهدايةِ البشرية جمعاء ، فالحرص على أحكامِ دينِنا الإسلاميِّ الحنيفِ يجنِّبُ المجتمعَ مشكلاتٍ كثيرةً ؛ لأن هذا المنهج الإسلامي بقِيَمِه و أخلاقيَّاتِه هو الضمانةُ الحقيقيَّةُ لإقامةِ مجتمع مستقرٍّ اقتصاديًّا ، و متقدم حضاريًّا ، و منضبطٍ أخلاقيًّا.
منهج الإسلام الإقتصادي
إن منهج الإسلام يواجه كل محترفي المعاملات المحرمة التي تضر بالمجتمعِ و التي تنشرُ الظُّلمَ و الاستغلالَ بين أفرادِه ؛ و لأن معظمَ المشكلاتِ الاقتصاديةِ في العالمِ الحديثِ تأتي من الفسادِ ؛ فإن الشريعةَ الإسلامية التي تنظِّمُ حركةَ الإقتصادِ في المجتمعِ تحرِّمُ و تـجـرِّمُ جميع وسائل الكسب غير مشروع و الشريف ، و منها الغشُّ و التَّدليسُ ، و منها الـرِّبـا ، و الرِّشوةُ ، و استغلالُ النفوذ و السُّلطانِ ، و التحكم في ضروريات حياة الناس و استغلال حالاتِ عوزِهم و حاجتِهم ، وما إلى ذلك من الطُّرقِ غير النظيفةِ في كسب الـمـال ، كما تحرم امتلاك ما ينتج عن كل تعامل محرَّمِ.
ولأن كل أزمةٍ لها ضحاياها من الناحيةِ الاقتصادية ، قدم الإسلام نظامًا شاملًا للتكافل الإنسانيِّ و الاجتماعيِّ ، لإغاثةِ الفئات المتضررة من الأزمة أيًّا كانت أسبابُها - صحية أو بيئيَّةً أو اقتصاديَّةً - فـ الإسلامُ لا يتركُ الطبقاتِ الفقيرة أو محدودةَ الدخل بلا موردِ رزق كريم ، ولدية أداوته التكافلية الفاعلة ذات الموارد المتجددة للتعامل مع التداعيات الاقتصادية و الاجتماعية لكل أزمةٍ ، و الإسلام بذلك يحمي المجتمع من أزمات أمنية وصحية و اجتماعية و أخلاقية كثيرةٍ .
و هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛؛؛؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺
إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان.
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼
*الـمـراجـع .__________________________
• (1) أخرجة مسلم ، ( ١٠١٥ )
هناك 4 تعليقات:
أنجزت وأوجزت .. ما شاء الله عليك ، لم تترك لنا ما نقول..!!
لا أقول إلاّ جملة واحدة .. الحلال تحلو به النفس ، والحرام هو ما يُحرِّم النفس من سعادتها.. جزاكم الله خير ؛؛؛؛
"راضية بديني"
جزاك الله خيرا ونفع بك
أحسنت جزاك الله خيراً ونفع بك
بسم الله ماشاء الله جزاك الله خيراً اللهم أنفع بعلمك ويارب أجعلها حلال في شتي مجالات الحياة
إرسال تعليق