دروس من رحلة الإسراء…٣

 الإسراء إلى بيت المقدس و إفساد بني إسرائيل

ذكر اللّٰه سبحانه أمر الإسراء ، ثم ذكر بعده إيتاءه موسى الكتاب هدى لبني إسرائيل ، ثم بين انتسابهم إلى من كان مع نوح في السفينة ، ثم ذكر إفسادهم في الأرض مرتين و ما سيكون له من ملابسات و نتائج ، و ذلك قوله تعالى : 

{ سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ (١) وَءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَجَعَلۡنَٰهُ هُدٗى لِّبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلٗا (٢) ذُرِّيَّةَ مَنۡ حَمَلۡنَا مَعَ نُوحٍۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَبۡدٗا شَكُورٗا (٣) وَقَضَيۡنَآ إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَتُفۡسِدُنَّ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَّتَيۡنِ وَلَتَعۡلُنَّ عُلُوّٗا كَبِيرٗا (٤) فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثۡنَا عَلَيۡكُمۡ عِبَادٗا لَّنَآ أُوْلِي بَأۡسٖ شَدِيدٖ فَجَاسُواْ خِلَٰلَ ٱلدِّيَارِۚ وَكَانَ وَعۡدٗا مَّفۡعُولٗا (٥) ثُمَّ رَدَدۡنَا لَكُمُ ٱلۡكَرَّةَ عَلَيۡهِمۡ وَأَمۡدَدۡنَٰكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ أَكۡثَرَ نَفِيرًا (٦) إِنۡ أَحۡسَنتُمۡ أَحۡسَنتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡۖ وَإِنۡ أَسَأۡتُمۡ فَلَهَاۚ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُـُٔواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِيرًا (٧) عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يَرۡحَمَكُمۡۚ وَإِنۡ عُدتُّمۡ عُدۡنَاۚ وَجَعَلۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ حَصِيرًا }

{ الإسراء : ١_٨ } .

و الحكمة في هذا التسلسل _ فيما أرى و فهمًا لبعض آيات القرآن في ضوء بعض آخر _ أن اللّٰه_ عز وجل _ بعد أن بين عظمة أمر الإسراء إلى المسجد الأقصى ، بين أن الذي أعطى محمدًا النبوة و القرآن هو الذي أعطى موسى الكتاب لهداية بني إسرائيل.

فما يمكن أن يدعيه بنو إسرائيل من حق أو وعد يستندون فيه إلى الكتاب الذي أنزل اللّٰه على موسى ، ثم لا يكون تصديقه فيما جاء به محمد ، فإن ذلك يكون كذبًا و افتراءً على اللّٰه و على الكتاب الذي جاء به موسى.

و قد بين اللّٰه في القرآن أن موسى قال لهم { ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ } 

{ المائدة: ٢١ }.

و ألحّ عليهم في ذلك و طمأنهم بالوعد بالغلبة و النصر ، و لكنهم أبوا ذلك ورفضوه ؛ فعند ذلك حقت عليهم كلمة اللّٰه بالحرمان و التيه.

و قال تعالى : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}

 { المائدة: ٢٦}.

ثم ما يمكن أن يدعيه بنو إسرائيل من فضلٍ على الناس ، و أنهم شعب اللّٰه المختار أو أبناء اللّٰه و أحباؤه ، تكذبه حقائق الحياة ، فهم ينتسبون إلى أصل البشر كسائر الناس هم من ذرية من حمل مع نوح كما أن سائر البشر كذلك ؛ فبأي برهان يحكمون ، و إلى أي سندٍ يستندون ؟!

ثم إنهم لو اهتدوا بالكتاب الذي أنزل إليهم كما يزعمون ، أو كانوا من عنصر أكرم و من معدن أحسن ؛ لكانوا أحسن الناس سيرة و أطهرهم مسلكًا و أحسنهم حالًا ، و لكنهم على الضد من ذلك ، فطبيعتهم الفساد و الإفساد.

يقول اللّٰه تعالى : 

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } 

{ البقرة : ١١_١٢}.

و قد سجل اللّٰه عليهم إفسادهم في أرض المقدسات و النبوات ، و تاريخهم شاهد و حاضرهم حافل بألوان المكر و الخديعة و الظلم و البغي ، و بما لا يُعرف عن سواهم من خلق اللّٰه.

هذا و يميل بعض الذين يتصدون لتفسير القرآن بدعوى التجديد و العصرية ؛ إلى أن إفسادهم المرة الثانية و علوهم فيها هو هذه المرة الحاضرة التى تعيشها أمتنا في صراعها مع هؤلاء الصهاينة.

و قد دفعهم إلى هذا التفسير ما يملك النفوس من أملٍ و رغبة في الانتصار على هؤلاء الأعداء و في دخول المسجد الأقصى و بيت المقدس.

و عند التدبر للآيات الكريمة التى في مطلع سورة الإسراء ؛ نجد أن ما ذكر فيها من ملابسات للمرة الثانية من إفسادهم يمكن تطبيقه على و قائع تاريخية مضت و انقضت ، و ليس من سبيلٍ إلى تحديد هذه المرة و تعيينها .

و غاية الأمر أن اللّٰه قد بين ضروبًا من جرائمهم الشنيعة دون قصد إلى تحديد زمن ما.

أما الأمل في الانتصار عليهم فلسنا بحاجة إلى و همٍ نمني به أنفسنا ؛ لأن أمام أعيننا وعد اللّٰه الصريح القاطع و بيانه الواضح الساطع ، فعقب ذكر اللّٰه _ عز و جل_ لإفسادهم في الأرض مرتين ، بيَّن سبحانه أن دأبهم الإفساد و العودة إليه ، و ليس مجرد الوقوف عنده مرتين ، فقال في شأنهم : { وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ۘ } { الإسراء : ٨ }

و المعنى إن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى الانتقام.

و الانتصار عليهم لا يتحقق بمجرد الأمل ، فإن الأمل بغير عملٍ كذبٌ و باطل ، و قد جاء في حديث النبي ﷺ ( الدَّاعِي بِلَا عَمَل كَالرَّامِي بِلَا و تَرٍ ) _ أخرجة البيهقي في شعب الإيمان_ و حسنه ابن حجر في فتح الباري _

و قد جعل اللّٰه للنصر قوانين ثابتة بها يتحقق الظفر و الانتصار و مجمل تلك القوانين هو الآتي:

١- الإيمان باللّٰه ورسالاته و الثقة بوعده ، و بالحق الذى نجاهد من أجله ، قال تعالى : { يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ قَٰتِلُوا۟ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ ٱلْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا۟ فِيكُمْ غِلْظَةً وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ }{ التوبة : ١٢٣ } و قال  

{ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ }{ الروم : ٤٧}.

٢- إعداد القوة و توفير العدة بما يمكن من إرهاب العدو و الغلبة علية ، قال تعالى : { وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ }{ الأنفال : ٦٠ }.

٣- الحشد الكامل لكافة الطاقات و الخبرات و الجهود و الإمكانات ، قال تعالى : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }{ التوبة : ٤١}.

٤- التنظيم و التنسيق ، قال تعالى : 

{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ }

{ الصف : ٤}.

٥- الحذر و عدم الغفلة ، و اتقاء عامل المفاجأة ، قال تعالى: { يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ خُذُوا۟ حِذْرَكُمْ فَٱنفِرُوا۟ ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُوا۟ جَمِيعًا }{ النساء : ٧١} 

و قال { وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَٰحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰٓ أَن تَضَعُوٓا۟ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا۟ حِذْرَكُمْ }{ النساء : ١٠٢}.

٦- الثبات و الثقة بوعد اللّٰه عند ملاقاة الأعداء في ساحة القتال ، و قال تعالى : { يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُوا۟ وَٱذْكُرُوا۟ ٱللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }{ الأنفال : ٤٥ }،

و قال : { يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلْأَدْبَارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }{ الأنفال : ١٥_١٦ }.

و هذا و لقد كانت ملحمة العبور في العاشر من شهر رمضان المعظم ، أثرًا من آثار الالتزام بتلك القوانين و العمل بها ، من إيمانٍ زلزل الصخر و حطم خط بارليف ، و اجتاز الموانع ، كان شعاره [ اللّٰه أكبر ؛ اللّٰه أكبر ] و مع إعداد و تدريب دائبين ، و من حشدٍ مستمر و تنسيق و تنظيم رائع ، مع يقظة فذة و حذر رصين ، و من ثبات و صلابة و شجاعة اعترف بها الأعداء ، و سلموا لها بعد أن تركوا الأرض و الحصون تحت أقدامها.

و لا زلنا ننتظر الخطوة الأخرى على طريق النصر ، و التى بها تتحرر جميع الأرض ، و ندخل و أبناؤنا في المسجد الأقصى مؤذنين بزوال عهد الاحتلال و الدنس إلى غير رجعة ، مصلَّين للّٰه شكرًا و ضراعة ، و اضعين أيدينا في أيدي إخواننا من أهل القدس الشريف و فلسطين.

و هذا و اللّٰه أعلم

إلى أن ألقاكم مع موضوع جديد على مدونتي الشخصية

بصمات من ياقوت و مرجان 🌼

زيارتكم تسعدوني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده 

جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين

🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼