المتابعون

الأربعاء، 11 سبتمبر 2024

فلسفة الإعمار و الهجرة Immigration


 


الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

ينظر كثير من المفكرين و الباحثين و حملة الأقلام إلى الهجرة النبوية المباركة من مكة إلى المدينة من خلال زاويتين اثـنـيـن . 

أما الزاوية الأولى :-

 إحداهما : تنبثق من اختزال أسباب هجرة رسول اللّٰه ﷺ من مكة إلى يثرب في أنها بمثابة وسيلة اتخذها النبي للبحث عن وطن يستوطن فيه بعد أن ضاقت مـكـة عليه وعلى المؤمنين بسبب إيذاء المشركين للمسلمين.. ويتبنى النظر إلى قضية الهجرة من هذه الزاوية معظم الـكُـتَّـاب و الباحثين المسلمين ، وهي رؤية تخظى بكثير من القبول ولها قدرها الكبير من الوجاهة ، فهي تعبر عن الواقع الذي كان سائدًا آنذاك.

أما الزاوية الثانية : -

فهي متضمنة في الرؤية التي يتبناها أكثر المستشرقين و أتباعهم من العلمانيين ، وهي تقوم على النظر إلى الهجرة باعتبارها تمثل فرارًا من الرسول إلى يثرب ـ كما يزعم دعاتها ومنهم.

 « المستشرق الفرنسي ؛؛ إميل در منغم ؛؛ في كتابه الذي ترجم بعنوان (( حياة محمد في عيون مستشرق )) حيث يقول ، و الآن يفر محمد بدينه مما يُبَيَّب لـه ، ».*(1)

والتفاعل مع الأحداث التي وقعت له بـ مكة على يد مَـن تطاولوا عليه وعلى صحابته الذين عانوا من اعتداءات قريش عليهم أشد المعاناة .

غير أن الهجرة ثمثل عند قطاع كبير من الباحثين الموضوعيين حدثًا أكبر من هذه المعاني وأسمى من هذه التصورات ؛ فهي سـنَّـة من السنن التي أجراها اللّٰه - تبارك و تعالى - على الأنبياء و المرسلين السابقين قبل أن يجريها على نبينا الكريم ﷺ ، فقد هاجر نوح في السفينة ، و هاجر لوط إلى الأرض المباركة ، و هاجر إبراهيم من أرض بابل إلى الشام ثم إلى مصر ، و هاجر شعيب من قريته التي كانت تفعل السيئات ، و هاجر موسى من مصر إلى مدين ثم عاد إلى مصر بعد أن خرج منها خائفًا يترقب ، و هاجر المسيح عيسى ابن مريم مع أمـه و يوسف النجار و غيرهما ، فيما سُـمي بـ رحلة العائلة المقدسة …… وهكذا فقد جرت سنَّة الهجرة على هؤلاء الرسل و الأنبياء و غيرهم … من هنا فقد جاءت هجرة رسولنا بتقدير من اللّٰه - تعالى - لينطبق عليه ما انطبق على الأنبياء السابقين حيث غادروا أرض القوم الذين رفضوا الاستجابة لكلمة الحق ورسالة التوحيد .

و لقد طُبقت هذه السنَّة على نبينا ليتمكن من وضع اللبنة المباركة الأولى في صرح المجتمع الإسلامي الوليد بـ يثرب ، ومعلوم أن عملية التأسيس لمجتمع ناشئ وجديد تحتاج إلى ظروف معينة و أجواء مناسبة ، و معلوم أيضًا أن هذه الظروف و تلك الأجواء كانت مُـفـتَـقَـدة تمامًا في مـكـة و قتذاك ؛ لغلبة أهل الشرك و الكفر عليها و سيطرتهم على أجوائها.

من هنا فإن الهجرة كانت تعد مطلبًا ملحًّا وضروريًّا ، وكانت تقديرًا ربانيًّا لينتقل المسلمون بعد استقرارهم بالمدينة من كونهم مجرد مجموعة من الناس اقتنعوا بنبوة النبي ورسالته إلى تكوينهم لمجتمع جديد له أسسه الثابتة ، وله أركانه وأعمدته التي يقوم عليها ، وهنا يسقط زعم بعض المستشرقين و أتباعهم بأن الهجرة كانت فرارًا من النبي وصحابته من مكة إلى المدينة المنورة .

ويتبين للمتأمل أن النبي ﷺ اعتمد مجموعة من الأسس حيث أرساها وجعلها تشكل فلسفة أو جوهر عملية الإعمار من وجهة النظر الإسلامية ، هذه الأسس تتمثل فيما يلي :- 

أولا ـــ الإعلاء من الجانب الروحي 

لقد كان الأصل الذي جاءت الرسالات السماوية تترى من أجل تحقيقه و التكريم له هو إخراج الناس من ظلمات الكفر ومتاهات الخضوع للشرك إلى حيث الوعي بأنوار البعد الروحي في الحياة الإنسانية ؛ لذا حرص النبي ﷺ على أن يكون بناء المسجد وتشييده هو أول ما ينجزه ويعفله بالمدينة المنورة ، (( و لا غرو ولا عجب في ذلك ، فإن إقامة المسجد أول و أهم ركيزة في بناء المجتمع الإسلامي ، ذلك أن المجتمع المسلم إنما يكتسب صفة الرسوخ و التماسك بالتزام نظام الإسلام وعقيدتة وآدابه ، وإنما ينبع ذلك كله من روح المسجد ووحيه ، ومعلوم أن من نظام الإسلام وآدابه شيوع آصرة الأخوة والمحبة بين المسلمين ، وشيوع هذه الآصرة لا يتم إلا في المسجد ؛ وإن من نظام الإسلام وآدابه ، أن تشيع روح المساواة والعدل فيما بين المسلمين في مختلف شئونهم وأحوالهم ، وشيوع هذه الروح لا يمكن أن يتم ما لم يتلاقى المسلمون كل يوم صفًّا واحدًا بين يدي اللّٰه - عز وجل ؛ وإن من نظام الإسلام و آدابه ، أن ينصهر أشتات المسلمين في بوتقة من الوحدة الراسخة يجمعهم عليها حبل اللّٰه الذي هو حكمه وشرعه ؛ فمن أجل تحقيق هذه المعاني كلها في مجتمع المسلمين و دولتهم الجديدة ، أسرع رسول اللّٰه ﷺ فبادر إلى بناء المسجد .

من هنا يتأكد لنا أن البناء الروحي للإنسان مقدم في الإسلام على أي بناء آخر ؛ ذلك لما له من أهمية بالغة في بناء الذات المسلمة السوية القادرة على التفاعل ــ مع الكون و الوجود ــ تفاعلًا إيجابيًّا يتيح لها القيام بعملية البناء و التعمير في مختلف مجالات الحياة - ومعلوم أن البناء الروحي للمسلم يتحقق أول ما يتحقق في بيت من بيوت اللّٰه .

ثانيًا : الترسيخ للتسامح وقبول الآخر

لئن كانت الأمم و الشعوب الإنسانية تعاني إلى الآن من تراجع هذه الثقافة ، ولئن كانت الهيئات و المؤسسات العالمية تكرس قسطًا من جهودها وميزانياتها من أجل نشر ثقافة قبول الآخر ، فإن التاريخ الإسلامي قد أمدنا بما يؤكد حرص رسول اللّٰه ﷺ على ضرورة أن يُبنى مجتمع المؤمنين الجديد - بالمدينة المنورة - على أساس راسخ من التآخي الإنساني ، والتسامح الديني الذي يؤدي إلى قبول الآخر والاعتراف بحقه في الاحتفاظ بقناعاته الدينية .

ولقد اتخذ الرسول ﷺ لتحقيق ذلك ما يمكننا اعتبارها منهجين نافذين ومعتبرين في سياق التأسيس لأي مجتمع ناهض ومستقر .

ألاوهما : 

١ـ منهج التآخي 

حيث قال ابن إسحاق ( وآخى رسول اللّٰه ﷺ بين أصحابه من المهاجرين و الأنصار ) *(2) 

وهذا منهاج لم يعرفه التاريخ الإنساني لا في مراحله القديمة ولا في حقبه الحديثة ، فهو منهاج نبوي وإسلامي بامتياز ؛ و الحق أن هذا التآخي قد أثمر افضل الثمار و أطيبها على المستوى الروحي و النفسي بين المتآخيين ، حيث أضحى كل من آخى بينهم رسول اللّٰه ﷺ بمثابة الأخوة الذين لا ينفصل الواحد منهم عن الآخر نفسيًّا أو روحيًّا ، بل لقد عرض بعض أهل المدنية من الأنصار على مَـن تآخى معهم من إخوانهم المهاجرين اقتسام المال و الثروة فيما بينهم ، بل الأغرب من ذلك أن يبدي بعضهم استعداده للتنازل عن بعض زوجاته ـ إذا كان عنده أكثر من زوجة ـ لمن تآخى معه من المهاجرين !! 

ولقد عبَّر القرآن الكريم عن هذا المعنى بقوله - تعالى ـ ﴿ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ﴾( الحشر : ٩ ).

٢- منهج الموادعة 

حيث كتب رسول اللّٰه ﷺ لليهود كتابًا وادعهم فيه ، وأمنَّهم على معاشهم وديارهم ، مع المحافظة لهم على أموالهم لتكون خالصة لهم ، وترك لهم حرية اختيار معتقدهم الديني ، وفي هذا الكتاب شرط لهم ، و اشترط عليهم ، ومما جاء فيه ؛ 

(( بسم اللّٰه الرحمن الرحيم ... وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم ، و للمسلمين دينهم ، مواليهم و أنفسهم ، إلا مَن ظلم وأثم ، فإنه لا يوتغ - بـ.معني ؛ يـهـلـك - إلا نفسه ، وأهل بيته ، وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف ، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف ، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف ، وإن ليهود بني جـشـم مثل ما ليهود بني عوف ، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف ، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف ، إلا من ظلم وأثم ، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته ، وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم ، وإن لبني الشَّطيبة مثل ما ليهود بني عوف ، و إن البر دون الإثم ، وإن موالي ثعلبة كأنفسهم ، و إن بطانة يهود كأنفسهم ؛ وإن على اليهود نفقتهم وعلى المؤمنين نفقتهم ، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، و إن بينهم النصح و النصيحة ، والبر دون الإثم ، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه ، و إن النصر للمظلوم ، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين إلـ.ـخ ))*(3).

هذا بعض ما وادع عليه الرسول ﷺ اليهود ؛ و هو طرح عظيم القيمة رفيع الشأن ، يحفظ حقوق مختلف الأطراف ، و اللافت أن بقية نصوص هذه الوثيقة تتساوى ، إن لم تتجاوز مجموعة القوانين و الأعراف الدولية التي لا تزال أمم الحضارة تكافح من أجل نشرها و التكريس لها عالميًّا .

و هنا يتبين لنا أن منهج الرسول في بناء مجتمع المدينة الجديد لم يغفل تأكيد الاستقرار ، وضبط قوانين الحراك المجتمعي بضوابط شرعية وإنسانية من شأنها تعزيز الثقة بين الجميع ، ومن شأنها ـ أيضًا ـ تكريس التسامح والتآخي بين مختلف الطوائف.

ثالثًا - التعاون 

لقد كانت يثرب وقت أن دخلها الرسول الكريم عبارة عن (( واحة أو جزيرة خضراء ، تبلغ مساحتها نحو عشرين ميلًا مربعًا ، تحيطها حبال بركانية ، وتلال صخرية ، و أراض حجرية ، تتعذر زراعتها ، و لم تكن مركزًا تجاريًّا بل مستوطنة زراعية تعيش فيها شتى المجموعات القبلية متلاصقة و متناحرة ، يسودها العداء القاتل ، في شتى قراها ومزارعها ؛ ودخلت قبائل يثرب تدريجيًّا في حلقة مفرغة من أعمال العنف ، و كانت الحروب الدائمة بينهم مصدر خراب للبلاد ، فهي تدمر المحاصيل وتقوض مصادر ثروة يثرب وقوتها )) *(3).

معنى ذلك أن أجواء يثرب كانت ملتهبة أو شبه ملتهبة ، فالصراع مستمر طوال الوقت بين الجميع ، واشتعال الأزمات ونشوب الخلافات متوقع بين لحظة وأخرى ، ولا شك أن في أجواء كهذه تتطلع العقول ، وتتعلق القلوب ، بمن يعطي شيئًا من أمل أو بصيصًا من ضياء نحو ظهور نور التآخي وبروز قيم وأخلاقيات التسامح بين الجميع.

من هنا كان التقدير الإلهي أن يلتقي رسول اللّٰه ﷺ في ذاك الحين مع بعض أهل المدينة بالقرب من مكة و يحدثهم في أمر الدعوة الجديدة ، فتنشرح صدورهم لحديثه و تتهيأ نفوسهم لدعوته ، فيأخذ منهم البيعة على الدعم و النصرة ، و المحافظة عليه من كل ما يحفظون منه أموالهم وأبناءهم ، وبالمقابل فقد تعهد لهم رسول اللّٰه ﷺ بمثل ذلك .

وتلك كانت أول لبنة في صرح ( التعاون ) بين سكان المدينة وبين رسول اللّٰه ﷺ الذي سيشكل ( الوافـد ) على أهل هذه الديار ، وفي المدنية حرص ﷺ على جمع مختلف قبائلها على كلمة سواء ، هذه الكلمة جوهرها تأكيد حرية الاعتقاد ، و التناصر في الدفاع عن المدينة ، و التعاون في تنمية أحوالها وتنظيم حياة قاطنيها ، من هنا فقد جاء في الوثيقة .

( وإن بينهم النصر على مَن حارب أهل هذه الصحيفة ، وأن بينهم النصح و النصيحة و البر دون الإثم ) *(4).

و لما كان التعاون هو ترياق نجاة الأمم ، وهو منهاج نهوضها ودستور تقدمها ، فقد تقبل الجميع هذا التعهد من الطرفين بالبِشْر و الاستبشار بمستقبل أفضل للمدينة في ظل وجود رسول اللّٰه ﷺ بين قاطنيها.

وهنا يَـبرز لنا إيمان الإسلام الحنيف بأهمية ( التعاون ) كآلية لنجاح المجتمعات و تقدمها و إعمارها ؛ وذلك من خلال حرص النبي على تأكيد ( روح التعاون ) وسيادته بين جميع أهل المدينة و قراها وشِـعـابها و أطرافها .

رابــعًـا - التنمية 

لقد مثلت التنمية نقطة جوهرية في دعم حياة المدينة واستقرارها ؛ لذا حرص النبي ﷺ على دفع المؤمنين إلى العمل بالتجارة وارتياد الأسواق ، وحرَّضهم على الاعتناء بالنخيل ، مع الاهتمام بمختلف المزروعات (( فمن المهاجرين مَن تعاطوا الزراعة فلقد آجرهم أهل المدينة الأراضي على قسم من المحاصيل ، ونذكر من المهاجرين الذين عاقدوا أهل المدينة على مثل ذلك عليّ بن أبي طالب وسعد بن مالك و عبدالله بن مسعود و غيرهم (5).

خامـسًـا - المساواة 

من اللافت أن الحياة في المدينة أُسست على المساواة بين الناس جميعًا ، وتم رفع شعار (( لهم ما لنا و عليهم ما علينا )) ، هذا فيما يتعلق بالحقوق و الواجبات التي يناط بمختلف طوائف المجتمع التعامل بها و الالتزام بمضمونها .

أما عن المسلمين فقد اتضح مستوى الدقـة في المساواة بينهم ( لا من حيث إنها شعار برَّاق للزينة و العرض ، بل من حيث إنها ركن من الأركان الشرعية المهمة للمجتمع الإسلامي ، يجب تطبيقة بأدق وجه وأتم صورة ، وحسبك مظهرًا لتطبيق هذه المساواة بين المسلمين ما قرره النبي ﷺ في الوثيقة بقولة : { ذمة اللّٰه واحدة ، يجير عليهم أدناهم } ؛ ومعنى ذلك أن ذمة المسلم أيًّا كان محترمة ، وجواره محفوظ لا ينبغي أن يجار عليه فيه ، فمن أدخل من المسلمين أحدًا في جواره ، فليس لغيره حاكمًا أو محكومًا أن ينتهك حرمة جواره هذا ) *(6).

الـخـلاصـة : 

برغم وجاهة القول بأن النبي ﷺ هاجر من مكة إلى المدينة لتنامي إيذاء المشركين للمسلمين إلا أن الهجرة هي سنَّة من سنن اللّٰه - تعالى - التي أجراها على الأنبياء و الرسل ؛ ولقد ارتبطت الهجرة إلى المدينة بإعمارها ؛ وتقوم فلسفة الإعمار في الإسلام على أساس من البناء الروحي ، و التسامح ، و التعاون ، و التنمية ، و المساواة .

هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺

إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان.

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

*الـمـراجـع .___________________________

*(1) كتاب حياة محمد في عيون مستشرق ، ترجمة د/ عاد زعيتر ، صـ ١٦٩ـــــــــــــــــ

*(2) ينظر لمزيد من التفاصيل سيرة ابن هشام تخريج و تحقيق وليد بن محمد بن سلامة ، خالد بن محمد بن عثمان ، مكتبة الصفاء ، القاهرة الطبعة الأولى ، جـ ٤ ، صـ ٩٦ و ما بعدها.ــــــــــــــــــ

*(3) ابن هشام : السيرة النبوية ، صـ ٩٤ - ٩٦ ، بتصريف يسير 

*(3) مرجع سابق ابن هشام السيرة النبوية ـــــــــــــ

*(4) إميل درمنغم مستشرق فرنسي مرجع سابق *(1)ـــ

*(5) ابن هشام مرجع سابق صـ ٩٦ ـــــــ

*(6) دكتور محمد سعيد رمضان البوطي صـ ١٥٣ ، ١٥٤ ــــــــ.

الجمعة، 6 سبتمبر 2024

صناعة المال الحلال Halal industry


 الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

صناعة الحلال وعلاقته بالتنمية الاقتصادية المستدامة 

فإن الحديث عن صناعة الحلالِ وأثرِها في استدامةِ الاقتصادِ العالميِّ ، موضوع يحتاج إلى قراءةِ الواقعِ الجديدِ بعينِ الشَّريعةٍ المستقرَّةِ أصولُها ، وبعينِ العصر المتغيِّرةِ مجالاتُه ، لهو دليلٌ على ضرورةِ الوعيِ ، وأهميَّةِ التَّواصلِ الفكريِّ بين مختلفِ الهيئاتِ العلمية.

فصناعة الحلالِ وإن بدا لبعض النَّاسِ أنها وليدةُ العصرِ ، وأنّّها من طرحِ الواقع ، تنطلقُ من أساسٍ إسلاميٍّ واضح ؛ فالشَّريعةُ الإسلامية تدور أحكامُها بين الحلِّ و الحرمةِ ، وتدعو المسلمين إلى أن يكونوا دائما في دائرةِ (( الحلالِ )) وأن يتورَّعوا عمَّا فيه شبهةٌ ، وحتى الأطمعةُ و الأشربةُ الَّتي يتناولُها الإنسان ، و التي بدأت بها حلال المعاصرة فإن الشِّريعةَ الإسلاميَّةَ قد عُنيت بها ؛ باعتبارِها أداةً للمحافظةِ على النَّفسِ و العقل و النَّسلِ ، وهذه الثَّلاثةُ من الكلِّيَّاتِ الخمسِ التي تدورُ عليها أحكام الشريعة.

ولقد جاء الخطابُ الشَّرعيُّ بتحرِّي الحلال موجَّهًا إلى النَّاسِ كافَّةً ، فقال تعالى :- ﴿ طَيِّبٗا ﴾ ( البقرة :- ١٦٨ ) ، وأُمرَ به المؤمنون أمرًا خاصًّا فقال سبحانه : ﴿  تَعۡبُدُونَ ﴾ ( البقرة :- ١٧٢ ) ، وبهذا الشُّمولِ نؤكِّدُ أن الإسلامَ أراد لصناعةِ الحلالِ أن تكونَ « صناعةً عالمية » .

وأما السُّنَّةُ النَّبويَّةُ فقد أكدت هذا المعنى ، وزادت أن طلب الحلالِ و الحرص عليه سبيلُ القربِ من اللهِ ، وسببُ استجابةِ الدُّعاءِ ، وفي ذلك يقول رَسُولُ اللهِ ﷺ (( أَيُّـهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللهَ أَمَـرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَـرَ بِـهِ المُرْسَلِينَ ، فَقَالَ ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ ﴾( المؤمنون : ٥١ ) وَقَالَ :- ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ ﴾( البقرة :- ١٧٢ ) ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ، يَارَبِّ ، يَارَبِّ ، وَمَطْعَمُهُ حَرامٌ ، وَمَشْرَبُـهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَرامٌ ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتجَابُ لِذَلِكَ ؟ )) *(1).

ومن فضل الله على العالم أن الاهتمام بالحلال وصناعته تجاوزَ الأغذيةَ و الأطعمةَ إلى غيرها ، وتجاوز الدول الإسلاميَّةَ إلى غيرِها ، وصارت فكرةُ الحلالِ عالميِّةَ الاهتمام.

وممَّا ينبغي أن يستقرَّ في الأذهانِ أنَّ (( شهادةَ الـ.حلالِ )) لا ينبغي أن تكونَ مجرَّدَ إشارةِِ دينيَّةٍ للحلِّ و الحرمةِ ، بل يجبُ أن تكونَ شهادةً لأيِّ منتج يدخلُ ضمنَ صناعة الـ حلال بتوفُّرِ المعاييرِ الشَّرعيَّةٌ و الفنِّيَّةِ اللَّازمةِ الَّتي تقرِّرُها الجهات المختصَّةُ .

وإذا كانت المعايير الشَّرعيَّةُ تدورُ حول أحكام الحلال و الحرام ، فتمنعُ دخولَ المكوِّنَاتِ المحرَّمةِ دينيًّا كـ الخمرِ و الخنزيرِ مثلا ، فإن المعاييرَ الفنيَّةَ العلميَّةَ لا تخرجُ عن حياضِ الشَّريعةِ كذلك ، و من ذلك مراعاةُ متطلَّباتِ السَّلامةِ الغذائيَّةِ ، وكلِّ ما هو ضار بصحَّةِ الإنسان و الحيوان ، فتشملُ بذلك كل ما يتعلَّقُ بالإنتاجِ و التَّصنيعٍ و العرضِ و النَّقل و التَّخزينِ و صولًا إلى المستهلكِ .

ولما كانت المعايير الفنِّـيَّةُ لا تخرجُ عن حياضِ الشَّريعةِ بما لها من آثارِِ تتعلَّقُ بالمحافظةِ على ما يحتاجُ إليه الإنسانُ و الحيوان من سلعٍ و خِدْماتٍ فإنَّ الواجبَ الشَّرعيَّ أن نعقدَ نوعًا من المزاوجةِ بين المعاييرِ الشرعَّيةِ و الفنية بما يُبرزُ شمولَ الشَّريعةِ من ناحيةٍ ، و يُعلي من قدرِ الاشتراطاتِ الفنية العلمية من ناحية أخرى .

ويمكن أن نوجزَ بعض المعايير الشرعية و الفنية فيما يأتي :

أولا : حلُّ المكوِّنَاتِ 

و المكونات المقصودة في هذا المعيار لا تقفُ عند أحكام الذَّبح و التَّذكيِة الشَّرعيَّة للطُّيور و الحيواناتِ ، ولكن المكونات المقصودةُ هنا هي كلُّ ما يدخلُ في منتجاتِ صناعةِ الـ حلال ، سواءٌ كانت مكوِّناتٍ طبيعيَّةّ أو مصنَّـعةً ، و سواءٌ كانت أساسية أو مضافةً بحيث تُستبعدُ بحسب أحكام الشَّريعةِ كلُّ مادةٍ محرمةٍ لذاتها أو لما يترتب عليها ، و لا استثناء من هذا إلَّا لضرورةٍ.

ثانيَا : دفـعُ الضَّـرِر 

ويقصد بهذا المعيارِ ألَّا تكون المكونات على اختلافِ أنواعِها مُضرَّةً في ذاتها ، أو فيما يترتَّب عليها ، وأن يكونَ تناولُها في إطارِ الحدِّ المسموحِ به صحِّيًّا ، ويدخلُ في هذا المعيارِ الموادُّ المضافة إلى الأغذية و الأشربة، و التحقق من خلوُّ المنتج من أيَّـةِ ملوِّثاتٍ أو بقايا مبيداتٍ ، مع مراعاةٍ رقابةِ الإنسانِ لاستهلاكِه للموادَّ الحافظِة ، وإن كان مسموحًا بها ؛ فإن كثرةَ الاستعمالِ قد تجعل الحدَّ المسموح به مضرَّا كذلك.

ثالثَا : الطَّهارةُ 

ويقصد به توفير ما يمكن لتحقيقِ نظافةِ المنتجِ النِّهائيِّ ، بدءًا بالمكوِّنات و الأدواتِ المستعملةِ في الانتاجِ ، و الموادِّ الكيمائيَّةِ الَّتي تستعملُ في نظافةِ الأماكنِ و طهارتِها ، و البيئة التي تعدُّ فيها المنتجاتُ التي قد تتَّسعُ لملاحظةِ المنطقةِ الصناعية المحيطة بـ المصنع ، بحيثُ يكونُ هواؤها خاليا من الملوثات و الإشعاعات ، و وصولا إلى ما يُستعمل لصيانةِ خطوط الإنتاج وإدامة عملها.

رابـعَـا : الممارسةُ التَّصنيعيَّةُ المثالَّيةُ 

و هذا المعيار وأن كان في ظاهره لا يرتبطُ بـ الحلِّ و الحرمةِ مباشرةً ، إلَّا أنَّه يتعلق بالإتقانِ و الإحسانِ اللَّذين أُمرَ بهما المسلمون ، وهذه الممارسةُ المثاليَّةُ المطلوبةُ تضمنُ استمرارَ نمطٍ صحيحٍ في التصنيع يترتب عليه منتجٌ نهائيٌّ ذو جودةٍ عاليةٍ ، وفي المقابل قد تؤدِّي الممارسةُ السَّيئةُ إلى ضعفِ جودةِ المنتجاتِ ، واختلاطِ المنتجِ بموادَّ قد تكون محرَّمةً أو غيرَ نظيفةٍ .

خامسًا : التَّوثيقُ 

ويُعنى بهذا المعيارِ ضمانُ نظامٍ مستمرٍّ و مستقرٍّ في إجراءاتِ التصنيع في مراحلِه كافَّةً ، للوصولِ إلى مطابقةٍ نهائية للمواصفات المعتمدةِ من قِبل الهيئات الرَّسميَّةِ شرعية و فنية ، ابتداء بما تحتويه من مكونات ومواد أولية ، و توصيفها و نِسبِها و كيفيَّاتِ التصنيع ، و مرورًا بمراقبةِ الوثائقِ و الأوراقِ الَّتي تشهدُ بكل ما يجري من توريدِ البضاعةِ و ما يتعلق بمنشئِها و كميَّاتِها وظروف ِ توريدِها وسلامتِها وتخزينها وعرضها و نقلِها ، بما يضمنُ عدمَ وقوعِ الغشِّ في التصنيع و الإنتاج .

و لا شك أن تطبيق هذه المعايير و غيرها ممَّا تضعُه الجهاتُ المسئولةُ الخبيرةُ للعاملين في مجال صناعة الحلال سواء كانوا أفرادًا أو جماعاتٍ يحتاجُ إلى يقظةٍ و انتباهٍ وفتوى بصيرة و عميقةٍ تقدرُ على صرفِ الأحكام الشرعية إلى حيث يجب أن تكون ، وينبغي أن يكون الخبير الشرعيُّ مطَّلعًا بصورةٍ كافية على المعايير الفنية ، وقادرًا على تكييفها من الناحية الفنية و الشرعية ؛ ليستطيع اتخاذ قرارٍ إيجابيٍّ في ظلِّ سوق تنافسيٍّ ، و تسارع علميًّ قد يرتقي بالأمة أو ينحدرُ بها.

علاقة صناعة الحلال بالتنمية الاقتصادية المستدامة


الاستدامةَ الاقتصاديَّةَ تعني القدرة على تحقيقِ التَّنمية الاقتصادية بحسنِ استثمارِ المواردِ الطبيعية و البيئية في الوقت الحاضر دون المساس بحق الأجيال القادمة في تحقيق تنميةٍ مماثلةٍ أو أكبرَ منها .

ولا تتوقَّفُ الاستدامةُ الاقتصاديَّةُ على جانبٍ واحدٍ في الحياةِ ، و إنَّما تنصرفُ إلى الجوانبِ البيئيَّةِ و الاجتماعيَّةِ و الاقتصادية وتشملُ إلى جانب تحسين الإنتاجيَّةِ ، ورفعِ الكفاءةِ ، وزيادةِ القدراتِ و المهارات ؛ و المحافظة على الموارد الطبيعية ، وتحسين فرص التوظيف ، و توزيع الثروة بطريقة عادلة و متوازنة ، واستخدام الطاقة

المتجددة
وتقليل النُّفايات و التلوثِ ، و تشجيع الاستثمار في المشروعات الصغيرة و المتوسطة بالمناطق الفقيرة ، و تحسين البنية التحتية الخضراء.

وبهذه الإجراءات و غيرها مما يضعُه المختصون تسهم الاستدامةُ الاقتصادية في تحقيق العدالةِ الاجتماعيَّةُ ، و توفير فرص العمل ، و تحسين أحوال المجتمعات في الوقت الوقت الحاضر و المستقبل.

سوقًـا واعـدةً 

وصناعة الحلال باعتبارها سوقًا واعدةً يمكن أن تسهمَ بفاعليًّةٍ كبيرةٍ في تحقيقِ هذه الاستدامةِ الاقتصاديَّةِ المرجوَّةِ .

و من تأمَّـلَ الإسلام وجد أن الشريعة الأسلامية لا تنتظر وقوع الأزمات ، بل تحمي المجتمع من كثيرٍ منها بالقضاءِ على أسبابها ، وهذا ليس غريبًا على منهجٍ يستمدُّ مبادئه وأدواتِه من وحيِ السَّمَاءِ ، الذي أرادَه اللهُ لهدايةِ البشرية جمعاء ، فالحرص على أحكامِ دينِنا الإسلاميِّ الحنيفِ يجنِّبُ المجتمعَ مشكلاتٍ كثيرةً ؛ لأن هذا المنهج الإسلامي بقِيَمِه و أخلاقيَّاتِه هو الضمانةُ الحقيقيَّةُ لإقامةِ مجتمع مستقرٍّ اقتصاديًّا ، و متقدم حضاريًّا ، و منضبطٍ أخلاقيًّا.

منهج الإسلام الإقتصادي 

إن منهج الإسلام يواجه كل محترفي المعاملات المحرمة التي تضر بالمجتمعِ و التي تنشرُ الظُّلمَ و الاستغلالَ بين أفرادِه ؛ و لأن معظمَ المشكلاتِ الاقتصاديةِ في العالمِ الحديثِ تأتي من الفسادِ ؛ فإن الشريعةَ الإسلامية التي تنظِّمُ حركةَ الإقتصادِ في المجتمعِ تحرِّمُ و تـجـرِّمُ جميع وسائل الكسب غير مشروع و الشريف ، و منها الغشُّ و التَّدليسُ ، و منها الـرِّبـا ، و الرِّشوةُ ، و استغلالُ النفوذ و السُّلطانِ ، و التحكم في ضروريات حياة الناس و استغلال حالاتِ عوزِهم و حاجتِهم ، وما إلى ذلك من الطُّرقِ غير النظيفةِ في كسب الـمـال ، كما تحرم امتلاك ما ينتج عن كل تعامل محرَّمِ.

ولأن كل أزمةٍ لها ضحاياها من الناحيةِ الاقتصادية ، قدم الإسلام نظامًا شاملًا للتكافل الإنسانيِّ و الاجتماعيِّ ، لإغاثةِ الفئات المتضررة من الأزمة أيًّا كانت أسبابُها - صحية أو بيئيَّةً أو اقتصاديَّةً - فـ الإسلامُ لا يتركُ الطبقاتِ الفقيرة أو محدودةَ الدخل بلا موردِ رزق كريم ، ولدية أداوته التكافلية الفاعلة ذات الموارد المتجددة للتعامل مع التداعيات الاقتصادية و الاجتماعية لكل أزمةٍ ، و الإسلام بذلك يحمي المجتمع من أزمات أمنية وصحية و اجتماعية و أخلاقية كثيرةٍ .

و هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛؛؛؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺

إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان.

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

*الـمـراجـع .__________________________

• (1) أخرجة مسلم ، ( ١٠١٥ ) 



الاثنين، 2 سبتمبر 2024

وَلْيَسَعْكَ بيتُك - keep to your house


 

الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ، 

السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته.

جاءنا في الخبر عن عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ - رضي الله عنه قالَ : قلت : يا رسولَ الله : مَا النّجاةُ قال : « أَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ » ؛ *(1).

الحديث الشريف 

من جوامع كَلِمِهِ ﷺ يقف السائلَ عن النجاة الحريصَ على السعي إليها على سُبُلها ، وكلٌّ من هذه الثلاث تستحق إفرادها بالحديث .

ولأن هذه الإطلالة تخص واسطة العِقد منها فحسبُـنا في هذا المقام الإشارةُ المجملةُ إلى هذا العِقْدِ الفريد المنظوم من الجمل الثلاث أنها جاءت في ترتيـبـهـا موافقةً لما تعبر عنه من معانٍ سامية ، ففي الصدارة يأتي اللسان ، فإذا لم يُلْجِمْه صاحبُه إلجامًا حتى يَملِكَه فإنه يَفقِدُ السيطرة عليه ، وحينئذٍ لن يَسَعَه بيتُه ، بل سيضق عليه ، حيث شَهِيَّةَ انِفلاتِ لسانِهِ خارجَ بيتِهِ في مواطن اللهو و الأُنسِ و السمِرِ ، وساعتئذٍ لا مكان لتَذَكُّر خـطيـئةٍ مضت ، فيكون باكيًا على اقتِرافِها ، كيف ولسانُهُ المنفلتُ يُغرقُهُ فيها ، ألا ترى معي أن ترتيب الجمل الثلاث جاء منسجمًا مع المعاني المعبِّرةِ عنها ؟ 

و انـظـر 

إلى ثالث الجُمل من حديثة ﷺ وذلك قوله : « وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ » و قد جاءت بعد سابقتيها ، و كأنها تشير على هذا الوجه من الترتيب إلى أن الممتثل للأمرين الأولَينِ ماضٍ إلى ثالثهما ، وما له لا يبكي على خطيئته وقد استشعر بعد أن ملك زمام لسانه ، و وسعه بيته أنه فرَّط فيما مضى ، لعله يستدرك فيما بقي ، فهو حينئذٍ المشفق على نفسه وعلى أهله ، الخائف من أن يلقى ربه وهو مُقَصِّرٌ في حق أهله وحق نفسه ؛ لذا فهو بين أهله ليس ذلك الآمرَ الناهيَ الزاجرَ المُزَمْجِرَ ، و إنما يجده أهله بينهم خائفًا من ربه وَجِلًا أن يكون مقصرًا في حقهم ؛ تربية و تزكية ورعاية ، ومشفقًا على نفسه أن يكون قصَّر فيهم ، ومشفقًا عليهم بكل وجوه الإشفاق ، وبيتٌ هذا شأنه عرف معنى الخشية من الله ، ويوم يذوق أهل هذا البيت الذي تلمَّس طريقه لمولاه ثمارَ ما امتثلوا و أطاعوا ، هنالك يتذاكرون تلك الأيام الخالية في قوله تعالى:- { وَأَقۡبَلَ بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ يَتَسَآءَلُونَ } ( الطور :- ٢٥) ؛ قائلين :--{ قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا قَبۡلُ فِيٓ أَهۡلِنَا مُشۡفِقِينَ } ( الطور :- ٢٦ ).

لنعد إلى واسطة العِقْدِ في تلكم الجمل الثلاث  ( وَلَيَسَعْكَ بيتُك ).

كلمتان عظيمتان 

حقًّا إنهما في دلالتهما على المعني ، عظيمتان في توسطهما بين الجملتين المذكورتين توسُّطَ البيت الهادئ الهانئ بمن فيه ولو أحاطت به الأعاصير من كل جانب ، وكأنه سفينة نوحٍ : سفينِة النجاة وهي تجري بالناجين في موج كـ الجبال.

كلمتان لا تنتظران من مثلي أن يبين للعقلاء عظمتهما ، إنما هما اللتان تنبئان عن عظمتهما ، بما تحملان من دقة اللفظ مع وجازته ، بالأضافة إلى عمق المعاني وسَعَتِها مع غزارتها.

وكأني بالكلمتين من جوامع كَلِمِه ﷺ تُلِحّانِ علينا إلحاحًا ؛ كي نعيدَ قراءَتَهما من جديد كلما شعرنا بمزيد حاجتنا إلى العودة إلى بيوتنا.

حاجة بيوتنا لعودتنا إليها 

وأول ما يستوقف المتأمل في هذا الهَدْي القويم ذلك الأمر الموجَّه إليك أيها المخاطب العاقل فعل الأمر ( وَلَيَسَعْكَ ) ، فمن أنت حتى يُطلَبَ منك أن تسعى جاهدًا لأن يَتَّسِعَ لك بيتُكَ ؟ ألم يَتَّسع البيتُ الذي تسكن فيه لك ولمن معك من أفراد أسرتك !؟ أبلغتْ ضخامةُ بدنك الحَدَّ الذي يُطلَبُ منك أن يتسع لك بيتك ؟ أم يطلب منك أن تُخرِج من في البيت حتى يخلو البيت لك ويسعك ؟

لا ريب أن هذا النوع من الفهم -- المثير للضحك -- المتبادر إلى الذهن سرعان ما يكشف عن ضحالته وسذاجته عند أدنى تأمل.

لكن الحكمة النبوية أرفعُ وأجلُّ من أن تُفهَمَ على هذا الوجه الساذَجِ أو ذاك ، فلا البيت الذي طُلِبَ منكَ أن يَسَعَكَ هو هذا البيتُ الماديُّ الذي لا يتجاوزُ الأركانَ و الجدرانَ ، ولا أنت أيها المخاطَبُ المطلوبُ منك هذا المطلَبُ هو أنت صاحبَ البدن وكفى ، فبيوتُنا الماديةُ هي على حالها ، وأبدانُنا كذلك على حالها إذا كانت نظرتنا بهذا المنظور السطحيِّ.

من نحن 

فمن نحن الموجَّهون بهذا التوجيه الحكيم الرشيد ؟ وما بيوتنا التي يطلب منا أن تكون واسعة لنا ؟

إنّ المخاطب بهذا الخطاب الشريف هو تلك النفس البشرية التي خلقها ربها خلقًا خاصًّا مركبًا مما تفرَّق في المخلوقات من حولنا ، فلئن كان البدن آلة لهذه النفس فهي مزيجٌ مُعَقَّدٌ من نوازع الخير فينا إذا تعهدناها تَعَهُّدَ الزارع النَّبتة الصغيرة فإذا هي شجرة مورقة مزهرة مثمرة ، وإن نحن أهملناها وتركناها ترتعْ بلا ضابطٍ من عقل ودينٍ هلكت وأهلكت ؛ قال تعالى : -- ﴿ وَنَفۡسٖ وَمَا سَوَّىٰهَا (٧) فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا (٨) قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا (٩) وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا (١٠) ﴾ :- { الشمس :- ٧ - ١٠ } .

و أما بيتك الذي أمرت أن يَسَعَكَ فهو أهلُكَ و شئونهم ، و شأنُك بينهم ، ودورُك معهم ، وقِوامتُك عليهم ، إنه أمورٌ كثيرةٌ و متشعبةٌ ، إنه والحالة هذه مملكتُك التي تعتلي عرشَها متحمِّلًا مسئولياتها ، إنه أمانتُك التي ائتُمِنتَ عليها ، وخلافتُك التي استُخلِفتَ فيها .

ألم تسمع إلى رسولنا الكريم ﷺ يقول : (( كَـفَى بالمرءِ إثمًا أن يُضيّعَ مَنْ يَقُوتُ ))*(2).

النجاةَ 

إن في سعة بيتك لك النجاةَ كلَّ النجاة ، فبيتك الذي يُؤويك ، فتسلم من أذى الناس ، ويسلم الناس من أذاك ، وفي ذلك نجاة لك من نفسك ، وفي سعة بيتك لك نجاة أهلك ، فهم أولى الناس بك ، وأحوجهم إليك ، و أصحاب الحق عليك ، وهذا كله يضاف إليه نجاةُ الآخرين منك حيث ملكتَ لسانَك ، و وسعكَ بيتُك ، وشُغِلت بنفسك عن غيرك .

وهذه الوجوه من النجاة وإن كانت دنيوية فهي ليست مقطوعة الصلة عن نجاة الآخرة ، و من منا لا يعلم بَدَهِيَّةَ الإسلام القاضية بأن الدنيا مزرعة الآخرة !!

أما من لم يستجيب ـ عافانا الله وإياكم ـ إلى هذا الهدي القويم فانظر إلى حالهم و أوضاع أُسرهم .

انظر إليهم وقد ضاقت عليهم بيوتهم فضاقت عليهم الأرض بما رحُبَت ، وضاقت عليهم أنفسهم ! فتراهم يَتَرَنَّحون هـنـا -- و هناك تـرنُّـحَ الـطـائـر المذبوح وقد سرقته السكين ، فالمسكين --- منهم يخرج من عمله إلى المقهى أو الملهى تاركًا أهل بيته ، فلا يعود إليهم إلا وهم نيام كما تركهم بالغداة و هم على هذا الحال و قد --- صاروا يتامى بلا يُـتْـم ، و حيارى بلا ربان .

ألا إننا نحن الذين نُوَسِّعُ ضيِّقًا ، و نُضَيِّقُ واسعًا ، لو عدنا إلى بيوتنا لوسِعتْنا ، ونجونا ونجت بنا ، فالنجاة النجاة ؛ فإن حاجتنا إلى بيوتنا ، كـحـاجـة بيوتنا إلينا .

هذا و باللَّهِ التَّوفيقُ ؛؛ و اللَّه أعلم 🌼🌼🌺🌺

إلى أن ألقاكم بإذن الله على مدونتي الشخصية 

  ‏#بصمات_من_ياقوت_ومرجان.

  ‏صلوا على رسول اللّٰه 🌼

  ‏ ‏زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼

*الـمـراجـع .___________________________

*(1) أخرجه الترمذي في الجامع الكبير ، بَابُ مَاجَاءَ فِي حِفْظِ اللِّسَان ، رقم الحديث : ( ٢٤٠٦ ) ، وقال : هذا حديثٌ حسنٌ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*(٢) أخرجه أبو داود في السنن ، عن عبدالله بن عمرو ، باب

 في صلة الرحم ، رقم الحديث : ( ١٦٩٢ )ــــــــــــ

الإثارة والتشويق بطرح الأسئلة Content creators

  الإثارة والتشويق بطرح الأسئلة في السيرة النبوية الحمد اللّٰه رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، و بعد . فإن الإثا...