الحمد لله ربِّ العالمين ، و الصلاة و السلام على سيِّدنا محمدٍ و آلِه ... وبعد ،
السَّلامُ عليكم و رحمةُ اللَّه و بركاته !
هي من القِيَم التي تحتاج إلى مُمَارسةٍ و تدريب و تحمل ؛ لأنَّها غير مطبوعةٍ في خلقةِ الإنسانِ و شعورِه كالحياءِ مثلًا.
و معني العِفَّة
النزاهةُ و الامتناعُ عن سؤال النَّاسِ ، و يكثُر إطلاقُها على ضبطِ النَّفسِ و منعها ، و بخاصَّةِ فيما يتعلَّق بالأموال و الغرائز و النَّزَوَات الحيوانيَّة الهابِطَة.
ومن ثمرات العِفَّة
الاقتصادُ و التوفيرُ و القناعةُ ، و الاستغناء عمَّا زاد عن الضَّرورياتِ و الحاجيات.
و من ثمَراتِها أيضًا تحريرُ المرء (( رَجُلًا أو امرأة )) من أَسْرِ الشَّهْوَة و سطوتها ، و قديمًا قيل ،
(( عَبْدُ الشَّهَوات أذلُّ من عبد الرِّق )) .
و العِفَّة المحمودَةُ لها شروط ، من أهمها : أن يُصبح التَّعفُّف خُلُقًا يَصْدُر بصورةٍ تلقائيَّة سهلةٍ لا تَكلُّفَ فيها ، و ألَّا ينتظر المتعفَّفُ جزاءً و لا مصلحةً و لا نفعًا ماديًّا ، و ألا يكون تعفُّفه عن شيءٍ و سيلةً للحصولِ على شيءٍ أكبرَ منه ، و ألَّا يكون التعفُّف بسبب العجزِ و عدمِ القُدرةِ ، أو يكون التعفُّف عن شيءٍ تجنُّبًا لضررٍ يترتَّبُ على ذلك الشَّيء ، أو لأن المتعفِّفَ ممنوعٌ من طلبِ ما يتعفَّفُ عنه، فكلُّ ذلك ليسَ من العِفَّةِ في شيءٍ ؛ لأنَّ عناصِرَ الإرادةِ و العِزَّةِ و الاعتِلاءِ مفقودةٌ في هذه الأمثلةِ و أضرابِها.
و العِفَّةُ فضيلةٌ تلازِمُها فضائِلُ عِدَّةٌ ، في مُقدِّمتها : الاستغناءُ و الاستعلاءُ المحمودُ كتعفُّفِ الفقيرِ و استغنائِه عمَّا في يَدِ النَّاسِ ، و شعورِه بنديَّتِه لغيره ، كما أخبر رسول اللّٰه ﷺ :
(( شرفُ المؤمِنِ صلاتُهُ بالليلِ ، و عِزُّةُ استغناؤُهُ عمَّا في أيْدِي النَّاسِ )) _ رواه الحاكم في (المستدرك )٣٢٤/٤، و قال هذا الحديث .
و في الحكمة المأثورة : (( أَحْسِن إلى مَن شِئتَ تَكُن أميرَه ، و استَغنِ عمَّن شِئتَ تَكُن نَظِيرَه ، و احتَجْ إلى مَن شِئتَ تَكُن أسيرَه )) و قد قيل أيضًا : (( اتَّقُوا عِزَّةَ المُستَغنِي )).
و لكل هذه المعاني السَّامية أمر القرآنُ الكريمُ المسلمين بالتَّحلِّي بهذا الخُلُق في أكثر من موضع ؛ منها ثناؤه تعالى على الفُقَراء الذين يحجُزُهم (( العَفاف )) عن سؤال الناس و الإلحاح في استجدائهم ، و قد حثَّ اللَّه الأغنياءَ على الذَّهاب بأموالهم إلى هؤلاء العاجزينَ عن الكسبِ ، من الذين لا يسألون النَّاس رغم حاجتهم ، تَعَفُّفًا و أنفةً من ذل السؤال حتى يحسبَهم مَن لم يَعرفهم أنَّهم أغنياءُ من فرَطِ عفَّتِهم ؛ يقول اللّٰه تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحْصِرُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى ٱلْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَٰهُمْ لَا يَسْـَٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا۟ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ }{ الـبـقـرة : ٢٧٣ } ، يقولُ علماءُ التَّفسيرِ : نزلت هذه الآية في أهل الصُّفَّة (( و هم نحوٌ من أربعِ مئة رجل من الفقراء المهاجرين ، لم تكن لهم مساكن في المدينةِ و لا عشائر ، فكانوا في سقيفةِ مسجدِ المدينةِ ، أوَّلِ مسجدٍ بُنِيَ في الإسلام ، و كانوا يتعلَّمُون القُرآنَ باللَّيل و يعملون في تكسير النَّوى بالنَّهار )) ، و قد و قف رسول اللّٰه ﷺ يَوْمًا عليهم ورأى فقرهم و جهدهم و طيب قلوبهم ، فقال: (( أَبْشِرُوا يَا أَصْحَابَ الصُّفَّةِ ، فَمَن بقيَ مِن أُمَّتي عَلَى النَّعتِ الَّذي أنتُم عليْهِ رَاضيًا بِمَا فِيهِ فإنَّهُ مِن رُفَقَائي يومَ القِيامةِ )) _ أخرجه السُّلَميُّ في -(( الأربعين في التَّصوُّف ١ )) - و الخطيب البغداديُّ في(( تاريخ بغداد )) ٣٧٣/١٥ من حديث عبداللَّه بن عبَّاس رضي اللّٰه عنهما.
كما أَمَرَ اللَّهُ أولياءَ اليتامَى من الأغنياء بالعِفَّةِ في التَّعامُل مع أموالهم ، و ذلك في قوله تعالى : { وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ }{ النساء : ٦ } ، هذا و يُنزَّل المالُ العام مَنزلةَ مالِ اليَتيمِ ، و المسؤولُ عنه منزلة وصي اليتيم ، و كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : (( إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللَّهِ مَنْزِلَةَ مَالِ الْيَتِيمِ ، إِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ ، وَإِنِ افْتَقَرْتُ أَكَـلْتُ بالْمَعْرُوفِ ، وإِذَا أَيْسَرتُ قَضَيْتُ )) أخرجة ابن أبي شيبة في (( مصنَّفه )) ٣٣٥٨٥ ؛ و (( الطَّبريُّ )) في جامع البيان ٤١٢/٦ .
و معني (( الاستغناء )) في كلام عمر بن الخطاب_ رضي اللّٰه عنه_ عدم الحاجة، و ليس الغني الذي نعرفه ، و هو حيازة المال الكثير بدليل مقابلته بقوله بعد ذلك (( وَإِنِ افْتَقَرْتُ )) أي : إن اضطرتني الحاجة و ألجأتني للأكل من مال اليتيم ، أكلتُ بالمعروف ، و كذلك أمَر اللَّه الشَّبابَ مِمَّن لا يستطيعونَ الزَّواجَ بالعفة ، و ذلك في قوله تعالى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ}{ الـنـور : ٣٣ } .
و في هذه الآية يأمرُ اللّٰه تعالى مَن لا تتوفَّر لديه تكاليف الزَّواجِ و نفقاتُه أن يستعفوا عن الزِّنا إلى أن يُوَسِّع اللَّه علينا و عليهم ، و الاستعفاف هو طلبُ العِفَّة ، و تحصيلُ أسبابها ، و ترغيبُ النَّفس في الصَّبر على تحمُّلِ مشاقِّ الشَّهْوَة ، فهي إلى حين ، و قد و عد اللَّه الصَّابرينَ بتيسيرِ الأسبابِ ، و وعدُه لا يتخلَّف ، مما لا يخفى علينا رغم غلاءِ المهورِ ، و سَفَهِ النَّفقات ، و وضْعِ الأموالِ في غيرِ موضِعها الصَّحيحِ . . و كُلُّها عقباتٌ كأداء تضربُ عِفَّة الشَّباب في مقتل.
أنَّ حاجةَ المسلمين اليوم إلى التخلُّق بفضيلة العِفَّةِ ، تنُبع من كونِها أمرًا شرعيًّا و توجيهًا ليس منه بُدٌّ لإصلاحِ ما فَسَد من سلوكنا و تصرفاتِنا بسببِ الجَشَعِ و ضعفِ النُّفوس ، و الجري وراءَ المالِ الحرامِ ، و تفشِّي السَّرقةِ و هَتْكِ الأعراضِ و فسادِ الذِّمم وغيابِ الوعي بقِيَم التُّراثِ ، و الجهلِ بالثَّقافَةِ الإسلاميَّة الصَّحيحةِ التي علَّمت آباءَنا و أمهاتِنا و أجدادَنا و جداتِنا أنَّ الغِنَى الحقيقيَّ ليس هو كثرةَ المال وعَرَضِ الدُّنيا ، و إنَّما هو (( غِنَى النَّفْس )) فَقْطَّ.
و هذا و باللَّه التوفيق و اللَّه أعلم 🌼🌺
و كل عام و أنتُم بخير 🌼
صلوا على رسول اللّٰه 🌼
الرجاء دعمكم لمدونتى الشخصيه بزيارة و متابعة و تعليق
#بصمات_من_ياقوت_ومرجان
زيارتكم تُسعدني و متابعتكم تجعلني في قمة السعاده
جعلنا الله وإياكم أن شالله من أهل السعادة في الدارين
🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼🌼
هناك 10 تعليقات:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
يا سلام..رائع سيدي كالعادة كلام جميل ومن صميم الواقع..إنها إحدى الظواهر التي يزخر بها زماننها ظاهرة متسخة وممقوتة..وللأسف كثُرت جداً بالأخص هذا الوقت.
جزاكم الله خيرا.
راضية بديني.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه وسلم جزاك الله خير موضوع جميل يستحق النشر
بوركتم وحفظكم الله جهد مشكور
ربنا يجعلنا من المتعففين .. كل سنة وانت طيب يا استاذ فارس
عليه افضل الصلاه والسلام
كل عام وانتم بخير وسعاده
جزاك الله خيرا
جزاك الله خير
احسنت
رائع حقا
جزاكم الله خيراً رائع .. كل عام وأنتم بخير
إرسال تعليق